المرجع الشيعي اللبناني لـ«الشرق الأوسط»: الجهاد ليس من القضايا المبسطة التي يمكن لأحد أن يطلقها كما لو كان شعارا سياسيا.
حوار: إمام محمد إمام
كنت في زيارة إلى لبنان خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي، للمشاركة في أعمال المؤتمر السابع لرابطة الجامعات الإسلامية، الذي عقد في بيروت في ضيافة كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية، واغتنمت هذه الفرصة السانحة لزيارة السيد محمد حسين فضل الله المرجع الشيعي اللبناني في داره بحارة حريك في جنوب بيروت.
وكان هذا الحوار الذي تحدث فيه الشيخ فضل الله عن القضايا والأحداث الراهنة في فلسطين والعراق وعن الأسانيد الشرعية لفتواه بارتداء المرأة المسلمة للشعر المستعار (الباروكة) في حال اضطرارها للتخلي عن الحجاب كما حدث في فرنسا، وغيرها من القضايا. وكان الحوار:
الفكر الإسلامي في وجه التحديات
* سماحة السيد، كيف يواجه الفكر الإسلامي المعتدل على اختلاف مذاهبه وتباين مشاربه وطوائفه الأزمة التي تواجهها الأمة الإسلامية بعد أن تزايدت الاضطرابات نتيجة الحروب والاغتيالات والانفجارات التي تشهدها بعض مناطق العالم الإسلامي، مما أحدث خللاً واضطرابا في الشارع الإسلامي؟
ـ إن قيام إسرائيل بالاعتداء على الشعب الفلسطيني وقياداته، واحتلالها لأراضيه تجد مباركة من الإدارات الأميركية المتعاقبة التي كانت تعطي اعتداءاتها شرعية سياسية وغطاءً دولياً عندما تمنع مجلس الأمن من إدانة عمليات الاغتيال والاعتداءات المخالفة للقانون الدولي، حسب اعتراف الأسرة الدولية بشكل عام ما عدا الولايات المتحدة الأميركية، التي تلجأ إلى استخدام حق الفيتو، كلما أُدينت إسرائيل، ما جعل إسرائيل تشعر بالحرية للقيام بأي عمل من أعمال الاغتيال إلى جانب أعمال التدمير البشري والزراعي والعمراني والاقتصادي الفلسطيني بشكل عام وقبل ذلك في لبنان، وفي أكثر من بلد عربي مجاور وخشيت الدول الأخرى سواء كان الاتحاد الأوروبي أو روسيا من الوقوف بشدة ضد هذه الأعمال الإجرامية الإسرائيلية حفاظاً على مصالحها مع أميركا. أما بالنسبة للاغتيالات أو التفجيرات بدءاً من أحداث 11 سبتمبر (ايلول) عام 2001، التي جرت في أميركا، ومروراً بأحداث الرياض والدار البيضاء وانتهاءً بأحداث مدريد ثم أحداث الرياض الأخيرة، فإن هذه الأحداث المؤلمة للأسف أعطيت وجهاً إسلامياً جهادياً، حاول الكثيرون أن يتحدثوا عن الجهاد، كما لو كانت كلمة الجهاد تختزن ذلك كله.
فإننا نعتقد أن هذا النوع من التفكير ينطلق من ذهنية ضيقة في فهمها للنصوص الإسلامية. لأن قضية الجهاد ليست من القضايا المبسطة التي يمكن لأحد أن يطلقها كما لو كانت شعاراً سياسياً، أو حالة تنفيسية عن عقدتنا، أو كانت مواجهة لفريق سياسي آخر، أو كانت محوراً دولياً أو إقليمياً، أو أشخاصا هنا وهناك، بل إن مسألة الجهاد هي مسألة خاضعة لخطط سطحية تتحرك من خلال النصوص الفقهية، التي لا بد فيها من الدخول بطريقة علمية مقارنة بين هذا النص هنا، وذاك النص هناك، وبمعايشة الواقع الميداني من خلال النتائج السلبية والايجابية، التي ربما تنعكس على واقع المسلمين في هذا الحدث أو ذاك أو من خلال دراسة الظروف الموضوعية المحيطة بالعالم العربي والإسلامي.
إنها ليست مسألة يمكن للفقيه أن ينطلق بها، فلا بد من أن تتجمع كل الخبرات، وتنطلق من الفقهاء المنفتحين على الثقافة الفقهية الإسلامية الواسعة المقارنة بين نص وآخر، ومن خلال الخبراء السياسيين والاقتصاديين والعسكريين والأمنيين، وما إلى ذلك. بهذا تكون هذه المسألة من المسائل التي طرحت في الساحة واستخدمت استخداماً صحيحاً بعيداً عن العاطفة والأهواء. ثم إننا نلاحظ إلى جانب ذلك مسألة التكفير.
إنني أتصور أن قضية التكفير هي من القضايا التي دخلت في كثير من الغموض الذهني، باعتبار أننا نعرف جميعا أن مسألة أن يكون الإنسان مسلماً، هو أن يعتقد بالتوحيد في كل خصوصياته وبكل خطوطه العامة، وان يعتقد بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويعتقد بكل ما في الرسالة من معنى وفي مقدمتها القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي أكد على الشريعة في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب}، والإيمان باليوم الآخر.
أما قضية مخالفة الضروري من الدين، التي يحكم بموجبه بكفر الإنسان، فهذه مسألة لا تؤدي إلى الكفر إلا إذا استلزمت تكذيب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنه معنى أن يكون الشيء ضرورياً بديهياً، أي مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإذا أنكر أحد هذا الأمر البديهي، كأنما أنكر الكتاب أو كذب الكتاب وكذّب الرسول (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، وهذا يكون من البديهيات، أما في الأمور النظرية التي قد ينكرها الإنسان لشبهة هنا وهناك، لكنه يؤمن بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنه لا يلتفت للملازمة بين الكاره لهذه وبين إيمانه بالله ورسوله، يعني بكتاب الله وسنة رسوله، فهذا لا يفسر بالكفر لأنه يمثل الشبهات، التي قد يعذر الإنسان فيها، لهذا فإن مسألة التكفير انطلقت من اختلال خط التوازن في الجانب الفكري، لما هو الكفر والإيمان.
وهذا الذي وقع بين المسلمين عندما عاشوا في تاريخهم هذه المشكلة المعقدة التي جعلت بعضهم يكفِّر الآخر. وجعلت أيضاً التكفير يتحول إلى أن يستحل أحدهم دم البعض الآخر، مع أن المسألة هي أنه حتى الكفر إنما يوجب استحلال الدم بالنسبة للكافر إذا قارنه مع الحرابة لا مع أصل الكفر، لذلك اعترف الإسلام بالكافرين الآخرين من أهل الكتاب، وحتى من غير أهل الكتاب، إذا فرضنا أنهم عاهدوا المسلمين على حسب ما هي المصالح الإسلامية العليا، لذلك فإننا نلاحظ أن هناك ثقافة مغلقة لا تنفتح على شمولية الإسلام في مفاهيمه، بحيث تخلط بين المسألة الأخلاقية والمسألة الإيمانية والمسألة المنهجية، وما إلى ذلك. بل إن هؤلاء يستغرقون في جانب واحد ويتركون الجوانب الأخرى، لا سيما أننا نعرف أنه في الفقه الإسلامي هناك عناوين أولية وعناوين ثانوية، فالشيء قد يكون مباحاً بحسب الفقه الإسلامي، ولكن قد يكون محرماً، إذا تعنون بعنوان الضرر مثلاً، وما إلى ذلك من الأمور المتعلقة بالعناوين الثانوية.
لهذا فإن دراستنا للجهات التي تفتي بتكفير هذا الموقع أو ذاك، أو بقتل هذا الإنسان أو ذاك، إنما انطلقت من خلال هذه الذهنية التكفيرية. وهذا ما لاحظنا في المراهقين الذين حولوا أنفسهم إلى أمراء في الجزائر وغير الجزائر.
وهكذا في كل هؤلاء الذين يقومون بالتفجيرات، وبالعمليات الانتحارية، يحسبونها عمليات استشهادية. إننا نعتقد أنه يجب على الطليعة الإسلامية من العلماء المنفتحين المثقفين بالثقافة الإسلامية الواسعة، أو من كل المفكرين الإسلاميين أن يعالجوا هذا الخط الثقافي السلبي المثقل بالحقد الأسود وبالبغضاء لكل مَنْ يخالفهم بتوجيههم، لأن الكثيرين من هؤلاء قد يكونون طيبين ومخلصين، فيما يعتقدونه ويتصورونه، ولكنهم يعيشون بذهنية مستلبة من قبل فكر هنا وفكر هناك. نحن نقرأ في نص للإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وهو يتحدث عن الخوارج «لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه». إنهم طلبوا الحق ولكنهم أخطأوا، ولذلك ليس الحل لمشكلتهم بواسطة القتال، بل بواسطة التوجيه والحوار وما إلى ذلك.
إننا نعتقد أن ما نتج عن أحداث 11 سبتمبر (ايلول) استطاع أن يخدم الاستكبار الأميركي ومن معه، خدمة على مستوى العالم كله، وعلى مستوى كل المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية لأميركا في العالم. لو بذلت أميركا عشرات المليارات أو مئات المليارات من الدولارات لما استطاعت أن تبلغ ما بلغته من نتائج، لأنها استطاعت أن تدخل في كل مفاصل العالم العربي والإسلامي من خلال ذلك. وهكذا استطاعت أن تغلق الكثير من النوافذ التي تطل بالدعاة الإسلاميين على العالم الغربي، حيث إنها أساءت إلى النظرة العامة للإنسان الغربي العادي أو المثقف للإسلام، الذي صار بفعل هذه التداعيات، يصف الإسلام بأنه دين الإرهاب وما إلى ذلك.
ولم يفلح المسلمون حتى الآن في مواجهة هذه النظرة السلبية. ولا تزال هذه التفجيرات تتلاحق حتى في البلاد الإسلامية، لذلك أعتقد أنع علينا أن نعمل على أساس مواجهة هذا المرض الثقافي الفقهي الفكري الإسلامي في الدائرة الإسلامية على ما يشبه حالة الطوارئ وان نحاصر هذه الأجواء بالوسائل التي يمكن أن تفتح لهؤلاء أكثر من نافذة على الفكر الاسلامي الشريف.
العراق.. قضية ضبابية
* وماذا عن تفجيرات العراق؟
ـ إن قضية العراق قضية ضبابية، بمعنى أنه يختلط فيها الجانب السياسي مع الجانب الديني، فنحن نعرف إن النظام العراقي السابق، وهو نظام صدام حسين استطاع إن يربك الساحة الداخلية، وساحة المنطقة بمختلف الحروب والتداعيات والمشاكل. ونحن من خلال دراستنا الدقيقة لحركة هذا النظام نرى أن أميركا ليست ببعيدة عن هذا النظام الذي وظفته للقيام بإرباك العالم العربي والإسلامي، حيث وظفته في أكثر من موقع لخدمة مصالحها، وهذا ما لاحظناه في كل حركته ضد شعبه بالمستوى الذي حارب شعبه بالأسلحة الكيماوية وحربه لإيران، الذي دمر العراق ودمر إيران معاً، وكذلك دمر الخليج، الذي أُريد له أن يساعد نظام صدام حسين في هذا المجال، بالإضافة إلى احتلاله للكويت، الذي كان خطة أميركية أريد من خلالها أن يكون هناك وجود قواعد عسكرية أميركية في منطقة الخليج ومعها بعض الحلفاء بحجة حماية أمن دول الخليج من تهديدات نظام صدام حسين.
لذلك كانت المشكلة في العراق بالنسبة للكثيرين من الشعب العراقي هي أنهم كانوا يبحثون عن منقذ أو محرر تماماً كما كان أصدقاؤنا الكويتيون يبحثون عن محرر يحررهم من احتلال النظام العراقي لبلدهم، مما جعل أميركا تأخذ بنفسها صفة الدولة التي تحرر الشعوب من حكامها أو من المعتدين عليها، لذلك فإن الاحتلال الأميركي ـ البريطاني للعراق، أوجد أوضاعاً معقدة تتحرك في الضباب، لأن العراق من خلال ذلك أصبح ساحة جديدة لأكثر من محور دولي أو أكثر من محور لأكثر من جهة من الجهات، التي تريد محاربة أميركا أو تريد تصفية بعض الحسابات في الدوائر التكفيرية وما إلى ذلك، وأن هناك شيئاً في العراق مما حدث في الرياض ومما حدث في الدار البيضاء، ولعل أحداث البصرة التي راح ضحيتها عشرات العراقيين الأبرياء ليست ببعيدة عن ذلك.
وهناك أيضاً في العراق أكثر من جهة تأتي من الخارج لتلتقي بمن في الداخل لمواجهة الاحتلال الأميركي، وبهذا فإن الوضع في العراق، هو وضع يتحرك على مستويات مختلفة، فأين هي هذه المقاومة؟. لذلك إنني أعتقد أن العراق دخل في نفق مظلم، لا نعرف كيف يمكن أن يأخذ نقطة من الضوء، لأن أميركا لم تدخل العراق لتحرره، ولكنها دخلت العراق لكي يكون العراق جسراً تعبر عليه أميركا إلى المنطقة كلها، لتسيطر على مقدراته الاقتصادية والأمنية والسياسية، وهذا ما صرح به المسؤولون الأميركيون عندما قالوا إننا نعطي السيادة للعراقيين في 30 يونيو (حزيران) المقبل على أساس سياسي، إنما الأمن فسيظل بأيدينا، وكذلك الاقتصاد.
التعايش السلمي بين الطوائف
* تمكَّن لبنان بعد اتفاق الطائف من التعايش السلمي بين طوائفه المختلفة، مما مكنه من ضبط التوترات الطائفية والاضطرابات المذهبية داخل الوطن الواحد.. فإلى أي مدى يمكن الاستفادة من التجربة اللبنانية في بلد كالسودان يواجه اضطرابات وحربا أهلية في جنوبه وغربه؟
ـ لعل قيمة لبنان، التي تجعله قادراً على تجاوز هذه السلبيات أو حسب التعبير الشعبي هذه المطبات التي توضع في شوارعه السياسية والثقافية والأمنية، هو أن لبنان يتمتع بحرية، هذه الحرية التي قد تتحول في بعض الحالات إلى مشكلة، كما قد تتحول إلى حل كما هو حادث الآن، إذ أننا نجد أن هذه الحرية تجعل من لبنان نافذة الشرق على الغرب من جهة، ونافذة الغرب على الشرق من جهة أخرى. كما أنها تجعل منه مركزاً لكل المخابرات الدولية والإقليمية، وهي التي جعلت منه الرئة التي تتنفس منها مشاكل المنطقة، ومركز التجارب لكل الاتجاهات، الإسلامية واليسارية واليمينية والقومية، التي تتحرك في العالم العربي، حيث تمارس صراعاتها وربما حروبها في لبنان ليعرف الآخرون، كيف يتجه هذا الخط أو ذاك الخط في تحقيق أهدافه. هذا النوع من الحرية الثقافية والفكرية والسياسية والأمنية، هو الذي جعل لبنان منطقة لنشاط أكثر من دولة كبرى من دول العالم في مجالات الاستخبارات والتجسس لتستفيد من هذا التنوع، الذي قد يتحول إلى تناقضات.
نحن نعرف أن لبنان استخدم من أجل أن يكون خطاً ولإسقاط الخلافة العثمانية، من خلال تدخل الغرب من أجل حماية المسيحيين في لبنان، وكذلك في مواجهة الدولة العثمانية. ولعلنا كنا نجد أن المسيحيين يملكون تحت سلطة الدولة العثمانية من الحرية ما لا يملكه المسلمون، ثم انطلق بعد ذلك الصراع في الخمسينات، وهو الصراع البريطاني ـ الأميركي، حيث إن لبنان كان ساحة صراع أوروبية بين الفرنسيين والبريطانيين، ثم بين البريطانيين والأميركيين في الستينات في هذا المجال. وهكذا كان لبنان ساحة للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وساحة للحرب الباردة، وما إلى ذلك، مما جعله مركزاً للتجارب حتى إن الحرب اللبنانية الأخيرة كانت حربا لتصفية الحرب الفلسطينية ـ الفلسطينية، من خلال تداعيات لبنانية في الحرب بين الحركة الوطنية التي كانت لها صفة إسلامية، والحركة المسيحية. وهكذا كانت حتى انتهت وحصلت أميركا، التي كانت وراء كل الحرب اللبنانية واستخدمت كل مفردات التناقضات الفلسطينية والعربية في لبنان، على ما تريده وهي أنها استطاعت أن تخرج البندقية الفلسطينية من لبنان إلى تونس.
وبعد ذلك وقف القتال في لبنان بقدرة قادر، باتفاق الطائف، إذ أنه كان لافتا للأنظار أن هذه الحرب الضروس، التي كانت توحي بأنه لا يمكن للبنانيين أن يلتقوا مع بعضهم بعد هذا الدمار وبعد هذه المجازر، ولكن بمجرد ما إن حدث اتفاق الطائف حتى وقفت الحرب في هذه البلاد، لأن لبنان عاش هذا التعايش بين الطوائف، وليست كل مناطق لبنان دخلت هذه الحرب، بل إن جماعة معينة تتحرك في كهوف سياسية معينة أشعلت هذه الحرب وغذتها، أي أن الحرب اللبنانية كان فيها شيء من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وفيها شيء من الصراع العربي ـ العربي، وفيها شيء من الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي السابق، لأن اللبنانيين عاشوا في تعايش طوائفي، ولم يسبب هذا التعايش الطوائفي حرباً من قبل.
أما السودان بحسب شخصية الإنسان السوداني، فهي شخصية متسامحة. وأني أعتقد أن الحرب فرضت على السودان وأخذت عنوان طائفي مع أن الحرب هناك ليست حربا طائفية بالمعنى الدقيق، لأننا نعرف أنه حتى الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق فيها مسلمون. ولقد التقيت بشخصيات صوفية وعلمانية تؤيد هذه الحركة ضد نظام الرئيس السوداني الفريق عمر البشير، مما يعني أن هذه الحرب ليست حربا بين المسلمين والمسيحيين، وليست حربا بين المسلمين والوثنيين، بل إن هذه الحركة تنطلق من خلال بعض الأوضاع المعقدة في السودان، الذي تحيط به تسع دول مجاورة، مع ملاحظة أن السودان البلد الإفريقي ـ العربي الذي يمكن أن يغذي أفريقيا كلها، لأن الثروة المائية الهائلة الموجودة في السودان والأراضي الزراعية الشاسعة والثروة النفطية الواعدة والعمالة الرخيصة والطاقات الهائلة الموجودة في السودان تساعد على ذلك، وهذا البلد حقيقة يختزن شعباً مثقفاً في دائرة ثقافية واسعة، حيث إنه شعب مميز بغض النظر عما إذا كان إسلاميا أو علمانيا، لذلك كل هذه العوامل يمكن أن تجعل من السودان بلداً متقدماً، إما إلى جانب مصر أو ربما يتقدم على مصر في بعض الجوانب.
وإنني اعتقد أن أميركا، ولا أتكلم هنا عن عقدة ضد أميركا أو عن نظرية المؤامرة، ولكن إننا نعرف أن أميركا عملت وتعمل على أساس أن تتسلل إلى أفريقيا لنهب خيراتها وثرواتها الواعدة بطريقة أو أخرى، ولذلك فهي لا تريد لأية دولة أفريقية أن تكون في الموقع المتقدم، لا سيما إذا أعطيت ألواناً إسلامية، لهذا فإني أعتقد أن الشعب السوداني، عندما تنتهي الحرب في جنوب السودان بانتهاء ظروفها الموضوعية السياسية والاقتصادية والأمنية، سيكون من أكثر الشعوب قابلية للعيش المشترك العفوي بين مختلف الطوائف كلبنان أو ربما هو أكثر من لبنان، لأنني اعتقد أن الحركة الصوفية، بالرغم من علامات الشجب التي يمكن أن نسجلها على هذه الطريقة أو تلك، فهي تجعل الإنسان منفتحا على الله ومنفتحا على الإنسان من خلال الله.
التقريب بين المذاهب
* إن دعوة التقريب بين المذاهب قد أسهمت بقدر ملحوظ في السنوات الأخيرة في اتساع دائرة التفاهم وتضييق دائرة الخلاف والاختلافات المذهبية، ما جعل دعاة التقريب يعملون بجد واجتهاد من اجل التركيز على القواسم المشتركة بين هذه المذاهب وتضييق شقة الخلاف المذهبي، ليتعاون الجميع فيما يتفقون عليه ويعذر بعضهم بعضا فيما يختلفون عليه.. فإلى أي مدى يمكن الاستفادة من ثقافة الحوار لأحداث قدر اكبر من التقارب والتعايش بين أصحاب المذاهب الإسلامية المختلفة؟
ـ لعل المشكلة في مسألة التقريب بين المذاهب، الذي هو مقدمة ضرورية للوحدة الإسلامية والتعايش المشترك بين المسلمين. وفشل مشاريع الوحدة في العالم العربي والإسلامي يكمن في أنها تنطلق من منطلقات سطحية، فهناك دعوات للوحدة الإسلامية وأخرى للوحدة الإسلامية السنيّة وثالثة للوحدة الإسلامية الشيعية، ورابعة للوحدة العربية وخامسة للوحدة الوطنية، وكلها تتناول السطح، لذلك فإننا عندما ندرس مسألة الوحدة في إطارها الفكري نجد أن المسلمين جميعا يلتقون على كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، ويختلفون في تفسير كتاب الله وتوثيق أو تفسير سنّة رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، وهذه ليست مختصة بالخلاف بين الشيعة والسنة بل هي أحياناً بين السنة والسنة وأيضاً بين الشيعة والشيعة، وهذا كان وضع العلماء المثقفون الذين لم يعيشوا هذه العصبية، والذين كانوا يلتقون في الجمعيات، ويجرون أكثر من لقاء فكري وفقهي في مرحلة الإمام جعفر الصادق والإمام أبي حنيفة والإمام مالك بن أنس، وما إلى ذلك.
فكان هؤلاء الأئمة يجتمعون ويختلفون من دون أية مشكلة، بالمعنى العصبي للمشكلة، لذلك فهناك قواعد علمية وأصولية بين المسلمين، يعيشها المسلمون في فقههم وأصولهم، وحتى فيما يتعلق بعلم الكلام، على الرغم من خطوطه المتعددة كخط الأشاعرة وخط الأمامية وخط المعتزلة. وهناك أيضاً مشكلة الإمامة والخلافة، التي لا تزال تأخذ بعض حظوظها الحادة في المشاعر الإسلامية، أكثر مما هي في الفكر الإسلامي. وهناك أيضاً الكثير من الأحكام فيها قدر من التخلف ومن الخرافة ومن الغلو والتطرف في بعض الكتب الموجودة لدى المسلمين سواء من السنة أو الشيعة، وهناك الكثير من الطوائف، التي عبثت بالفكر الإسلامي.
لذلك نجد أن هناك دائرتان تتحركان في مسألة اختلاف المذاهب، هناك الدائرة العاطفية، التي تنفتح إلى الجانب الغريزي للإنسان، التي توحي بالعصبية، وتتحرك نحو الانغلاق، وهذا الإنسان ليس مستعدا ليقرأ أو ليسمع أو ليحاور، أو ربما إذا أراد أن يقرأ تجده يقرأ ما يعجبه ولا يقرأ ما لا يعجبه، لذلك عملت هذه الدائرة على تجهيل المسلمين لبعضهم البعض. وهناك دائرة ثانية وهي دائرة التفكير العلمي والاجتهادي، التي يحاول فيها الإنسان توثيق ما عند هؤلاء وأولئك، ليؤكد مسألة ما هي خطوط الإيمان، وما هي خطوط الكفر، وهم في ذلك كله بعيدين عن قوله تعالى في مسألة الخلاف والتنازع التي يقول فيها: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}، وأيضاً عما يقوله تعالى في مسألة الحوار مع أهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله}.
ونحن نعرف كم بيننا وبين أهل الكتاب من خلاف في تفاصيل التوحيد، ولكن القرآن الكريم ركز على خط العقل، وعلينا أن نقول {آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}. ولعل أقوى منهج في منهج الحوار الإسلامي هو ما جاء في قوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}. وذلك عندما يواجه الإنسان الشاكين في الحقيقة، عليه أن يأخذهم بأدب الحوار واحترام الآخر في المساواة في الهدى أو في الضلال. وقد كنت أقول للمفكرين الغربيين الذين يلتقونني أن القرآن الكريم أو أن منهج القرآن في الحوار قد تقدم على كل مناهج الحوار في كل التاريخ وحتى الآن، فهو يفترض أنا وأنت في مستوى واحد، وأن هناك حقيقة ضائعة فتعالى لنواصل البحث عنها، بعيداً عن مسألة أن هناك غالب ومغلوب.
لذلك عندما نأخذ هذا المنهج في الحوار والذي أكده القرآن بقوله تعالى: {قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}، وأيضاً قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} نقول للشيعة يجب دراسة ما عند بعضكم في مواجهة البعض الآخر، وهكذا بالنسبة للسنة. ونحن نعرف الآن أن هناك معارك بين فقهاء السنة وفقهاء الشيعة، وبين فقهاء السنة أنفسهم، وكذلك بين فقهاء الشيعة أنفسهم في قم، والنجف، والأزهر والسعودية، وما إلى ذلك، فهناك نقاش في طلاق الخلع وفي قضية العنف وفي غيرها من الأمور.
لذلك نقول إن هذا التقدم نجم عن كثرة اللقاءات في المؤتمرات الإسلامية المشتركة التي أصبح يحضرها الشيعة إلى جانب السنة، والتي بدأت من فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، التي كانت تضم إلى جانب علماء الشيعة علماء السنة، واستطاعت هذه اللقاءات أن تعرف الشيعة بما عند السنة، وتعرف السنة بما عند الشيعة، لذلك أنا أعتقد أن مسألة التقريب، التي تبنتها إيران أخيراً بإنشاء مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، بالرغم من بعض السلبيات التي لا تزال تحيط بهذا الموضوع، إلا أنها بداية جيدة لحلّ مسألة الاختلاف من خلال المنهج القرآني.
بدلية الشعر المستعار عند الضرورة
* كنتم قد أفتيتم بتخلي المرأة المسلمة المضطرة عن الحجاب وارتداء الشعر المستعار (الباروكة) لتغطية شعرها الحقيقي، كان ذلك إبان الضجة التي اثيرت عندما صدر قانون فرنسي بمنع طلاب المدارس من ارتداء الرموز الدينية.. فما هي أسانيدكم الشرعية لهذه الفتوى؟
ـ نحن عندما ندرس الفقه الإسلامي دراسة واعية نجد أن هناك مخارج لما يعيشه المسلمون من مضايقات في أوضاعهم في البلاد الإسلامية، التي تأخذ ببعض تشريعات الغرب الوضعية، وفي البلاد غير الإسلامية. وهذا ما يعرفه الفقه الإسلامي بالعنوان الأولي والعنوان الثانوي. وعندما ندرس مسألة الحجاب فنحن نعرف أن المسلمين بشكل عام أو بشكل شامل، ما عدا بعض العلمانيين الذين يتخذون لأنفسهم صفة المفتين على أساس أنهم يفهمون القرآن كما يفهمه الفقهاء، ولكنهم ليسوا متخصصين، لان قضية فهم القرآن تحتاج إلى المقارنه بين آية وآية وبين نص الكتاب ونص السنّة وما إلى ذلك، فإنّ المسلمين جميعاً يعتبرون أن الحجاب واجب على كل مسلمة بالغة عاقلة، لذلك عندما واجهنا هذه المشكلة في فرنسا، حاولنا ومنذ البداية أن نُلزم الفرنسيين بما الزموا به أنفسهم، فالحريات التي أطلقتها الثورة الفرنسية وفتحت آفاقاً واسعة للغرب كله من خلال الحرية وحقوق الإنسان، ألزمتهم بكفالة الحريات لمواطني بلادهم، ونحن عندنا قاعدة إسلامية تقول «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»، ولكن المسألة وصلت إلى حد إصدار قانون، عندها وقفنا بين أمرين، وكانت هناك عدة خيارات. فالخيار الأول هو أن يفتح المسلمون في فرنسا مدارس إسلامية أو أن يرسلوا أبناءهم إلى المدارس الكاثوليكية. فوجدنا هذا الخيار غير عملي، لأن ظروف المسلمين في فرنسا حالياً لا تمكنهم من فتح مدارس إسلامية لاستيعاب أبناء المسلمين.
أما الخيار الثاني فلم يخلُ من تعقيدات على مستوى إيمان المسلمات لأنها مدارس تكفيرية. وكان هناك خيار آخر بأن نمنع المسلمات من دخول المدارس، وهذا الخيار مستبعد تماماً، لأنه ليس من المصلحة الإسلامية العليا، لا سيما في الغرب أن تبقى المسلمة جاهلة، لذلك وصلت المسألة إلى مستوى البحث عن مخرج شرعي. ولذلك قلنا للمسلمات هناك خيار لا بد من دراسته، وهو أن تلبس الطالبة المسلمة على رأسها شيئاً لا يوحي بالحجاب وقد يوحي بأنه شعر الموضة أي الشعر المستعار (الباروكة).
فنحن شرعاً لا نُجيز للمسلمة في الظروف العادية أن تلبس الشعر المستعار، لأنه من التبرج، ولكن الرأي الفقهي يقول لا يجوز للمرأة المسلمة أن تظهر شعرها الأصلي، ولذلك نقول عند الضرورة يمكن للمرأة المسلمة أن تلبس الشعر المستعار بما يستر شعرها الأصلي بمقدار الضرورة، وهو حالة وجودها في داخل المدرسة مع وجود الرجال في المدرسة، وترفعه بعد ذلك على أساس أنّ الضرورة تقدر بقدرها، ثم تلبس الحجاب. فالمسألة هنا لا تمثل تنازلاً عن الحكم الشرعي كما حاول البعض آن يفهم من كلامي أنني اتفقت مع شيخ الأزهر، والحقيقة غير ذلك لان شيخ الأزهر قال: «على المرأة المسلمة التخلي عن الحجاب والالتزام بقوانين البلد الذي تعيش فيه». ولكننا لا بد لنا أن ندرس الوسائل التي تجعل المسلمة حتى في حالة الافتراض تشعر بأنها ملتزمة إسلامياً. ولكن من خلال الخيارات الفقهية التي تجعلها تتحجب حتى مع شعور الآخرين بأنها لم تتحجب.
جريدة "الشرق الأوسط": 20 ربيع الأول 1425 هـ /9-5- 2004م.