لبنان هو قاعدة المخابرات الإقليمية والدولية في المنطقة

لبنان هو قاعدة المخابرات الإقليمية والدولية في المنطقة

كتب الحوار: حسين حمية

الأوضاع العامة في لبنان والمنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات في ظل التصعيد الحاصل سياسياً وأمنياً من الضاحية إلى الجنوب، وحتى اقتصادياً ومالياً... والسؤال الدائر حالياً هو: أين المفر وكيف يكون المستقرّ؟! وما هي آفاق المرحلة؟ وهل سنشهد بعض الانفراجات ولا سيما في لبنان، أم أن الأمر محكوم بمزيد من التأزم والعرقلة؟ وماذا عن لبنان والمرحلة المقبلة مع حصول الاستحقاق الرئاسي؟ وأين تكمن الحلول للأزمات التي تعصف بالبلد؟ وأين ذهب المال العام في ملف المهجرين؟

"الأفكار" حاورت في هذه الشؤون المرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله، داخل منـزله في حارة حريك، فوضع النقاط فوق الحروف، واستشرف آفاق المرحلة داخلياً وإقليمياً في لبنان وفلسطين والعراق، وتصدى بالتحليل المنطقي لبعض المظاهر الشاذة في لبنان، لا سيما الفساد الحاصل والإعلانات الفاضحة، معلّلاً الأسباب، وطارحاً الحلول من وجهة نظره كرجل دين منفتح على العصر، وكعالم مجتهد، انطلاقاً من الحديث القائل عن المجتهدين: "إذا أصابوا فلهم أجران وإذا أخطأوا فلهم أجر وثواب".

العملاء تغزو لبنان والمنطقة

* الحمد لله على سلامة الضاحية الجنوبية بعد حادث اغتيال الشهيد غالب عوالي بتفجير سيارته هناك ورحمة الله عليه. وهنا نسألكم: أما آن للضاحية أن تتخلّص من العملاء؟! فإن حادثاً مثل هذا يحتاج إلى عميل، إما بالإرشاد إلى مكان الرجل، أو بوضع العبوة شخصياً، أو بتفجير العبوة عن بعد؟!

ـ المسألة ليست مسألة الضاحية الجنوبية في قضية العملاء، لأن المنطقة كلها خاضعة لسياسة داخلية وخارجية تحاول أن تجعلها في حالة اهتزاز دائم. وقد قرأت مؤخراً كما قرأ الكثيرون، أنّ مسؤولاً أمريكياً يتحدث أن لدى المخابرات الأمريكية من العملاء في العراق ما يكفيها، بحيث إنها لا تحتاج إلى المزيد من العملاء هناك. ونحن نعرف أن إسرائيل تغتال القيادات والناشطين في فلسطين بواسطة العملاء، لكننا نتحدث عن المرحلة التي يعيشها لبنان أمام هذا التجاذب الذي يحكمه باعتباره قاعدة المخابرات الدولية والإقليمية في المنطقة، وباعتبار أن بعض القضايا الحيوية التي تتصل بمستقبل لبنان واللبنانيين ترتبط بقضايا المنطقة.

لذلك نحن ندعو اللبنانيين جميعاً، وليس فقط أبناء الضاحية، إلى أن يكون كل مواطن خفيراً، لأن لبنان يعيش الكثير من التناقضات بين حرية الفكر وحرية التعبير وحرية الفوضى السياسية، بالإضافة إلى بعض الكهوف والمغاور التي تحاول أن تحشر اللبنانيين في داخل ظلماتها. إن لبنان بحاجة إلى أن يستقر، وإن اللبنانيين جميعاً في المجتمع الأهلي والمجتمع الرسمي مسؤولون عن ضمانة هذا الاستقرار، بحيث لا يقتصر على الجوانب التقليدية في الجانب الأمني، بل أن يكون كل لبناني شخصاً أمنياً لمصلحة استقرار لبنان وأمنه من أجل اللبنانيين ومن أجل المنطقة.

فوضى السلاح في غزة

* ما جرى في الضاحية يتكرر في المناطق الفلسطينية ويبعث على الأسى والأسف، خصوصاً وأن الأمن قد أفلت من عقاله في قطاع غزة، وغرقت البلاد في الفوضى، وانتشر السلاح بكثرة في أيدي المواطنين، فكيف يحلل سماحة السيد صورة ما يجري في قطاع غزة؟

ـ إنني أتصور أن الساحة الفلسطينية تحفل بالكثير من التطورات الداخلية في تنظيم الوضع الفلسطيني على مستوى حركة السلطة إلى جانب حركة الفصائل الفلسطينية. إننا نعرف أن مشروع "شارون" في الانسحاب من غزة لا يمثل مجرد مشروع انسحابي، وإنما يمثل خطة متعددة الأبعاد والمواقف في مجمل القضية الفلسطينية، ولا سيما أن مسألة غزة تلامس المسألة المصرية من جهة ما يراد لمصر من التدخل الأمني بأي صورة من الصور، سواء في المحافظة على حدود غزة أمنياً من جهة مصر، أو في تبديد القلق المصري في ما يتصل بمستقبل غزة عندما يمسك الفلسطينيون بقيادتها، لأن غزة التي تلتقي فيها كل تيارات العالم العربي من اليمين إلى اليسار مروراً بالتيارات الإسلامية المتطرفة والمعتدلة، تمثل خطورة على الواقع الأمني المصري بحسب خطوط السياسة المصرية في معالجة هذه المفردات.

لذلك أعتقد أن ما حدث في غزة وما قد يحدث مستقبلاً، يعمل على أساس إيجاد حالة من الزلزال في داخل السلطة, وربما يتحدث البعض من المحللين السياسيين أن ما تحدث به "تيري رود لارسن" مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، يشير إلى ما كان ينتظره من حالة هذا الانهيار لأننا لم نلاحظ أن المسألة وصلت إلى حافة الانهيار، ولكنها تشير إلى وجود مناخ جديد يهز موقع السلطة في داخل المواقع الفلسطينية التي كانت السلطة تعتبر فيها الموقع الشرعي للشعب الفلسطيني. فالمسألة هي أن إسرائيل تعمل على أن تهزّ الموقع القيادي للرئيس عرفات، ولكن يبدو أن هناك تململاً داخلياً بالنسبة إلى هذا الموضوع، وإن لم يصل إلى حد الخطورة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن غزة التي ربما تنسحب منها إسرائيل، تتحرك نحو مستقبل يحاول أكثر من فريق أن يكون له موقع القوة المميز فيه، ولا سيما أن قضية المقاومة من خلال فصائل الانتفاضة تتحفز لتدرس كل ما يحدث في داخل غزّة من خلال خلفيات السلطة، ومن خلال الخطة الإسرائيلية الأمريكية أيضاً، ومن خلال بعض الألاعيب العربية من جهة أخرى. لذلك علينا أن نراقب غزة من الداخل والخارج، لأنها تشير إلى الخطة الموضوعة لفلسطين وإلى بعض المفردات في ما تريده أمريكا في بعض خطوط "خارطة الطريق".

قنابل مفخّخة ضد الأخلاق!

* في البلد يا سماحة السيد قنابل مفخّخة ضد أخلاق الناس وضد فضيلة اللبنانيين، سواء عبر الإعلانات الوقحة على الشواطىء، أو عبر إعلانات السجائر أو الثياب الداخلية الخ.. وكأننا قطعة من ولاية كاليفورنيا وعاصمتها هوليوود. والدور مناط في هذا الموضوع بالعلماء ورجال الدين، فهل من صدى لصوت سماحة السيد؟

ـ هناك فرق بيننا وبين كاليفورنيا أو غيرها، وهو أن هذا النوع من الحرية اللاأخلاقية هناك يرتكز على قاعدة فكرية فلسفية، وهي حرية الإنسان في جسده، وحرية الجنس، باعتبارها حالة فردية يملك الإنسان ممارستها بكل حرية، حتى أننا أصبحنا نجد في أوروبا وأمريكا الدعوة إلى الزواج المثلي، سواء زواج الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة، ليكون لكل واحد منهما الحقوق الزوجية كما حال الزواج الطبيعي بين الرجل والمرأة.

وهذا ينطلق من قاعدة الحرية الفردية التي لا تقف عند حدٍ إلا حدود ما يصطدم مع حرية الآخر. ولذلك أصبحت هذه الحرية جزءاً من الأخلاقية الغربية التي تعتمد هذه القاعدة. أما بالنسبة إلينا، فإن الحرية التي يمارسها الناس لا تنطلق من قاعدة أخلاقية بالمعنى الفكري لفلسفة حرية الإنسان في جسده، ولكن هناك جانباً كبيراً من حركة الحرية، وهو الجانب المادي الذي تستخدمه المافيات الإعلانية التي تحاول أن تجتذب المستهلك إلى ما تريد أن تعلنه بما يثير غرائزه وبما يجذبه إلى المشاهدة وما إلى ذلك.

هذا بالإضافة إلى فقدان التربية الأخلاقية، لأننا في الشرق لا نزال نضع الأخلاق لافتة على مواقعنا وفي حياتنا الاجتماعية. ولا يزال الكثيرون منا، حتى النخب، يمارسون غسل العار والدفاع عن الشرف وقتل المرأة الخاطئة التي تتكاثر حولها الشبهات، وإعفاء الرجل في ذلك على طريقة أبي العلاء المعري عندما جيء له بفرّوج، وهو النباتي، وكان في حالة مرضية، فسأل عنه، قيل له إن الطبيب وصف له الفروج لمعالجة وضعه الغذائي المرضي، فقال: استضعفوك فوصفوك.. هلا وصفوا شبل الأسد؟!

إنهم يستضعفون المرأة فيقتلونها. ونحن نعرف أن الشرف في الإسلام يخص كل شخص.. فالمرأة عندما تنحرف فإنها لا تلطّخ شرف العائلة، والرجل عندما ينحرف لا يلطخ شرف العائلة أيضاً، لأن شرف كل إنسان يخصه ولا يمتد للآخرين. لذلك فإن الذين يقتلون المرأة دفاعاً عن الشرف وفق قول الشاعر:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يُـراق على جوانبه الدم

هؤلاء لا يعيشون الشرف بمعناه الأصيل، لذلك نرى الكثير منهم، وفي غالب الأحيان، يحمون الذين يعتدون على شرف الأمة ويساعدون الذين يسقطون شرف الأمة من الخونة والجواسيس والمحتلين وما إلى ذلك.. فهؤلاء يتحركون بعقلية جاهلية وإن كان بعضهم يحمل أعلى الشهادات الجامعية. لذلك نعتقد أن هذا الانفلات الأخلاقي إلى جانب التجارة الإعلانية، ينطلق أيضاً من عدم التربية الأخلاقية في البيت وفي المدرسة وفي المجتمعات كلها، ونحن ندعو إلى ثورة تربوية أخلاقية معاصرة، بحيث تتجاوز التقاليد التي يستعملها الوعاظ والمرشدون من دون أي نبضة روح تنتقل إلى الجيل الجديد لنرتفع بالجانب الأخلاقي إلى مستوى القيمة التي تتصل بكل أنواع الحياة التي يعيشها هو.

اللحم العاري وصرخة الأب مونّس

* هناك فتيات لبنانيات وعربيات يملأن الفنادق في سن الفيل ووسط بيروت وغيرهما، ويسميهم الأب يوسف مونس باللحم المعروض للبيع، ويستنجد بالعلماء ورجال الدين، فكيف هي النجدة عند سماحة السيد؟

ـ أعتقد أن المسألة لا يمكن أن تحلَّ الآن بالأساليب الوعظية التقليدية، لأن قضية اللحم العاري هي قضية تتصل بذهنية العامة التي أصبح العصر يثيرها في أكثر مواقعنا، حتى إننا نلاحظ أن المدارس لا تشترط على الطالبات ثياباً معينة محتشمة، بل أصبحت في كثير من أوضاعها ساحة لهذا النوع من أنواع الانفلات الأخلاقي والجنسي، ولا سيما أن هناك دعوات كثيرة للحرية الجنسية مما يأتينا في الأفلام والروايات وفي الواقع الذي نعيشه في هذا المجال. لذلك أتصوّر أن القضية هي أنه على المدرسة أن تنضم إلى المسجد والكنيسة وعلى المسجد والكنيسة، أن ينضما إلى النوادي الثقافية والاجتماعية، لأن الخطورة التي قد تنشأ من خلال ذلك، ربما تجعل المجتمع يعيش ازدواجية تنفتح على الكثير من التناقضات، خصوصاً وأن المجتمع يعيش بين أخلاقية هنا ولا أخلاقية هناك، الأمر الذي قد يثير الكثير من المشاكل الاجتماعية وربما المشاكل الأمنية في هذا المجال.

اللهو بالتمديد وعدم التمديد

* يغرقوننا في مأساة الضائقة المعيشية والجيوب الخاوية من السيولة، ويلهوننا بالتمديد وعدم التمديد، وكأن الموضوع أصبح الخبز اليومي، ويربطون هذا الخبز بالفرن الأمريكي، وكأن التغيير الذي يطلبه الرئيس "جورج بوش" يمر من معركة الرئاسة اللبنانية. فكيف يواجه سماحة السيد هذا الاستحقاق وهذه الملابسات؟

ـ إنني أتصوّر أن المسائل التي نعيشها ليس للخارج أي علاقة بها بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن أي خارج، سواء كان دولياً أو إقليمياً، لا يمكن أن ينفذ إلى أي بلد إلا من خلال الثغرات المفتوحة في هذا البلد، أو من خلال هذا المعسكر أو ذاك، أو من خلال هذه الجهة أن تلك.. فالمسألة أننا في هذا البلد نحاول دائماً أن نضع كل مشاكلنا على عاتق الخارج.. فالكثيرون منا يضعون مشاكل لبنان على عاتق أمريكا، باعتبار أن السياسة الأمريكية تريد أن تنفذ إلى المنطقة كلها من خلال ما يتحدثون عنه من القيم الأمريكية، يحاول الرئيس "بوش" أن يقوم بتسويقها ويصور نفسه نبياً لهذه القيم اختاره الله لإصلاح العالم. ولذلك قدم مشروع الشرق الأوسط الكبير من خلال هذه الذهنية البروتستانتية الصهيونية التي آمن بها أو سار معها.

ونحن نعرف أن الأمريكيين لا يملكون أن ينفذوا إلى واقع الناس إذا لم يفتح الناس عقولهم لما يرددونه من بعض المفاهيم هنا أو هناك. وهكذا يرى بعض اللبنانيين أن المشكلة هي في الواقع الإقليمي الذي يتدخل في شؤون اللبنانيين وما إلى ذلك، لكن لدينا تصوراً بأن الذين يصنعون مشكلة لبنان هم اللبنانيون أنفسهم. فهناك فريق جعل من نفسه موقع دفاع عن السياسة الأمريكية، وهناك فريق جعل من نفسه موقع دفاع عن بعض المواقع الإقليمية بالمستوى الذي يزايد فيه حتى على المعلمين الذين يعلمونه كيف يحرك هذا الخط أو ذاك.

لذلك فالمسألة هي أن الاستحقاق الرئاسي يقوم به مجلس النواب الذي انتخبه اللبنانيون حسب قانون الانتخاب الذي صوّت المجلس النيابي عليه وأقرّته الحكومة هنا وهناك، سواء كان الذين أشرفوا عليه أو وقّعوا عليه من المعارضين أو من الموالين، لأن الجميع اشتركوا في ذلك. فالمجلس النيابي انتخبه الشعب اللبناني بكل تناقضاته وعصبياته، وبكلِّ حزبياته ونفعيّاته، وبكل تخلّفه وما إلى ذلك. فهل نريد أن يأتي شعب آخر أو أن يأتي المغتربون اللبنانيون الذين يعيشون في المهاجر حتى يجسدوا لنا لبنان الجديد، وهل نريد أن نأتي بفصيل آخر غير الذين يشرفون على الحكم وعلى المجلس النيابي؟! نحن لا ننكر أن الأوضاع اللبنانية الممتدة في أوضاع المنطقة كلها تخضع لكثير من المداخلات الدولية والإقليمية، ولا سيما أن لبنان يعتبر القاعدة الكبيرة للمخابرات الدولية في المنطقة، حيث تلتقي فيه المخابرات الدولية والمخابرات العربية التي قد ترتبط بها المخابرات المحلية، سواء كانت مخابرات حزبية أو مخابرات رسمية.

ولهذا فمن الطبيعي أن تتدخّل كل الدول التي لها مصلحة في المفردات اللبنانية، لكن المسألة هي أنه لا يملك أحد أن يتدخل في لبنان بعيداً عن اللبنانيين. فنحن نعرف أن هناك حديثاً في لبنان عن مسألة الوفاق الوطني، وإنني أتساءل: إن كل اللبنانيين من معارضة ومن موالاة يلتقون ويجتمعون في الموائد والمناسبات الاجتماعية والسياسية ويرفعون الصوت عالياً: لا وفاق.. لا وحدة وطنية.. فلماذا لا يتحدّثون بالأرقام؟ فهناك حديث أن المسيحيين محبطون ومحرومون، ولكني لم أقرأ قائمة واحدة بالتفاصيل في حقوق المسيحيين التي انتهكت، وهناك اتهام للمسلمين ببعض الأمور السلبية في لبنان، سواء ما يعني السنة أو الشيعة، وهناك حديث عن الخطر الشيعي وعن الثنائية السنية المارونية وما إلى ذلك، لكن لم يتحدث أحد ـ حسب معلوماتي ـ عن وضع النقاط على الحروف فيها. إن هناك كلاماً ضبابياً يتحدث عن الإحباط وعن الحرمان وعن الخطر من دون أن يكون هناك أي تفاصيل. وأقول إن هؤلاء الذين يجتمعون في مؤتمرات البذخ الفاخر والحلويات اللذيذة، لماذا لا يجتمعون في مؤتمر وطني يضعون فيه النقاط على الحروف ويتحدثون بصراحة ولا يتركون الناس في متاهات وفرضيات؟ نحن تابعنا كلبنانيين الاستحقاقات النيابية الفرعية والعامة والاستحقاقات البلدية، وتابعنا المعارضين كيف يديرون معاركهم وكذلك تابعنا الموالين، ولم نسمع كلمة عن البرامج التي تنقذ لبنان من مأزقه. كما لم نسمع أحداً يحاسب كل هؤلاء، بل سمعنا الكثير من إثارة الغرائز؛ الغرائز الطائفية والغرائز المناطقية هنا وهناك، حتى إننا لم نسمع من يتحدث عن كرامة لبنان، بل سمعنا أحداً يتحدث عن كرامة نفسه وعن كرامة الجنوب والبقاع والجبل والشمال وما إلى ذلك، لأن كلمة لبنان ليست واردة عنده.

الضائقة المعيشية وعفاريت الملفات

أما قضية القضايا وهي المسألة المعيشية، فإنني لا أرى دولةً في لبنان، بل هناك شكل الدولة.. فليس هناك مؤسسة، لأن المؤسسة فوق الأشخاص، ولكن الأشخاص في لبنان فوق الدولة، وإذا اتفقوا سارت الأمور من دون "هزة بدن"، كما في الكلام الشعبي، وإذا اختلفوا عمّت الفوضى.. فنحن نعرف أن كل الملفات التي فتحت لم تغلق لأنّ ما في داخلها وجد الحل وإنما أغلقت لأن هناك الكثير من العفاريت التي تختفي في هذا الملف أو ذاك.. العفاريت الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، التي إذا لم تخرج من الملف تخلق أكثر من مشكلة. ولذلك فإن مسألة الهدر والفساد واللصوصية وما إلى ذلك تنطلق بعيداً لئلا يكتشفها أحد.. فالمسألة هي أن طريقة الدولة في معالجة الواقع أفسدت الشعب، وعندما يعيش الشعب الفساد، فإنه يشترك مع الدولة في إفساد الأرض كلها.

مواصفات الرئيس

* يتنافس الكثيرون على وضع المواصفات لرئيس الجمهورية المقبل، فهل عند سماحة السيد صفة واحدة يمكن أن تغني عن كل الاعتبارات؟

ـ إن الوصف الوحيد لكل مسؤول هو أن يعيش مسؤوليته عن كل موقعه وعن كل شعبه بالصدق والأمانة والجدية، وألاّ يعيش لنفسه ولا لعائلته ولا لفريقه.. فالمشكلة هي أن الشخص في كثير من النماذج ـ ولا أتحدث عن الشمولية هنا ـ يدخل ملاكاً ويخرج شيطاناً بحسب درجات الشيطنة التي تسمح بها الأوضاع.

* اجتمع سماحة السيد بالرئيس نبيه بري، فهل معنى ذلك تحييده عن أي اتهام موجه لأهل الحكم؟

ـ إنني عندما ألتقي أي مسؤول، فإن مسؤوليتي هي أنني أتحدث معه بالقيم التي تتفق مع هذه المسؤولية، سواء القيم الإنسانية أو الروحية أو الأخلاقية، وحدود مسؤوليتي هي أن أكون الناصح، وأنا لم أتحدث عن أي تفاصيل أو مفردات استهلاكية مع أحد من المسؤولين.

* هل يرى سماحة السيد أن الطبقة السياسية في لبنان قد سقطت عن بكرة أبيها، أم أن هناك أملاً في بعض القيادات وأن اليأس لا يجب أن يقتلنا؟

ـ إنني لا أؤمن باليأس، لأنني أؤمن بالإنسان وبأنه قادر على أن يتغير، لكن المشكلة هي أن الناس لا يحاسبون، وهم ينتقدون الطبقة السياسية ويصفقون لها، تماماً كما هو المجلس النيابي في جلسات الثقة عندما يرجم الحكومة حتى على مستوى القيادة ثم يصوت لها بالثقة، فالثقة في لبنان ديكور وليست موقفاً، ولذلك تعلم الكثير من السياسيين الذين ربطت مصالح الناس بهم حتى في القضايا الصغيرة، تعلموا أن الشعب لا يحاسبهم، وأنه سوف ينتخبهم ويساعدهم ويقاتل معهم، لأنه يأمل من هذا خدمة ومن ذاك خدمة، ونحن نعرف أن هناك ذهنية عند الكثيرين من اللبنانيين، أنّهم ينتخبون الشخص لأنه يحضر أحزانهم وأفراحهم، أو لأنه يعمر لهذه البلدة كنيسة أو جامعاً ولكن أن يعمر لهذا البلد مستقبلاً، فهذا ما لم يتعوّد الناس التفكير به.

المال الضائع في صندوق المهجرين

* الفساد يستشري في كل بقعة من لبنان، وكنتم قد أنذرتم في جويا الجنوبية يوم الأحد الماضي، ولكن يا سماحة السيد، الكل يشخص المرض ولا يرسم الحل، فما هو الدواء ومن أي صيدلية نأتي به؟

ـ المشكلة أكبر من الحلّ، لأن هناك أخطبوطاً يحاول أن يلتف بكل أذرعه الكثيرة على كل محاولة للحل، فقد تناولت مسألة أننا جميعاً نتحدث عن الهدر ونتحدث عن عدم احترام المال العام، ونحن نشعر أن المجتمع الأهلي يقوم بهدر المال العام بما في ذلك الشخصيات والأحزاب السياسية.

* كيـف؟

ـ عندما انطلقت مسألة المهجرين، وأعلنت الحكومة أنها سوف تدفع للمهجرين الذين يحتلون بيوت الغير، رأينا الفعاليات السياسية والحزبية تسجل في البيت الذي يسكنه مهجر واحد عشرين مهجراً من جماعتها ليقبضوا من أموال المهجرين. ولذلك لاحظنا أن هناك حوتاً يبتلع كل أموال المهجرين بهذا الهدر وبهذا الفساد الذي يقوم به الذين يرجمون الفساد بالحجارة السياسية، حتى إنه لم تعد هناك شراكة بين الكبار والصغار.

وكذلك هناك مشكلة الكهرباء، ونحن نعرف أن هناك مغاور وكهوف من الأعلى إلى الأسفل، ونعرف أن أغلب الناس يستهلكون الكهرباء من دون دفع أي مقابل للشركة، وإذا كان الناس يتحدثون عن الواقع الفاسد، فإن حل المشكلة المعيشية لا يكون بهذه الطريقة، لأن هذا التصرف في سرقة الكهرباء يجعل الناس يعيشون في ظلام. ونحن نتحدث في هذه الأيام كيف لنا أن نقلّل من التقنين، كما الحديث عن مناطق أبناء الست وأبناء الجارية ومناطق الاصطياف، وبذلك نحن كمجتمع أهلي نشارك في المشكلة. فمن الذي كان يستعمل شركات الاتصالات الدولية أيضاً؟ فالكثير من الذين يرتبطون بهذه الجهة أو تلك فعلوا ذلك.

* وهل الأحزاب تشارك؟

ـ أعتقد أن الهدر العام شاركت فيه الكثير من شخصيات الإدارة ومن الشخصيات السياسية والحزبية.

نظرة على العراق

* السلطة الجديدة في العراق لم توقف الانهيار الأمني، بل زادته اشتعالاً، وهناك اتهام لبلدان مجاورة للعراق بتأجيج المقاومة كما نسميها نحن، والإرهاب كما يسميها الإعلام الغربي. فكيف يقرأ سماحة السيد العراق في صورته المستقبلية؟

ـ أعتقد أنه ما دام الأمريكيون يحتلّون العراق، فمن الصعب أن يستقر الأمن فيه، لأن العراق أصبح باعتراف الإدارة الأمريكية الساحة الجديدة للحرب ضد الإرهاب، فقد كان في العراق إرهابي واحد وهو الطاغية صدام حسين بكل أجهزته، لكن أصبح العراق الساحة التي تجتمع فيها كل عناصر العنف الموجهة ضد أمريكا في العالم. ولذلك فمن الصعب جداً أن يستقر العراق ما دامت القوات الأمريكية فيه. ونحن نعرف أن أمريكا سوف تُبقي جيشها في العراق إضافة إلى جيوش حلفائها من أجل تنفيذ خطتها في رعاية مصالحها في المنطقة ليكون العراق جسراً للمنطقة..

وفي ضوء هذا، لا أعتقد أن الدول المجاورة للعراق ـ كما يتحدث البعض ـ هي التي تثير أعمال العنف، ولكننا نعرف أيضاً أن هذه الدول تماماً كما حال أمريكا، تحاول حماية نفسها مما يجاورها، وما يجاورها الآن هو الاحتلال الأمريكي للعراق الذي تحول إلى لافتة عراقية، ومن الطبيعي أن تحمي نفسها. ولا أتصور أن السوريين مثلاً مستعدون لأن تكون قواهم الأمنية في حماية الاحتلال، وكذلك موقف الإيرانيين والسعوديين وغيرهم.

مجلة "الأفكار": 8 جماد الثاني 1425 هـ الموافق في 26 تموز - يوليو  2004 م

كتب الحوار: حسين حمية

الأوضاع العامة في لبنان والمنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات في ظل التصعيد الحاصل سياسياً وأمنياً من الضاحية إلى الجنوب، وحتى اقتصادياً ومالياً... والسؤال الدائر حالياً هو: أين المفر وكيف يكون المستقرّ؟! وما هي آفاق المرحلة؟ وهل سنشهد بعض الانفراجات ولا سيما في لبنان، أم أن الأمر محكوم بمزيد من التأزم والعرقلة؟ وماذا عن لبنان والمرحلة المقبلة مع حصول الاستحقاق الرئاسي؟ وأين تكمن الحلول للأزمات التي تعصف بالبلد؟ وأين ذهب المال العام في ملف المهجرين؟

"الأفكار" حاورت في هذه الشؤون المرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله، داخل منـزله في حارة حريك، فوضع النقاط فوق الحروف، واستشرف آفاق المرحلة داخلياً وإقليمياً في لبنان وفلسطين والعراق، وتصدى بالتحليل المنطقي لبعض المظاهر الشاذة في لبنان، لا سيما الفساد الحاصل والإعلانات الفاضحة، معلّلاً الأسباب، وطارحاً الحلول من وجهة نظره كرجل دين منفتح على العصر، وكعالم مجتهد، انطلاقاً من الحديث القائل عن المجتهدين: "إذا أصابوا فلهم أجران وإذا أخطأوا فلهم أجر وثواب".

العملاء تغزو لبنان والمنطقة

* الحمد لله على سلامة الضاحية الجنوبية بعد حادث اغتيال الشهيد غالب عوالي بتفجير سيارته هناك ورحمة الله عليه. وهنا نسألكم: أما آن للضاحية أن تتخلّص من العملاء؟! فإن حادثاً مثل هذا يحتاج إلى عميل، إما بالإرشاد إلى مكان الرجل، أو بوضع العبوة شخصياً، أو بتفجير العبوة عن بعد؟!

ـ المسألة ليست مسألة الضاحية الجنوبية في قضية العملاء، لأن المنطقة كلها خاضعة لسياسة داخلية وخارجية تحاول أن تجعلها في حالة اهتزاز دائم. وقد قرأت مؤخراً كما قرأ الكثيرون، أنّ مسؤولاً أمريكياً يتحدث أن لدى المخابرات الأمريكية من العملاء في العراق ما يكفيها، بحيث إنها لا تحتاج إلى المزيد من العملاء هناك. ونحن نعرف أن إسرائيل تغتال القيادات والناشطين في فلسطين بواسطة العملاء، لكننا نتحدث عن المرحلة التي يعيشها لبنان أمام هذا التجاذب الذي يحكمه باعتباره قاعدة المخابرات الدولية والإقليمية في المنطقة، وباعتبار أن بعض القضايا الحيوية التي تتصل بمستقبل لبنان واللبنانيين ترتبط بقضايا المنطقة.

لذلك نحن ندعو اللبنانيين جميعاً، وليس فقط أبناء الضاحية، إلى أن يكون كل مواطن خفيراً، لأن لبنان يعيش الكثير من التناقضات بين حرية الفكر وحرية التعبير وحرية الفوضى السياسية، بالإضافة إلى بعض الكهوف والمغاور التي تحاول أن تحشر اللبنانيين في داخل ظلماتها. إن لبنان بحاجة إلى أن يستقر، وإن اللبنانيين جميعاً في المجتمع الأهلي والمجتمع الرسمي مسؤولون عن ضمانة هذا الاستقرار، بحيث لا يقتصر على الجوانب التقليدية في الجانب الأمني، بل أن يكون كل لبناني شخصاً أمنياً لمصلحة استقرار لبنان وأمنه من أجل اللبنانيين ومن أجل المنطقة.

فوضى السلاح في غزة

* ما جرى في الضاحية يتكرر في المناطق الفلسطينية ويبعث على الأسى والأسف، خصوصاً وأن الأمن قد أفلت من عقاله في قطاع غزة، وغرقت البلاد في الفوضى، وانتشر السلاح بكثرة في أيدي المواطنين، فكيف يحلل سماحة السيد صورة ما يجري في قطاع غزة؟

ـ إنني أتصور أن الساحة الفلسطينية تحفل بالكثير من التطورات الداخلية في تنظيم الوضع الفلسطيني على مستوى حركة السلطة إلى جانب حركة الفصائل الفلسطينية. إننا نعرف أن مشروع "شارون" في الانسحاب من غزة لا يمثل مجرد مشروع انسحابي، وإنما يمثل خطة متعددة الأبعاد والمواقف في مجمل القضية الفلسطينية، ولا سيما أن مسألة غزة تلامس المسألة المصرية من جهة ما يراد لمصر من التدخل الأمني بأي صورة من الصور، سواء في المحافظة على حدود غزة أمنياً من جهة مصر، أو في تبديد القلق المصري في ما يتصل بمستقبل غزة عندما يمسك الفلسطينيون بقيادتها، لأن غزة التي تلتقي فيها كل تيارات العالم العربي من اليمين إلى اليسار مروراً بالتيارات الإسلامية المتطرفة والمعتدلة، تمثل خطورة على الواقع الأمني المصري بحسب خطوط السياسة المصرية في معالجة هذه المفردات.

لذلك أعتقد أن ما حدث في غزة وما قد يحدث مستقبلاً، يعمل على أساس إيجاد حالة من الزلزال في داخل السلطة, وربما يتحدث البعض من المحللين السياسيين أن ما تحدث به "تيري رود لارسن" مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، يشير إلى ما كان ينتظره من حالة هذا الانهيار لأننا لم نلاحظ أن المسألة وصلت إلى حافة الانهيار، ولكنها تشير إلى وجود مناخ جديد يهز موقع السلطة في داخل المواقع الفلسطينية التي كانت السلطة تعتبر فيها الموقع الشرعي للشعب الفلسطيني. فالمسألة هي أن إسرائيل تعمل على أن تهزّ الموقع القيادي للرئيس عرفات، ولكن يبدو أن هناك تململاً داخلياً بالنسبة إلى هذا الموضوع، وإن لم يصل إلى حد الخطورة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن غزة التي ربما تنسحب منها إسرائيل، تتحرك نحو مستقبل يحاول أكثر من فريق أن يكون له موقع القوة المميز فيه، ولا سيما أن قضية المقاومة من خلال فصائل الانتفاضة تتحفز لتدرس كل ما يحدث في داخل غزّة من خلال خلفيات السلطة، ومن خلال الخطة الإسرائيلية الأمريكية أيضاً، ومن خلال بعض الألاعيب العربية من جهة أخرى. لذلك علينا أن نراقب غزة من الداخل والخارج، لأنها تشير إلى الخطة الموضوعة لفلسطين وإلى بعض المفردات في ما تريده أمريكا في بعض خطوط "خارطة الطريق".

قنابل مفخّخة ضد الأخلاق!

* في البلد يا سماحة السيد قنابل مفخّخة ضد أخلاق الناس وضد فضيلة اللبنانيين، سواء عبر الإعلانات الوقحة على الشواطىء، أو عبر إعلانات السجائر أو الثياب الداخلية الخ.. وكأننا قطعة من ولاية كاليفورنيا وعاصمتها هوليوود. والدور مناط في هذا الموضوع بالعلماء ورجال الدين، فهل من صدى لصوت سماحة السيد؟

ـ هناك فرق بيننا وبين كاليفورنيا أو غيرها، وهو أن هذا النوع من الحرية اللاأخلاقية هناك يرتكز على قاعدة فكرية فلسفية، وهي حرية الإنسان في جسده، وحرية الجنس، باعتبارها حالة فردية يملك الإنسان ممارستها بكل حرية، حتى أننا أصبحنا نجد في أوروبا وأمريكا الدعوة إلى الزواج المثلي، سواء زواج الرجل بالرجل أو المرأة بالمرأة، ليكون لكل واحد منهما الحقوق الزوجية كما حال الزواج الطبيعي بين الرجل والمرأة.

وهذا ينطلق من قاعدة الحرية الفردية التي لا تقف عند حدٍ إلا حدود ما يصطدم مع حرية الآخر. ولذلك أصبحت هذه الحرية جزءاً من الأخلاقية الغربية التي تعتمد هذه القاعدة. أما بالنسبة إلينا، فإن الحرية التي يمارسها الناس لا تنطلق من قاعدة أخلاقية بالمعنى الفكري لفلسفة حرية الإنسان في جسده، ولكن هناك جانباً كبيراً من حركة الحرية، وهو الجانب المادي الذي تستخدمه المافيات الإعلانية التي تحاول أن تجتذب المستهلك إلى ما تريد أن تعلنه بما يثير غرائزه وبما يجذبه إلى المشاهدة وما إلى ذلك.

هذا بالإضافة إلى فقدان التربية الأخلاقية، لأننا في الشرق لا نزال نضع الأخلاق لافتة على مواقعنا وفي حياتنا الاجتماعية. ولا يزال الكثيرون منا، حتى النخب، يمارسون غسل العار والدفاع عن الشرف وقتل المرأة الخاطئة التي تتكاثر حولها الشبهات، وإعفاء الرجل في ذلك على طريقة أبي العلاء المعري عندما جيء له بفرّوج، وهو النباتي، وكان في حالة مرضية، فسأل عنه، قيل له إن الطبيب وصف له الفروج لمعالجة وضعه الغذائي المرضي، فقال: استضعفوك فوصفوك.. هلا وصفوا شبل الأسد؟!

إنهم يستضعفون المرأة فيقتلونها. ونحن نعرف أن الشرف في الإسلام يخص كل شخص.. فالمرأة عندما تنحرف فإنها لا تلطّخ شرف العائلة، والرجل عندما ينحرف لا يلطخ شرف العائلة أيضاً، لأن شرف كل إنسان يخصه ولا يمتد للآخرين. لذلك فإن الذين يقتلون المرأة دفاعاً عن الشرف وفق قول الشاعر:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يُـراق على جوانبه الدم

هؤلاء لا يعيشون الشرف بمعناه الأصيل، لذلك نرى الكثير منهم، وفي غالب الأحيان، يحمون الذين يعتدون على شرف الأمة ويساعدون الذين يسقطون شرف الأمة من الخونة والجواسيس والمحتلين وما إلى ذلك.. فهؤلاء يتحركون بعقلية جاهلية وإن كان بعضهم يحمل أعلى الشهادات الجامعية. لذلك نعتقد أن هذا الانفلات الأخلاقي إلى جانب التجارة الإعلانية، ينطلق أيضاً من عدم التربية الأخلاقية في البيت وفي المدرسة وفي المجتمعات كلها، ونحن ندعو إلى ثورة تربوية أخلاقية معاصرة، بحيث تتجاوز التقاليد التي يستعملها الوعاظ والمرشدون من دون أي نبضة روح تنتقل إلى الجيل الجديد لنرتفع بالجانب الأخلاقي إلى مستوى القيمة التي تتصل بكل أنواع الحياة التي يعيشها هو.

اللحم العاري وصرخة الأب مونّس

* هناك فتيات لبنانيات وعربيات يملأن الفنادق في سن الفيل ووسط بيروت وغيرهما، ويسميهم الأب يوسف مونس باللحم المعروض للبيع، ويستنجد بالعلماء ورجال الدين، فكيف هي النجدة عند سماحة السيد؟

ـ أعتقد أن المسألة لا يمكن أن تحلَّ الآن بالأساليب الوعظية التقليدية، لأن قضية اللحم العاري هي قضية تتصل بذهنية العامة التي أصبح العصر يثيرها في أكثر مواقعنا، حتى إننا نلاحظ أن المدارس لا تشترط على الطالبات ثياباً معينة محتشمة، بل أصبحت في كثير من أوضاعها ساحة لهذا النوع من أنواع الانفلات الأخلاقي والجنسي، ولا سيما أن هناك دعوات كثيرة للحرية الجنسية مما يأتينا في الأفلام والروايات وفي الواقع الذي نعيشه في هذا المجال. لذلك أتصوّر أن القضية هي أنه على المدرسة أن تنضم إلى المسجد والكنيسة وعلى المسجد والكنيسة، أن ينضما إلى النوادي الثقافية والاجتماعية، لأن الخطورة التي قد تنشأ من خلال ذلك، ربما تجعل المجتمع يعيش ازدواجية تنفتح على الكثير من التناقضات، خصوصاً وأن المجتمع يعيش بين أخلاقية هنا ولا أخلاقية هناك، الأمر الذي قد يثير الكثير من المشاكل الاجتماعية وربما المشاكل الأمنية في هذا المجال.

اللهو بالتمديد وعدم التمديد

* يغرقوننا في مأساة الضائقة المعيشية والجيوب الخاوية من السيولة، ويلهوننا بالتمديد وعدم التمديد، وكأن الموضوع أصبح الخبز اليومي، ويربطون هذا الخبز بالفرن الأمريكي، وكأن التغيير الذي يطلبه الرئيس "جورج بوش" يمر من معركة الرئاسة اللبنانية. فكيف يواجه سماحة السيد هذا الاستحقاق وهذه الملابسات؟

ـ إنني أتصوّر أن المسائل التي نعيشها ليس للخارج أي علاقة بها بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن أي خارج، سواء كان دولياً أو إقليمياً، لا يمكن أن ينفذ إلى أي بلد إلا من خلال الثغرات المفتوحة في هذا البلد، أو من خلال هذا المعسكر أو ذاك، أو من خلال هذه الجهة أن تلك.. فالمسألة أننا في هذا البلد نحاول دائماً أن نضع كل مشاكلنا على عاتق الخارج.. فالكثيرون منا يضعون مشاكل لبنان على عاتق أمريكا، باعتبار أن السياسة الأمريكية تريد أن تنفذ إلى المنطقة كلها من خلال ما يتحدثون عنه من القيم الأمريكية، يحاول الرئيس "بوش" أن يقوم بتسويقها ويصور نفسه نبياً لهذه القيم اختاره الله لإصلاح العالم. ولذلك قدم مشروع الشرق الأوسط الكبير من خلال هذه الذهنية البروتستانتية الصهيونية التي آمن بها أو سار معها.

ونحن نعرف أن الأمريكيين لا يملكون أن ينفذوا إلى واقع الناس إذا لم يفتح الناس عقولهم لما يرددونه من بعض المفاهيم هنا أو هناك. وهكذا يرى بعض اللبنانيين أن المشكلة هي في الواقع الإقليمي الذي يتدخل في شؤون اللبنانيين وما إلى ذلك، لكن لدينا تصوراً بأن الذين يصنعون مشكلة لبنان هم اللبنانيون أنفسهم. فهناك فريق جعل من نفسه موقع دفاع عن السياسة الأمريكية، وهناك فريق جعل من نفسه موقع دفاع عن بعض المواقع الإقليمية بالمستوى الذي يزايد فيه حتى على المعلمين الذين يعلمونه كيف يحرك هذا الخط أو ذاك.

لذلك فالمسألة هي أن الاستحقاق الرئاسي يقوم به مجلس النواب الذي انتخبه اللبنانيون حسب قانون الانتخاب الذي صوّت المجلس النيابي عليه وأقرّته الحكومة هنا وهناك، سواء كان الذين أشرفوا عليه أو وقّعوا عليه من المعارضين أو من الموالين، لأن الجميع اشتركوا في ذلك. فالمجلس النيابي انتخبه الشعب اللبناني بكل تناقضاته وعصبياته، وبكلِّ حزبياته ونفعيّاته، وبكل تخلّفه وما إلى ذلك. فهل نريد أن يأتي شعب آخر أو أن يأتي المغتربون اللبنانيون الذين يعيشون في المهاجر حتى يجسدوا لنا لبنان الجديد، وهل نريد أن نأتي بفصيل آخر غير الذين يشرفون على الحكم وعلى المجلس النيابي؟! نحن لا ننكر أن الأوضاع اللبنانية الممتدة في أوضاع المنطقة كلها تخضع لكثير من المداخلات الدولية والإقليمية، ولا سيما أن لبنان يعتبر القاعدة الكبيرة للمخابرات الدولية في المنطقة، حيث تلتقي فيه المخابرات الدولية والمخابرات العربية التي قد ترتبط بها المخابرات المحلية، سواء كانت مخابرات حزبية أو مخابرات رسمية.

ولهذا فمن الطبيعي أن تتدخّل كل الدول التي لها مصلحة في المفردات اللبنانية، لكن المسألة هي أنه لا يملك أحد أن يتدخل في لبنان بعيداً عن اللبنانيين. فنحن نعرف أن هناك حديثاً في لبنان عن مسألة الوفاق الوطني، وإنني أتساءل: إن كل اللبنانيين من معارضة ومن موالاة يلتقون ويجتمعون في الموائد والمناسبات الاجتماعية والسياسية ويرفعون الصوت عالياً: لا وفاق.. لا وحدة وطنية.. فلماذا لا يتحدّثون بالأرقام؟ فهناك حديث أن المسيحيين محبطون ومحرومون، ولكني لم أقرأ قائمة واحدة بالتفاصيل في حقوق المسيحيين التي انتهكت، وهناك اتهام للمسلمين ببعض الأمور السلبية في لبنان، سواء ما يعني السنة أو الشيعة، وهناك حديث عن الخطر الشيعي وعن الثنائية السنية المارونية وما إلى ذلك، لكن لم يتحدث أحد ـ حسب معلوماتي ـ عن وضع النقاط على الحروف فيها. إن هناك كلاماً ضبابياً يتحدث عن الإحباط وعن الحرمان وعن الخطر من دون أن يكون هناك أي تفاصيل. وأقول إن هؤلاء الذين يجتمعون في مؤتمرات البذخ الفاخر والحلويات اللذيذة، لماذا لا يجتمعون في مؤتمر وطني يضعون فيه النقاط على الحروف ويتحدثون بصراحة ولا يتركون الناس في متاهات وفرضيات؟ نحن تابعنا كلبنانيين الاستحقاقات النيابية الفرعية والعامة والاستحقاقات البلدية، وتابعنا المعارضين كيف يديرون معاركهم وكذلك تابعنا الموالين، ولم نسمع كلمة عن البرامج التي تنقذ لبنان من مأزقه. كما لم نسمع أحداً يحاسب كل هؤلاء، بل سمعنا الكثير من إثارة الغرائز؛ الغرائز الطائفية والغرائز المناطقية هنا وهناك، حتى إننا لم نسمع من يتحدث عن كرامة لبنان، بل سمعنا أحداً يتحدث عن كرامة نفسه وعن كرامة الجنوب والبقاع والجبل والشمال وما إلى ذلك، لأن كلمة لبنان ليست واردة عنده.

الضائقة المعيشية وعفاريت الملفات

أما قضية القضايا وهي المسألة المعيشية، فإنني لا أرى دولةً في لبنان، بل هناك شكل الدولة.. فليس هناك مؤسسة، لأن المؤسسة فوق الأشخاص، ولكن الأشخاص في لبنان فوق الدولة، وإذا اتفقوا سارت الأمور من دون "هزة بدن"، كما في الكلام الشعبي، وإذا اختلفوا عمّت الفوضى.. فنحن نعرف أن كل الملفات التي فتحت لم تغلق لأنّ ما في داخلها وجد الحل وإنما أغلقت لأن هناك الكثير من العفاريت التي تختفي في هذا الملف أو ذاك.. العفاريت الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، التي إذا لم تخرج من الملف تخلق أكثر من مشكلة. ولذلك فإن مسألة الهدر والفساد واللصوصية وما إلى ذلك تنطلق بعيداً لئلا يكتشفها أحد.. فالمسألة هي أن طريقة الدولة في معالجة الواقع أفسدت الشعب، وعندما يعيش الشعب الفساد، فإنه يشترك مع الدولة في إفساد الأرض كلها.

مواصفات الرئيس

* يتنافس الكثيرون على وضع المواصفات لرئيس الجمهورية المقبل، فهل عند سماحة السيد صفة واحدة يمكن أن تغني عن كل الاعتبارات؟

ـ إن الوصف الوحيد لكل مسؤول هو أن يعيش مسؤوليته عن كل موقعه وعن كل شعبه بالصدق والأمانة والجدية، وألاّ يعيش لنفسه ولا لعائلته ولا لفريقه.. فالمشكلة هي أن الشخص في كثير من النماذج ـ ولا أتحدث عن الشمولية هنا ـ يدخل ملاكاً ويخرج شيطاناً بحسب درجات الشيطنة التي تسمح بها الأوضاع.

* اجتمع سماحة السيد بالرئيس نبيه بري، فهل معنى ذلك تحييده عن أي اتهام موجه لأهل الحكم؟

ـ إنني عندما ألتقي أي مسؤول، فإن مسؤوليتي هي أنني أتحدث معه بالقيم التي تتفق مع هذه المسؤولية، سواء القيم الإنسانية أو الروحية أو الأخلاقية، وحدود مسؤوليتي هي أن أكون الناصح، وأنا لم أتحدث عن أي تفاصيل أو مفردات استهلاكية مع أحد من المسؤولين.

* هل يرى سماحة السيد أن الطبقة السياسية في لبنان قد سقطت عن بكرة أبيها، أم أن هناك أملاً في بعض القيادات وأن اليأس لا يجب أن يقتلنا؟

ـ إنني لا أؤمن باليأس، لأنني أؤمن بالإنسان وبأنه قادر على أن يتغير، لكن المشكلة هي أن الناس لا يحاسبون، وهم ينتقدون الطبقة السياسية ويصفقون لها، تماماً كما هو المجلس النيابي في جلسات الثقة عندما يرجم الحكومة حتى على مستوى القيادة ثم يصوت لها بالثقة، فالثقة في لبنان ديكور وليست موقفاً، ولذلك تعلم الكثير من السياسيين الذين ربطت مصالح الناس بهم حتى في القضايا الصغيرة، تعلموا أن الشعب لا يحاسبهم، وأنه سوف ينتخبهم ويساعدهم ويقاتل معهم، لأنه يأمل من هذا خدمة ومن ذاك خدمة، ونحن نعرف أن هناك ذهنية عند الكثيرين من اللبنانيين، أنّهم ينتخبون الشخص لأنه يحضر أحزانهم وأفراحهم، أو لأنه يعمر لهذه البلدة كنيسة أو جامعاً ولكن أن يعمر لهذا البلد مستقبلاً، فهذا ما لم يتعوّد الناس التفكير به.

المال الضائع في صندوق المهجرين

* الفساد يستشري في كل بقعة من لبنان، وكنتم قد أنذرتم في جويا الجنوبية يوم الأحد الماضي، ولكن يا سماحة السيد، الكل يشخص المرض ولا يرسم الحل، فما هو الدواء ومن أي صيدلية نأتي به؟

ـ المشكلة أكبر من الحلّ، لأن هناك أخطبوطاً يحاول أن يلتف بكل أذرعه الكثيرة على كل محاولة للحل، فقد تناولت مسألة أننا جميعاً نتحدث عن الهدر ونتحدث عن عدم احترام المال العام، ونحن نشعر أن المجتمع الأهلي يقوم بهدر المال العام بما في ذلك الشخصيات والأحزاب السياسية.

* كيـف؟

ـ عندما انطلقت مسألة المهجرين، وأعلنت الحكومة أنها سوف تدفع للمهجرين الذين يحتلون بيوت الغير، رأينا الفعاليات السياسية والحزبية تسجل في البيت الذي يسكنه مهجر واحد عشرين مهجراً من جماعتها ليقبضوا من أموال المهجرين. ولذلك لاحظنا أن هناك حوتاً يبتلع كل أموال المهجرين بهذا الهدر وبهذا الفساد الذي يقوم به الذين يرجمون الفساد بالحجارة السياسية، حتى إنه لم تعد هناك شراكة بين الكبار والصغار.

وكذلك هناك مشكلة الكهرباء، ونحن نعرف أن هناك مغاور وكهوف من الأعلى إلى الأسفل، ونعرف أن أغلب الناس يستهلكون الكهرباء من دون دفع أي مقابل للشركة، وإذا كان الناس يتحدثون عن الواقع الفاسد، فإن حل المشكلة المعيشية لا يكون بهذه الطريقة، لأن هذا التصرف في سرقة الكهرباء يجعل الناس يعيشون في ظلام. ونحن نتحدث في هذه الأيام كيف لنا أن نقلّل من التقنين، كما الحديث عن مناطق أبناء الست وأبناء الجارية ومناطق الاصطياف، وبذلك نحن كمجتمع أهلي نشارك في المشكلة. فمن الذي كان يستعمل شركات الاتصالات الدولية أيضاً؟ فالكثير من الذين يرتبطون بهذه الجهة أو تلك فعلوا ذلك.

* وهل الأحزاب تشارك؟

ـ أعتقد أن الهدر العام شاركت فيه الكثير من شخصيات الإدارة ومن الشخصيات السياسية والحزبية.

نظرة على العراق

* السلطة الجديدة في العراق لم توقف الانهيار الأمني، بل زادته اشتعالاً، وهناك اتهام لبلدان مجاورة للعراق بتأجيج المقاومة كما نسميها نحن، والإرهاب كما يسميها الإعلام الغربي. فكيف يقرأ سماحة السيد العراق في صورته المستقبلية؟

ـ أعتقد أنه ما دام الأمريكيون يحتلّون العراق، فمن الصعب أن يستقر الأمن فيه، لأن العراق أصبح باعتراف الإدارة الأمريكية الساحة الجديدة للحرب ضد الإرهاب، فقد كان في العراق إرهابي واحد وهو الطاغية صدام حسين بكل أجهزته، لكن أصبح العراق الساحة التي تجتمع فيها كل عناصر العنف الموجهة ضد أمريكا في العالم. ولذلك فمن الصعب جداً أن يستقر العراق ما دامت القوات الأمريكية فيه. ونحن نعرف أن أمريكا سوف تُبقي جيشها في العراق إضافة إلى جيوش حلفائها من أجل تنفيذ خطتها في رعاية مصالحها في المنطقة ليكون العراق جسراً للمنطقة..

وفي ضوء هذا، لا أعتقد أن الدول المجاورة للعراق ـ كما يتحدث البعض ـ هي التي تثير أعمال العنف، ولكننا نعرف أيضاً أن هذه الدول تماماً كما حال أمريكا، تحاول حماية نفسها مما يجاورها، وما يجاورها الآن هو الاحتلال الأمريكي للعراق الذي تحول إلى لافتة عراقية، ومن الطبيعي أن تحمي نفسها. ولا أتصور أن السوريين مثلاً مستعدون لأن تكون قواهم الأمنية في حماية الاحتلال، وكذلك موقف الإيرانيين والسعوديين وغيرهم.

مجلة "الأفكار": 8 جماد الثاني 1425 هـ الموافق في 26 تموز - يوليو  2004 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية