موسم الحج باب مفتوح على السماء. أكثر من مليوني مسلم يطوفون حول الكعبة ويقفون على جبل عرفات، ويزورون المقام النبوي في المدينة المنورة، والغاية في كل ذلك هي مرضاة الله وشفاعة نبيّه، والأجر الحسن لليوم الآخر.
وفي سابقة إعلامية روحية، توجهت "الأفكار" بأسئلة عن اليوم الآخر، والفردوس، إلى سماحة العلامة محمد حسين فضل الله، طلب منا أن نطرحها عليه عدد من الأصدقاء المثقفين. وكان السؤال الأول:
النظام العائلي في الحياة الآخرة
· هل هناك نظام يجمع العائلة في الآخرة؟
ـ إننا نستفيد من الآية الكريمة، أن الله يجمع الأسرة الصالحة {جنات عدنٍ يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد:23-24]، والآية الكريمة: {ربنا وأدخلهم جنات عدنٍ التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم} [غافر:8]، وربما توحي الآية الكريمة: {هم وأزواجهم في ظلالٍ على الآرائك متكئون} [يس:56]، بذلك، إذا أريد منها أزواجهم الذين كانوا معهم في الدنيا.
أما الأسرة غير الصالحة، فقد نستوحي اجتماعها في النار من قوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} [الصافات:22].
· هل يكون الأولاد تحت كنف والديهم، أم أن حياة جديدة لكل امرىء تنفتح أمامه آفاقها؟
ـ لم نجد في الكتاب والسنّة بأن هناك حياة أسرية بالمعنى المعروف في الدنيا من حيث الولاية الأبوية والتربية، ولكن قد يستوحي الإنسان من مناخ الجنة، أن ساكنيها يعيشون في اكتمال النموّ الطبيعي في أوضاعهم الحياتية، وفي النعيم الذي يتقلبون فيه، من دون أي جهد أو نقص في عناصر الشخصية بالدرجة التي يحتاجون فيها إلى الكفالة الوالدية، بل إن كل إنسان يعيش استقلاله الفردي، وإن عنصر النسب في معناه التنظيمي والقيمي ليس ملحوظاً بالشكل القانوني الذي كانوا عليه في الدنيا.
· هل يلتقي الزوجان في الآخرة، أم يكونان في حالة أخرى عما كانا عليه في الدنيا؟
ـ الظاهر من الآيات التي ذكرناها أنهما يلتقيان في اجتماعهما في الموقع الذي يوضعان فيه، ولكن ليس هناك أية تفاصيل حول الموضوع.
حال الإنسان الأخروي
* هل سيكون هناك عمل للإنسان في الآخرة؟ وهل يكون العمل حسب تخصص صاحبه في الدنيا؟
ـ إن عالم الآخرة في الجانب الفكري والعملي يختلف عن عالم الدنيا، فهذا العالم الذي نعيشه يحتاج إلى العمل الفكري لاكتشاف الحقيقة الكونية والإنسانية وتنمية النشاطات الإنتاجية والانفتاح على الإبداعات الفنية وما إلى ذلك مما يرتبط بحركة الإنسان والحياة في سلامة الواقع، أما عالم الآخرة، فهو عالمٌ لا يحتاج إلى ذلك كله، لأن الحقائق تنكشف للإنسان في كلِّ خصائصها، في مفرداتها الكلية والجزئية، أما النشاطات العملانية مما يتعلّق بحفظ الحياة وتنمية الثروة وإنتاج الأسلحة وحركة الصناعة والزراعة والأخذ بأسباب التربية والتعليم والسياسة والاجتماع، والتخطيط الاقتصادي، فهو أمر لا حاجة إليه، لأن المسألة هي أنه لا نقص ولا صراع ولا فقر ولا جهل في كلِّ ما يتصل ببلوغ الإنسان المستوى الذي يحقق له أحلامه ويسدُّ حاجاته {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة:17]كما جاء في القرآن الكريم. وفي بعض النصوص المأثورة في الحديث عن الجنة: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، وقد نستوحي من قوله تعالى: {إنّ أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون* هم وأزواجهم في ظلال على الآرائك متكئون* لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون* سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم} [يس:55-58]، أنهم مشغولون بالنعيم الذي لا شقاء فيه، والفرح الذي لا حزن معه، والراحة التي لا تعب فيها، في انفتاح على الفيوضات الإلهية، بما توحي به كلمة {سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم}، من كلِّ إيحاءات السعادة الروحية التي لا حدّ لها في تطلّعات الروح الإنساني، كما أن كلمة {ولهم ما يدّعون} توحي بأنّ كلّ أمنياتهم تتحقّق من دون أيِّ تأخير أو انتظار أو حاجة إلى تخطيط وتحضير وعمل، ولكن من الممكن جداً ـ وهذا من الطبيعي في أجواء الجنة ـ أن يجعلهم في عملية عبادة دائمة بالتسبيح والتكبير والتهليل والعيش مع الله في إخلاص العبودية وعظمة الربوبية.
وربما نجد في القرآن الكريم بعض الأجواء الحوارية التي قد تمثّل نوعاً من حركية العمل المجتمعي، فنقرأ عن الحوار بين أهل الجنة وأهل النار في قوله تعالى: {كل نفسٍ بما كسبت رهينة* إلا أصحاب اليمين* في جنات يتساءلون* عن المجرمين* ما سلككم في سقر* قالوا لم نكُ من المصلّين* ولم نكُ نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين* حتى أتانا اليقين} [المدثر:38-47]، وفي آية أخرى: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرّمهما على الكافرين* الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرّتهم الحياة الدنيا} [الأعراف:50-51]، وفي آية أخرى: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب* ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور* فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير} [الحديد:13-15].
وفي مشهد آخر، نرى المؤمنين والمؤمنات يتحركون في مسيرة أخروية {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم} [الحديد:12].
وهكذا نلاحظ أنّ مثل هذا المناخ الحواري يخلق حركية اجتماعية تُطِلُّ بالمؤمنين على الكافرين في عملية سؤال وحساب، على أساس إقامة الحجة، عليهم لأنهم استسلموا لأهوائهم في الدنيا وابتعدوا عن المسؤوليات التي حمّلهم الله إياها.
· هل تكون تقنيات الدنيا من كومبيوتر وإنترنت من مستحضرات الآخرة التي هي خير وأبقى؟
ـ قد لا يكون جوّ الآخرة بحاجة إلى تلك التقنيات التي تمثل الوسيلة للمعرفة في غوامض أسرارها وأبعادها، لأن الإنسان قد يكون في ذلك الواقع حاصلاً على ما يريد على مستوى المعرفة أو العمل، من دون حاجة إليها في هذا المجال، ولكننا ـ مع جهلنا لطبيعة ذلك العالم ـ لا نستبعد وجود مستحضرات بحسب النظام العام هناك بحسب إرادة الله في الواقع التنظيمي لحياة الجنة.
· هل سيكون للمسلم الحق في أربع زوجات، أم أن حسابات الآخرة غير حسابات الدنيا؟
ـ إن الآية القرآنية تقول: {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون* نزلاً من غفور رحيم} [فصّلت:31-32]. وفي ضوء ذلك، فإن مسألة الجنس هناك تابعة للحاجات الإنسانية بحسب الطبيعة الغريزية للإنسان، بحيث لا يشكو من حرمان في ذلك، ولكن ليس هناك أي تفصيل للمسألة، ولكن قد لا يشعر بالحاجة إلى هذا التعدد كما هو الشعور في عالم الدنيا.
* ثمّة آية تستوقفنا في سورة "الواقعة" وتقول: {يطوف عليهم ولدان مخلّدون* بأكواب وأباريق وكأسٍ من معين* لا يصدعون عنها ولا ينـزفون} [الواقعة:17-19]، فهل من شرح وتفصيل؟
ـ إن الآية تتحدَّث عن الخدمات الغذائية من طعام وشراب التي يقوم بها موظفون من الولدان المخلّدين الذين هم في المستوى العالي من الجمال {كأنهم لؤلؤٌ مكنون} [الطور:24] في صفائه ونقائه، أما كلمة {لا يصدّعون عنها} أي لا يصيبهم أي شيء من الصداع وغيره، على سبيل الكناية عن عدم وجود أي ضرر فيها {ولا ينـزفون} لا يفنى شرابهم.
* في الآية نفسها تتابع وصف مائدة المؤمن في الجنة بالآتي: {وفاكهة مما يتخيرون* ولحم طيرٍ مما يشتهون* وحور عين* كأمثال اللؤلؤ المكنون* جزاء بما كانوا يعملون} [الواقعة:20-24]، فهل من شرح لهذه الحوافز؟!
ـ {وفاكهة مما يتخيّرون} من أنواعها ممّا يختارونه تبعاً لمشتهياتهم {ولحم طير مما يشتهون} من أصناف لحوم الطير اللذيذة في ما يريدونه مما يحتاجونه من الغذاء القوي في بناء أجسامهم {وحور عين} من النساء اللاتي يتميّزن بالجمال لحسن عيونهن {كأمثال اللؤلؤ المكنون} أي اللؤلؤ المصون المخزون في الصدف الذي لم تمسه الأيدي، بما يوحيه ذلك من صفاء وإشراق، مع احتمال أن يكون ذلك كناية عن العذرية التي لم يفتضُّها أحد {جزاءً بما كانوا يعملون}، فليس ذلك مجرّد عطية مجانية، بل هو جزاء على أعمالهم الصالحة المنطلقة من روحية الإيمان بالله.
أعمار البشر وعذاب الآخرة!
· هل ستكون أعمار البشر مثلما هي أعمارهم في الدنيا؟ وهل سيثبتون على سنّ واحدة؟
ـ إن القرآن الكريم يتحدث عن الجنّة والنار، ولكنّه يتحدث عن سن معينة يتفاوت فيها الناس، بل الظاهر ـ والله العالم ـ أنهم يتساوون في السن، وقد ورد في بعض النصوص المأثورة أن كل أهل الجنة شباب وأنه ليس فيها أطفال وشيوخ وكهول.
* بعض المشايخ يخوِّفون الناس من عذاب الآخرة، ويتحدثون عن لحم يشوى، وبلاط جهنم، وسلخ جلد، وما عداه، يقابل ذلك آية كريمة تقول: {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً* فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنه كان تواباً} [سورة النصر]، ومعنى ذلك أن رحمة الله واسعة، فما هو ردّ سماحة العلامة؟
ـ إن هناك أكثر من آية تدل على العقاب الغليظ، ولكن ذلك كله بجميع أنواعه يمثل قانون الاستحقاق، بمعنى أن هؤلاء المعذّبين يستحقُّون العقاب على كفرهم وعصيانهم، ولكن رحمة الله تبقى في أجواء يوم القيامة، وذلك هو قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:48]، وقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون} [الشورى:25]، وقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف:156] وغيرها من الآيات الدالة على أن عالم الفعلية والتنفيذ قد ينفصل عن عالم الاستحقاق من خلال عفو الله ورحمته.
مجلة "الأفكار" 2 شباط 2004، العدد:1120/1121