عن المستقبل الذي أمل فيه الشعب العراقي بعد سقوط نظام صدام حسين، قال المرجع الديني الإسلامي الأبرز في التيارات الإسلامية الأصولية الشيعية اللبنانية:
"لم يجد الناس أيّ مستقبل بالطريقة التي يأمنون فيها على كلِّ أوضاعهم، بل إن الناس رأوا أن أميركا جعلت العراق مستباحاً في كل إعماره واستثماراته للشركات الأميركية، بحيث لم يأخذ العراقيون المالكون للخبرة في إعمار بلدهم من خلال تجارب سابقة إلا الفتات من ذلك. وإذا كان الناس قد حصلوا على بعض حريات التظاهر أو الصحافة أو غيرها، فإنهم لم يلاحظوا تقدماً بالشكل المعقول للخدمات الضرورية الخاصة بالشعب.
وتحركت الأمور بين مد وجزر وشد وجذب، وبدأ الاحتلال يشعر بأن هناك قوى جنينية يمكن أن تتحول مشكلة له، تماماً كما هي الحال عندما انطلق السيد محمد صادق الصدر(قده) في مرحلة النظام السابق، وبدأ عالماً ومرجعاً يقيم صلاة الجمعة بطريقة تحتشد فيها الجماهير في بادرة لم يعرفها الشيعة في تاريخهم القريب أو البعيد بالضخامة الشعبية إلا عقب انتصار الثورة الإسلامية، ولم يكن النظام الطاغي يفكر في أن هذا الرجل سوف يتحوَّل موقعاً يجتذب جماهير الشعب بما فيها العشائر، ولا سيما أنه كان لا يتحدث في السياسة بالطريقة التي يخشى فيها النظام على نفسه. ولكن هذه الجماهيرية التي استطاع أن يبلغها أشعرت النظام بخطورته، ولا سيما عندما كان يطالب بإطلاق بعض أئمة الجماعة الذين اعتقلهم النظام، وكانت النتيجة اغتيال النظام الطاغي له ولولديه.
ولكن هذا الاغتيال أوجد نوعاً من الامتداد الشعبي لذكراه بطريقة أكثر ضخامة مما كانت في حياته، وقد ورث ولده ذلك الامتداد الشعبي، فاستطاع إدارة بعض الجوانب بالشكل الذي برز فيه كقيادة جنينية مستقبلية، وإن لم تملك كل المواصفات أو الأجهزة التي يمكن أن تجعل من هذا الموقع موقعاً متقدماً على المستوى الذي تحتاج إليه هذه المرحلة العراقية.
ولم يتحرك بأسلوب العنف، بل باللاعنف - كما كان - ولكنه كان يحاول الانفتاح على المطالب الشعبية من خلال التظاهر وصلاة الجمعة، وقد حاول كثيرون تصغيره وتحجيمه، ولكن الظروف الموضوعية التي أحاطت بحركته لم تمكِّن كل هؤلاء من تصغيره وتحجيمه. وربما نستوحي من الأحداث الأخيرة، أن قوات الاحتلال خشيت من أن تتحول هذه القوة الشعبية الممتدة، وهذه الظاهرة التي تملك تأثيراً شعبياً بطريقة وبأخرى، وإن لم يكن بهذه الخطورة السياسية أو الأمنية الكبرى، حتى بعد تأسيس جيش قد لا يملك المقومات أو صفة الجيش المسلح العسكري، فهو أشبه بالجيش المدني الاجتماعي - ربما خشيت قوات الاحتلال أن تتحول هذه الظاهرة إلى ظاهرة تربك المستقبل الذي يصنعونه في العراق في 30 حزيران.
ولا أدري لماذا يخطر في البال أن قوات الاحتلال تفكر، أو أنها تحاول أن تفكر على الطريقة الإسرائيلية التي كانت تقول للسلطة الفلسطينية: إذا كنتم غير قادرين على القضاء على الإرهاب، فسوف نقوم بهذه المهمة نيابةً عنكم، حتى إذا وصلنا إلى الحل الأخير، فإنكم تتسلمون فلسطين ليس فيها أية قوة في قيادات الانتفاضة التي تمثل قوات إرهابية. كأن الأميركيين يفكرون بهذه الطريقة. وهم يريدون إسقاط أية قوة عراقية ممانعة، سواء القوة الحاملة للسلاح بشكل مباشر، أو تلك التي يمكن أن تتحول إلى قوة مسلّحة في المستقبل، ولذلك عملت على استفزاز هذه القوة الوليدة، من أجل أن تحركها بالطريقة التي تستطيع فيها أن تضربها تحت أيِّ عنوان. وأتصوَّر أن الأحداث الأخيرة انطلقت من خلال استفزاز قوات الاحتلال لهذه الحركة، ولم تنطلق من مبادرة واقعية طبيعية لهذه الحركة".
السيد مقتدى الصدر، رجل في مقتبل العمر، لا خبرة لديه ولا تجارب ولا تعمق ديني. فهل هناك جماعات معينة إقليمية أو حتى دولية تعمل داخل التيار الذي يقود، وتالياً تدفع الأمور نحو العنف، علماً أن هناك داخل الطائفة الشيعية في العراق قيادات ومراجع لا تنظر بعين الرضى إليه وإلى تياره، ربما لأنه يشكل خطراً على الشيعة العراقيين مستقبلاً وحتى على العراق كله؟
أجاب المرجع الديني الإسلامي الأصولي الأبرز:
"ليس من الواضح وجود جهات خارجية بالمعنى الإقليمي، على مستوى ما قد يتحدث عنه الإعلام، باتهام دولة هنا أو هناك، ربما انطلقت هذه الحركة في هذا المناخ العاطفي الذي تحركه المأساة ابتداءً من السيد الشهيد محمد باقر الصدر وانتهاءً بالواقع الحالي. ربما استطاعت أن تستفيد من بعض التجارب التي تحركت في الواقع العراقي، وخصوصاً أنها ضمَّت بعض الأشخاص الذين - ربما - بدأوا يفكرون أو يقرأون أو يتابعون، ولا سيما أن مسار الحركة لم يكن في هذا التعقيد الذي يحتاج إلى خبرة سياسية واسعة معقدة، بل كانت الخطوط التي تتحرك فيها هذه الظاهرة، خطوطاً على السطح ولم تكن في العمق. وهو ما لاحظناه من تطور الخطاب ولكن في شكل حماسي وانفعالي، مما لم يكن من العمق بالمستوى الذي يشكل خطراً.
صحيح أن هناك أكثر من جهة في محيطه كانت تحذر أو تخاف منه، ولا سيما أن بعض الجهات كانت تتهم هذا النوع من التجمع باختراقه من أكثر من جهة قد تكون مخابراتية أو قد تكون من خلال بعض أشخاص النظام السابق، وقد تكون من ناحية ذاتية نتيجة بعض الخلفيات التاريخية بين هذه الحركة وحركات أخرى.
لكني لا أتصور أن الحركة قد وصلت إلى المستوى السياسي الذي يمثل عمقاً في الخطة، لكن لا مانع من أن يكون هناك نوع من الخبرة المتحركة في التكتيك، في الوسائل التنظيمية، في وضع هذه الجهة في موقع هنا أو هناك، ما جعل كلَّ مسؤول هنا وهناك يتسلَّم التعليمات التي ليس فيها تعقيد كثير ويجمع الناس حوله. هذا المناخ الذي أصبحت تختلط فيه الجوانب العاطفية والطائفية والوطنية، ونحن أيضاً لا ننسى أن الجهات السياسية الأخرى في العراق - علمانية كانت أو غيرها - استطاعت أن تستفيد وتشجع وتحيط بهذه الظاهرة، ولاسيما عندما انطلقت الشعارات: الوحدة الإسلامية السنية - الشيعية، وبأن المقولة المتحدثة أن الشيعة مع الاحتلال والسنة يقاومون الاحتلال، إن هذه الحركة استطاعت أن تردم هذه الهوّة، وأن الفلوجة أصبحت كالكوفة، والنجف أصبحت كالرمادي... إني لا أمانع في أن أية حركة في أي بلد سوف تتدخل أكثر من جهة لوضع بعض الحطب في النار المشتعلة، ولكن ليس من الضروري أن تكون المسألة متعلقة بخطة لهذه الحركة أو تلك على أساس علاقات مع هذه الجهة الإقليمية أو تلك.
إننا نعرف أنه منذ الاحتلال، وكل الدول المجاورة للعراق وحتى الأخرى التي تملك بعض التحفظات عن الحرب دخلت العراق بطريقة وأخرى، أي حاولت أن تستفيد لسياستها ضد أميركا أو بعض الأجواء المعينة، فهذا أمر طبيعي في الحياة السياسية وفي التدخلات السياسية، ولكن حتى الآن ليس هناك وضوح بالنسبة إلى هذه الحركة أنها تنتمي إلى إي محور إقليمي سواء أكان عربياً أم غير عربي.
ولم تستخدم، لأن عملية الاستخدام تنطلق من وجود علاقة عضوية، ولكن يمكن أن تستفيد من المناخ أو يمكن أن تُثير الأمور بطريقة جزئية بشكل غير مباشر".
قد يُستخدم المسؤول عن الحركة، أي حركة السيد مقتدى الصدر من دون معرفته، وخصوصاً أنه حديث السن وغير مجرِّب كما يقال.
سركيس نعوم
الجمعة: 16 -4 - 2004
عن إمكانية توظيف حركة السيد مقتدى الصدر دون معرفته، أجاب سماحة المرجع:
"لا يمكن أن يتجنَّب الإنسان محاولات الاستخدام في الحركات السياسية، سواء أكانت حركة عنف أم حركة لا عنف، ولا سيما في ساحة تتداخل فيها كل الخطوط والتيارات. ولكني من خلال المعلومات التي لا أدّعي شمولها، لا أجد أن هناك في الخلفيات خطة مباشرة بالطريقة التي يمكن أن تمثل حالة عضوية، ولا سيما أن الجهات التي قد يُنسَب إليها هذا التأثير أو ذاك، تملك بعض التحفظات حول هذا الموقع أو ذاك، انطلاقاً من ارتباطها بمواقع أخرى ربما تعيش السلبية مع هذا الموقع، وربما قد تفكر أنها لا تستطيع أن تضع البيض في السلة هنا، بعدما كان كل بيضها في سلة أخرى.
إن المسألة في العراق الآن - إذا أردنا الحديث عن الآفاق الإقليمية - ليست بهذه البساطة، بل إنها تعيش تعقيداً بالغ الصعوبة، وهذا ما نلاحظه عندما ندرس سياسة هذه الدولة أو تلك في ما يتعلق بالموقف من أميركا، وخصوصاً عندما تتحرك العلاقات الأميركية بهذه الدولة وتلك، سواء من حيث الخطوط الضاغطة أو المصالح المتبادلة. أتصور أن الدول المحيطة بالعراق تعمل الآن من خلال مصالحها القومية أو الوطنية لإرباك الاحتلال الأميركي في العراق، ولكن لكل دولة أسلوبها الخاص الذي لا يصل إلى الخطوط الحمراء".
* المحيط الإقليمي للعراق يتألف من قوى عدة ذات مصالح متناقضة، أبرزها إيران الإسلامية، والخليج ذو الأكثرية السنية، وتركيا وسوريا. ما هي مصالح هذه القوى في إرباك أميركا؟
"عندما نتحدث عن كلمة الإرباك في الدائرة السياسية، فإن هذه الكلمة لا تعني المواجهة المباشرة، بل تعني محاولة ربح بعض الأوراق الضاغطة لاستخدامها في لعبة الأوراق المتبادلة. من الطبيعي أن الاحتلال الأميركي للعراق أوجد مشكلة لا تخلو من الخطورة لأكثر الدول بما فيها، الصديقة لأميركا، لأن أميركا أصبحت على حدود هذه الدول كلها، حيث يمكنها أن تعبث باستقرار هذه الدول أمنياً وليس عسكرياً، لهذا، فإن من الممكن أن تقوم هذه الدول المحيطة بالعراق بتشجيع بعض السلبيات فيه، لتبادر أميركا إلى الدخول معها في عملية مقايضة بين هذه السلبيات والقضايا الأخرى المعلقة. وهذه المسألة قد تنطبق على تركيا أو سوريا أو إيران، لأن مسألة هذه الدول، أنها ربما لم تكن لها فرصة في الضغط على أميركا، ولكن وجود أميركا كدولة محتلة للعراق على حدود هذه الدول، قد يشكل خطراً على هذه الدول من جهة، ولكنه يشكّل فرصة لهذه الدول لإزعاج الاحتلال الأميركي بطريقة وبأخرى، لأن أميركا كدولة كبرى لا تستطيع أن تسيطر على كل الفئات الطائفية والمذهبية والعرقية، ولا تستطيع السيطرة على كل الحدود التي يمكن أن يدخل إليها أو عبرها كل المعادين للسياسة الأميركية من القاعدة إلى آخر جهة، حسب المصطلحات.
لهذا أتصور أن المسألة شدّ وجذب، في قضية صغيرة هنا أو هناك. وعندما ندرس الآن بطريقة بسيطة جداً لماذا أخّرت أميركا تنفيذ قانون معاقبة سوريا، مع أن القانون كان جاهزاً للتنفيذ من خلال ضغط مجلسي الشيوخ والنواب، فليس هناك من تفسير معقول - ولا نقول وحيداً - إلا الأحداث العراقية، باعتبار شعور أميركا بحاجتها إلى إيجاد علاقات، وإبقاء بعض العلاقات الرسمية المقبولة مع سوريا بالنسبة إلى مسألة الاحتلال في العراق. قد تكون هناك أمور اقتصادية تضغط فيها الشركات الأميركية التي قد تتأثَّر في تنفيذ هذا القانون، لأن الشركات الأوروبية سترث الشركات الأميركية، لكن المسألة الأمنية في احتلال العراق قد يكون لها دور معين. وهكذا نجد تركيا التي قد تواجه خطورةً فوق العادة من وجود أميركا المباشر على حدودها واحتضانها للطموحات الكردية، ولو كان ذلك على أساس الفيدرالية أو على أساس الحكم الذاتي أو الفيدرالي بدون دولة، ولكن كدولة تفكر في المستقبل، مستقبل الأكراد الذين يعيشون فيها كدولة، قد لا تحمل عنوان الدولة. إنها تعيش خطورة الدولة على تركيا، لأنها ستحتضن كل الأكراد في إيران وسوريا، فربما تستفيد تركيا من بعض الأمور، وإن كان بالطريقة التي قد تختلف فيها عما تستفيد منه إيران وسوريا في هذا المجال. ليس هناك مطلق في الخوف لا ترغيباً ولا ترهيباً في السياسة. إننا نعتقد أن الحشرات الصغيرة تزعج حتى الحيوانات المفترسة".
في بلد كالعراق شعبه عاطفي وانفعالي وربما دموي وشجاع، وفيه انقسامات عرقية وطائفية ومذهبية، لا يستطيع الضاغطون على أميركا من محيط العراق التحكم بالأمور والتطورات. وإذ ذاك، قد يجد الحيوان الذي أشرتم إليه نفسه كالفيل مضطراً إلى رفع قدمه ودهس الجميع. هل هناك مصلحة عند الشعب العراقي لدفع أميركا إلى مغادرة العراق قبل استتباب أوضاعه؟
سركيس نعوم
السبت: 17- 4 -2004
* هل هناك مصلحة للعراقيين في خروج أميركا من بلادهم قبل استتباب الأوضاع فيها؟
أجاب سماحة المرجع: "هناك نقطة لا بدّ من مراقبتها، لأن الوضع العراقي يحتاج إلى المراقبة الدقيقة، باعتبار صعوبة أن تعطي أي حكم حاسم في مستقبل العراق، لأن الساحة العراقية - كما قال بعض المحللين الغربيين - هي ساحة الجهاد الثاني بعد أفغانستان. المسألة هنا أن الظروف المحيطة بواقع الاحتلال في العراق قد لا تؤدي في وقت قريب إلى خروج أميركا من العراق رغم كل المصاعب التي تواجهها، لسبب بسيط، وهو أن أوروبا التي تعيش الصراع، وروسيا أيضاً التي تعيش صراعاً خفياً في بعض المسائل السياسية والاقتصادية، لا تسمح بهزيمة أميركا، لأن ذلك سيؤدي - في نظرها - إلى تأثير "خطير" على التوازن الدولي.
ولذلك ستعمل كل هذه الدول، مع أميركا في حلف شمال الأطلسي، على منع الهزيمة عن أميركا، وسوف تتحرك الخطة الأميركية لمراقبة برامجها، سواء في نقل السيادة أو في الانتخابات، لإعطاء الأمم المتحدة دوراً لا يلغي قيادتها، وسوف تبدّل برامجها تماماً كما بدّلت بعض برامجها عندما دخلت كقوة محتلة، وخصوصاً أن علينا مراقبة ارتباط الخط البريطاني - الأميركي بما قد ينعكس سلباً على الواقع السياسي في بريطانيا، والذي لا يزال يعيش الإرباك والاهتزاز في اتهام رئيس الوزراء بالتبعية الغبية، كما يقولون، لأميركا. أتصوّر أن المسألة عندما تصل إلى ما يقارب الانهيار، سوف يلجأ الجميع إلى احتواء هذه الخطورة.
وعندما نلاحظ أن هذا الهجوم العسكري الأميركي الوحشي على الفلّوجة ومناطق العراق الجنوبية، نرى أن هناك فئات، سواء في مجلس الحكم أو المرجعيات الدينية أو الأحزاب، بدأت تدخل لتهدئة الأوضاع بعنوان حقن الدماء وما إلى ذلك، ما يدل على أن هناك أكثر من فرصة للتهدئة عندما تصل المسألة إلى درجة الغليان".
وأضاف: "من جهة ثانية، فإن الحديث عن أنّ هذا الحيوان السياسي المفترس ربما يدهس ويضغط بقدمه بالشكل الذي قد يربك الأمور، فأعتقد أن أميركا عاجزة عن أن تقوم بأيِّ عمل يتجاوز الخطوط الحمر التي قد تسقط الهيكل على رؤوس الجميع. نحن نلاحظ أن أميركا دخلت العراق وبدأت تغرق في رماله المتحركة، حتى إننا عندما نتابع الصحف الإسرائيلية، نجد أن هناك شماتة بأميركا وقوات الاحتلال الأميركي التي كانت تنتقد إسرائيل على اجتياحها للمدنيين، كيف أنها تجتاح المدنيين وتفرض العقوبات الجماعية كما تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين.
ولعلّنا نستطيع أن نلاحظ ولو بحذر، أن أميركا الآن هي التي تطلب وقف النار من جانب واحد في الفلوجة، وهي التي تدفع أو تشجع بعض الذين يقومون بالوساطة في النجف وغيرها، لأنها شعرت بأن تطوّر الأحداث جعل الشمال يلتقي بالجنوب والوسط، حيث فتـح أكثر من جبهة أمام الجيش الأميركي وقوات الاحتلال، وبدأت أميركا تخسر الكثير من القتلى والجرحى الذين لا نعرف عددهم. إن أميركا أصيبت بإرباك بدأ يترك تأثيره على الواقع الداخلي الأميركي في سنة الانتخابات.
إن الحديث عن أن أميركا تملك القوة المفرطة لاحتلال إيران وسوريا هو كلام لا يملك أية واقعية، حسب طبيعة الحواجز الدولية التي لا تسمح لأيِّ قوة كبرى بالعمل بحرية بطريقة وأخرى. ثم إن مسألة الشعوب ليست بهذه البساطة في أن القوى الكبرى تستطيع قهرها وسحقها. وهناك نقطة مهمة جداً، وهي دخول أميركا إلى العراق على أساس مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الحصول على كلِّ ثروات المنطقة، فأي عمل وحشي في مستوى فرض القوة القاهرة التي تلغي الشعب في قياداته سوف يعطّل كل مشاريعها في هذا المجال. فالمسألة ليست بسيطة سلباً أو إيجاباً".
* الإستراتيجية الأميركية الأساسية مستمرة، ولن يغيّرها سقوط الرئيس جورج بوش في الانتخابات الرئاسية، ومثلما يستطيع العراقيون ومحيطهم إرباك أميركا، تستطيع أميركا إرباكهم. وقد تكون لأميركا بدائل عدة في العراق. وأحدها عند التعثر الأميركي الكبير، نشوب حرب أهلية تستنـزف العراق أولاً ثم إيران وتركيا والمحيط؟!
أجاب سماحة المرجع:
"لا أنكر أن ما تملكه أميركا من قوى ذاتية على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني، يفسح لها المجال لتقوم بأكثر من لعبة في العراق، ولا سيما عندما تصل المسألة إلى مستوى الخطورة. ولكن هناك نقطة لا بد من ملاحظتها، وهي أنني لا أفهم مسألة الحرب الأهلية في العراق، على الأقلّ في مستوى السنّة والشيعة والأقليّات الأخرى، لأنه ليست هناك ظروف بالمعنى الميداني والتاريخي لحرب أهلية في داخل هذا النسيج.
ولا بد لنا من مراقبة المسألة الكردية، ولا سيما في الانتخابات التي تحصل، أو عندما يوضع الدستور الدائم، فلا يجد فيه الأكراد ما يطمحون إليه من الفيدرالية العراقية، وإن كانوا يحاولون إعطاءها أكثر من غطاء، فمن الممكن أن يثير الأكراد مشكلة في العراق، كون المسألة عربية - كردية، ولا سيما أنهم يطمحون إلى الموصل وكركوك وأكثر المناطق الشمالية، ما يرفضه العرب والتركمان، وما قد ينعكس سلباً على مسألة تركيا.
لهذا لا أتصوّر أن هناك أية أرض صالحة لحرب أهلية في العراق، رغم ما يتحدث به الإعلام. ومن جهة ثانية، فإن الساحة العراقية لم تعد عراقية، فعلينا مراقبة الفئات الآتية من الخارج، والتي رأت في هذه الفوضى في العراق الفرصة لتواجه أميركا بطريقة حرب العصابات أو غيرها، ولا سيما بعدما فتحت الكثير من شهيّة القوى في منطقة الجنوب على المواجهة لأميركا بصرف النظر عن خلفياتها. لهذا أخشى أن تتحوّل الساحة العراقية ساحة أفغانية، ولكن بطريقة أخرى، لفروقات بين الشعبين، وهو ما لاحظناه في تصريحات المسؤولين العراقيين.
وعلينا ألا نغفل هذه القضية، وربما تستطيع أميركا أن توجد نوعاً من الهدوء، سواء من ناحية الإغراء في الخدمات ومحاولة إدخال الأمم المتحدة بطريقة تتجاوز المسألة الإنسانية، إلى بعض الخطوط السياسية، لكن المسألة أمام كل هذه الفسيفساء من خلال الدول المجاورة أو من خلال هذه الفوضى الداخلية المنفتحة على فوضى الإرهاب والتطرّف والتشدّد والسلفية وغير ذلك، من الصعب استقرارها. وصحيح أنّ الشعب العراقي هو شعب حماسي، لكن ذلك قد يكون سلاحاً ذا حدين يمكن أن يؤدي في بعض الخطط المقبلة من الخارج إلى استكانته. إن الساحة العراقية لم تعد عراقاً، أصبحت المنطقة كلها التي - وهنا الخطورة - لن يخسر فيها إلا الشعب العراقي".
* تقوم العناصر الغريبة عن العراق بحرب جهادٍ على أميركا في العراق وتضرب على وتر حساس داخلي في الموضوع العراقي وهو المذهبية. إن استبعادكم الحرب الأهلية السنية - الشيعية ناجم عن إيمانكم بالوحدة الإسلامية ومعرفتكم بالشعب العراقي كما تقولون، لكنها قد تكون تمنيات أمام الانقسامات التي نشهدها بين الطوائف والمذاهب، ولا سيما في ظل محاولة الجهاديين السلفيين غير العراقيين العمل لإقناع سُنّة العراق بحاجتهم إليهم في الصراع الداخلي. وقد يثير ذلك رد فعل شيعياً.
سركيس نعوم
الإثنين: 19- 4 - 2004
* الدور المحتمل للسلفيين السنّة غير العراقيين، هل يعتبر من الأمور المساعدة على خلق أجواء حرب أهلية في العراق؟
أجاب سماحة المرجع: "صحيح أن التيارات السلفية أو الوهابية أو غيرها موجودة في العراق، ولكن نحن نعرف أن سُنّة العراق ليسوا سلفيين، مع وجود البعض هكذا، بل فيهم الكثير من العقلاء على مستوى السياسيين المثقفين والعلمانيين وعلى مستوى العلماء الذين يشعرون بأن امتداد هذه التيارات بطريقة السيطرة على المنطقة السنّية سيؤدي بنتائجه السلبية إلى إسقاط الوضع السني بشكل شعبي، فالسنّة يريدون العيش بسلام في العراق، وأيّ حرب أهلية لن تؤدي إلى أيّة انتصارات على مستوى المحيط السني، وحتى هذا المحيط أصبح مشغولاً بمشاكله الخاصة في كل بلد عن مسألة السنة والشيعة، وهو ما نلاحظه في إشكاليات الكويت والسعودية، حيث تشعر الدولة والعقلاء بخطورة المسائل الأخرى.
وعندما نقول إن أميركا لا تملك الحرية في التصرّف بكلِّ ما يُسمح لها من قوة عسكرية، نقول أيضاً إن هؤلاء لا يملكون ما يجعلهم يُحققون القوة الساحقة لتحقيق ما يريدون، وعلينا أن نعرف أن هذه الفئات، سواء كانت سعودية أو كويتية، قد خلقت مشكلة لبلادها، ما يجعل بلادها تدخل في مواجهة معها، فتجفف منابع القوة، وتعمل على محاصرتها خوفاً على نسيج النظام في هذا البلد أو ذاك، بالاستعانة بأميركا التي تعتبر أن الحرب ضد هؤلاء هي حرب ضد الإرهاب، وتجعل هذا البلد الخليجي أو ذاك يشعر بالخطر من خلال هؤلاء، كما نلاحظ في حركة الأمن السعودي. إن كل هذه التيارات التي تخطط لحرب أهلية، تجد أن العراقيين لا يستجيبون لذلك، لا على أساس الوحدة الإسلامية فقط، لأن الوحدة الإسلامية تتحرك في حال الفوقية لا على الأرض، ولكن لشعور العراقيين، حتى السُنّة، بأن أية إثارة على مستوى حرب الفتنة بالطريقة اللبنانية ستأكل الأخضر واليابس، وسيتأثر بها السنّة والشيعة سلباً.
وحديثنا عن العناصر التي تفكّر مذهبياً في العراق، ولكن ماذا عن العناصر العلمانية الممتدة في العراق؟ وماذا عن العشائر التي يختلط فيها السنة والشيعة؟ فمثلاً، حين كانت السعودية، حتى على مستوى العائلة المالكة، تعيش حالاً من الارتباطات العشائرية، فنحن نجد أنه في الوقت الذي كانت هناك حالة مذهبية ضد الشيعة، كان الكثيرون من رؤساء العشائر الشيعية يذهبون إلى السعودية فيجدون الملجأ لهم بانضمامهم إلى عشائرهم هناك.
فعلينا ألاّ ندرس النسيج العراقي على قاعدة السنة والشيعة، بل إن هناك تجمعات عشائرية تمتد في التاريخ وينفتح فيها الشيعة على السُنّة والعكس صحيح، داخل العشيرة الواحدة".
* ألا تعتقدون أن شيعة العراق هم اليوم أمام اختبار، إذ هناك فرصة لنيلهم حقهم في الدولة والنظام بنسبة عددهم، فهل يفوّتون الفرصة كما حصل عام 1920؟ وهل يخطئون الحسابات فيدفعوا الثمن نهائياً؟
أجاب سماحة المرجع: "أعتقد أنه في ثورة العشرين، كان الشيعة لا يفكرون في الدخول في نسيج الدولة، ربما كانت بعض الذهنيات تنطلق من فتوى سلبية في الدخول بالدولة ولاعتبارات فقهية معينة. أما الآن، فالشيعة يفكرون أنهم جزء أساسي في الدولة، وحين نتحدّث عن الحجم، نثير نقطة، وهي أن الغالبية الشيعية ليست كلها في تيارات إسلامية بالمعنى السياسي، فهناك علمانيون، ولا أتصوّر أنهم سيخطئون الحسابات في هذا المجال، فلا تزال هناك امتدادات شعبية تراقب هذه المسألة، ولهذا نجد الكثيرين ممّن يؤيدون أن لا تصل الأمور إلى حافة الهاوية".
* هل سيتم انتقال السلطة في العراق في موعده؟
أجاب سماحة المرجع: "أتصوّر أن الأميركيين مضطرون للحفاظ على هذا الموعد، فهو المدخل الوحيد لأن يتخلّصوا من كلِّ هذه الحرب المتحركة التي تصطاد جنود التحالف المحتل بين موقع وآخر، لأن وجودهم بين الناس مع هذه الثورة أو حركة العنف أو المقاومة أو غير ذلك، يجعل خسائرهم محرجة لهم. إن المحتلين في حاجة إلى الحفاظ على هذا الموعد، ولا سيما في سنة الانتخابات الأميركية. ولكن لا بد من مراقبة الأوضاع. فالقضية ليست أن يتسلّم العراقيون أو لا يتسلّموا، ولكن القضية كيف يتسلم العراقيون السلطة ومن هي الجهة التي تتسلمّها؟ هل هي جهات مجلس الحكم؟ أم يُراد توسعتها وكيف؟ وما هي الظروف المحيطة بهذا الموضوع، ولا سيما أن هذه الحكومة ليست منتخبة، وكيف يمكن إجراء الانتخابات؟... فهناك ضباب حول هذه القضايا؟"
* هناك محتل هو زعيم العالم، لا يمكن التفاهم معه على خروجه بالقذائف والمواجهة العسكرية، بل بالحوار.
على ذلك علق سماحة المرجع قائلاً: "من الطبيعي أن الحركة العراقية ليست محكومة بخطة عراقية، بل بالفوضى السياسية والعقائدية التي تتجاوز موضوع السنة والشيعة. فالعراق أصبح المختبر الذي تختبر فيه كل الخطوط الحادة والمعتدلة، التي تعتبر، كما في لبنان، الرئة التي تتنفس بها مشاكل المنطقة. فالعراق هو ساحة الاختبار التي يريد فيها كل فريق أن يختبر قوّته، وأن يختبر عبقريته في إرباك هذا الموقع أو ذاك.
وإنّي لا أوهِّن من قوة أميركا، ولا نغرق في الشعارات، لكني أعتقد أن أميركا تعيش الرمال المتحركة في العراق".
* هل ستجعل الرمال المتحركة التي أشرتم إليها العراق فيتناماً أخرى لأميركا؟
أجاب المرجع: "من الطبيعي أن ظروف فيتنام تختلف عن العراق، وحركة الشعب العراقي تختلف عن حركة الشعب الفيتنامي، ولكن ليس من الضروري أن تكون الصورة صورة فيتنام بكل ملامحها، ولكن قد تكون صورة فيتنام ببعض آثارها".
سركيس نعوم
الثلاثاء: 20 -4 -2004