* ماذا عن زيارة رئيس الحكومة العراقية المؤقّتة أياد علاوي. ماذا قلتم له؟ وماذا قال لكم؟
- لقد طلبت منه أن يكون عراقياً لا أميركياً، وأن يتحدث في خطابه كعراقي وكرئيس لحكومة العراق، لا أن يدافع عن أميركا ويبرر لها، وإذا أراد الحديث بلغة القوّة، فعلى لغته أن لا تكون لغة صدام، لأن الإنسان يشعر ببعض كلماته أن صدَّام يتحدث. وقد ذكرت له أن عليه احتضان الوضع العراقي والوضع الشيعي لا على أساس أن يكون الشيعة حالة مميزة من نسيج الشعب العراقي، بل أن يكون الشيعة جزءاً من المواطنية العراقية، ليأخذوا حقوقهم كاملة مع القيام بواجباتهم كاملة، تماماً كأيِّ مواطن عراقي سني أو مسيحي أو كردي أو غيره، لأنّ الشيعة يرفضون أن يضطهدهم أحد، ويرفضون أن يضطهدوا أحداً. وقد طلبتُ منه ألا يصدر منهم ردّ فعل ضدّ مقتدى الصدر، باعتبار إمكانية الحوار معه، وقد أكدت أهمية العلاقة بدول الجوار، ولاسيّما سوريا وإيران نتيجة الروابط العضوية بين هذه الدول، لأنّ المرحلة التي يمر بها العراق دقيقة ومزروعة بالألغام، وعليك أن تكون دقيقاً في هذا المجال. وقد قلت له ما دام العراق محتلاً والقوات الأميركية مسيطرة على الأرض فلن يستقر العراق، ولذلك اطرحوا الأمم المتحدة بحيث تشكل القيادة، لا أن تكون مكلّفة بإدارة الانتخابات فقط.
* ماذا كان ردّ علاوي على ما طرحت؟
- كان متجاوباً مع كل ما ذكرنا وطلبنا.
* ماذا كان تقويم علاوي للوضع في العراق؟
- لم يكن وقت اللقاء طويلاً. وقد ذكر أنهم بدأوا باعتقال جماعة الزرقاوي، وهو ما يعتبره البعض غير دقيق.
* تبدو إيران حيناً في وضع مواجهة شرسة مع أميركا، وحيناً آخر في وضع المهادن لها، وأحياناً يبدو أن هناك حوارات جارية من تحت الطاولة بين الدولتين على نحو غير مباشر. الآن يلاحظ أن جوّ المواجهة هو الطاغي، وقد تنوب إسرائيل عن أميركا فيها، إلى أي مدى في رأيك ستصل العلاقة الإيرانية - الأميركية أو اللاعلاقة؟
- أنا لا أعتقد أن العلاقات بين الدول لا تنقطع، باستثناء العلاقة بين إيران وإسرائيل مثلاً. أما بالنسبة إلى إيران وأميركا فلا تعيشان اللاعلاقة، لأنّ طبيعة تداخل المصالح الدولية يفرض أن يكون هناك علاقة وراء الكواليس في حوارٍ ما، أو من خلال هذا النوع من أنواع التصادم في الكلام، فهذه تمثل علاقة ما، وهو حوار فيه شيء من العنف الكلامي الذي يحاول فيه كل طرف أن يجذب الآخر بطريقة الضغط أو الإيحاء... لذلك فأميركا الآن ودائماً تحاول تطويع إيران، بحيث تجعلها تعيش وتخضع للكثير من الضغوط التي جرّبتها أميركا على باكستان، والتي عاقبتها حتى مجيء قضية أسامة بن لادن، وحتى حين دخلت باكستان في ذلك الوقت لمصلحة أميركا، بقيت أميركا لوقت قريب حتى أفرجت عن الأسلحة من طائرات وغيرها...
إن إيران الآن، وبحسب طبيعتها، تشعر بالقوَّة، وتعرف أنَّ أميركا لا تستطيع أن تخوض حرباً ضدّها كالحرب التي خاضتها ضد العراق، لأن إيران غير العراق، ولأن الشعب الإيراني شعب محارب، وهو عندما يواجه خطراً خارجياً وعدواً خارجياً يتوحّد، وهذا تاريخ إيران منذ زمن. إن إيران تعتقد أن أميركا لن تستطيع أن تقوم بحرب ضدها، وهذا نقطة قوة لمصلحة إيران.
أما في ما يختص بإسرائيل، فالحديث يدور الآن على أن إسرائيل تحاول تدريب طيرانها المتطوّر لضرب المفاعل النووي الإيراني، ويكثر الحديث حول هذا الموضوع، ولكن إيران أيضاً تملك، من خلال الصواريخ العابرة للحدود والمتجاوزة للمسافات الفاصلة، أن تضرب إسرائيل، وحتى إنّها من خلال وجهة نظر إسرائيل، والتي لا يتحدث فيها حزب الله أو إيران، تستطيع حين تصل القضية إلى الخطوط الحمراء، أن تنفتح بالمسألة على كل الاحتمالات، فيدخل لبنان وسوريا في هذا المجال من خلال ردّ الفعل. كما إنّ إسرائيل لا تملك القوة المطلقة في هذا المجال بالنسبة إلى المفاعل النوويّ، خصوصاً أن هناك تعقيدات كثيرة في الجانب النووي تتعلق بالتعقيدات الروسية وغيرها. ثم تبقى مسألة الضغوط الدولية في الجانب النووي وهذه الضغوط ليست متحركة في خط واحد مستقيم، باعتبار المصالح الأوروبية واتفاقات إيران وأوروبا (ألمانيا - فرنسا - بريطانيا..) ثم إن إيران تستطيع الانسحاب - وهي تهدّد به - من الوكالة الدولية، وهو أمر يبعد الضغط عن إيران أميركياً، فهم يطالبونها لأنها خاضعة لوكالة الطاقة.
إن إيران تملك الكثير من الأوراق في المسألة النوويّة، لأنّ أميركا تتحدَّث عن الضغوط التي تضغط بها في أيلول من خلال قرارات وكالة الطاقة الدولية النووية، وأنها سوف تعرض المسألة على مجلس الأمن، وأعتقد أن تجربة أميركا مع كوريا في هذا الموضوع وتعقيدات القضية الكورية قد تفيد إيران في هذا المجال. إن المشروع النووي الإيراني، والذي تصرّح إيران أنّها تعمل به لأغراض سلمية، يجعل إيران تملك أوراقاً قوية في هذا المجال. ولهذا تحاول أميركا بطريقة وبأخرى الضغط عليها، سواء من خلال الوضع الإيراني - العراقي، أو من جهة علاقات إيران بالمنطقة. فإيران لها علاقات بتركيا وأذربيجان وروسيا، ولها مصالح تبقي المساحة الموجودة للدول الإقليمية بعناية بعضها البعض وبحماية مصالحها الإقليمية.
فإيران كما تضغط في العراق مثلاً على أميركا، بإمكانها ذلك في أفغانستان من خلال امتدادها في الحكومة الأفغانية. إن القضية ترتبط بالتداخلات والتجاذبات في هذا الموضوع.
* هل يمكن أن تصبح إيران قوة نوويّة عسكرية في رأيك؟
- في تصوّري أن إيران أعلنت أنها لن تتحوَّل إلى قوة عسكرية لأسباب معينة، ولكنّها إذا تضايقت، فإنها تملك الخبرة التي تستطيع بها أن تكون دولة نووية، وخصوصاً إذا جرّبت إسرائيل أن تضغط في هذا الميدان.
* ماذا عن الاستحقاق الرئاسي اللبناني؟
- إني ألاحظ أن الكلَّ يعيشون في ملهاة، ولكنَّهم يعرفون - مع كل الأسف - أنهم لا يملكون من الأمر شيئاً. فليس المجلس النيابي هو من يختار الرئيس، وليس كل ما يقال يؤخذ به، خاصّة ما يحكى من تعليقات صحفية وغيرها، من أن مسألة تعديل الدستور أصبحت صفراً وأرقاماً، فهذا كلام يعرف الجميع عدم واقعيته - ومع الأسف -، ويهمنا جداً أن يمسك اللبنانيون مصيرهم بأيديهم. لكن اللعبة هي هذه...
جريدة النهار:3 رجب 1425 الموافق في 19/08/2004
الحلقة السادسة
* هل يمكن أن تكون هزيمة أميركا في العراق هزيمةً للمجتمع الدولي الذي عارض حربها على العراق، وفي مقدَّمه أوروبا (فرنسا وألمانيا)، أم أن هدف هذا المجتمع هو تلقين أمريكا درساً فقط وليس إلحاق الهزيمة بها، ومن المستفيد من ذلك كله؟
ـ لا أتصوَّر أن كلمة "الهزيمة"، أياً تكن الظروف، يمكن أن تكون عنواناً لأي انسحاب أميركي في الدائرة الأميركية، لأننا قد نتصوَّر أن ينجح مرشَّح الحزب الديموقراطي ليسحب الجنود الأميركيين على أساس أنه خيار أميركي تفرضه المصلحة الأميركية، باعتبار أن إدارة الحزب الجمهوري بغبائها السياسي وأخطائها قد عقّدت العالم العربي والإسلامي ضدَّ أميركا، وأوجبت أن يقف هذا العالم بشكل مضادّ للسياسة الأميركية، لذلك لم تكن المسألة مسألة هزيمة، وربما تنطلق القضية من خلال التوافق مع أوروبا، وخصوصاً أنه يقال إنَّ من أخطاء الإدارة الأميركية في الحزب الجمهوري أنّها أبعدت أميركا عن حلفائها، لذلك قد تنطلق هذه المسألة من خلال التوافق مع حلفاء أميركا بطريقة يعيد المصداقية إلى مجلس الأمن أو ما إلى ذلك، وعند ذلك، لا تُعتبر المسألة مسألة هزيمةٍ حتَّى يقال إن هذه الهزيمة سوف تترك تأثيراتها على الدول الأوروبيّة.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الاتحاد مواقع الأكثرية، ولا سيما الموقع البريطاني. إلاّ أنّ الاتحاد الأوروبي يعيش أزمة عزلة عن المنطقة، ولهذا فهو يرحّب بأي نقطة ضوء تفتح له بعض المواقع في هذه المنطقة بالمستوى الذي يرافق فيه أميركا مثلاً في السياسات العامة التي تُطِلّ على تقاسم المسألة الاقتصادية، ولا سيّما بعدما واجه الاتحاد الأوروبي الإهانة الإسرائيلية عندما صرّح شارون بأنّه لن يسمح للاتحاد الأوروبي أن يكون له أي دور في مسألة الشرق الأوسط، وكان الردّ من سولانا أننا نتدخل سواء أراد شارون أو لم يُرد، ما يدلّ على حالة انفعال الاتحاد الأوروبي بذلك.
لهذا، وكما نعرف، فإنَّ طبيعة علاقات الدّول في هذا المجال ليست علاقات تواصل مئة في المئة، ولا تقاطع مئة في المئة، لأن لكل دولة مصالحها، ومن الطبيعي أن أميركا ضغطت بشكل كبير على الاتحاد الأوروبي، وأهانته من خلال رامسفيلد (أوروبا العجوز والقديمة)، وعلينا أن لا ننسى روسيا التي لا تزال في حالة عجز اقتصادي وسياسي، والتي تحاول أن تتكئ على أوروبا وتؤكد علاقاتها مع الصين التي انفتحت لها أبواب الشرق الأوسط ولو من خلال العلاقة المفتوحة على إيران، والتي تتخذ منها موقفاً مميزاً في المسألة النووية. إن المسألة ليست بهذه البساطة، لا في جانب السلب ولا الإيجاب.
* لنعد قليلاً إلى داخل العراق، هل يقبل سنّة العراق وشيعته أن يصبح عراق المستقبل إيرانياً بالمعنى السياسي طبعاً؟
ـ لن يقبل العراقيون ذلك، وإيران أساساً أصبحت في مستوى من الرشد السياسي من خلال مجلس الأمن القومي الذي يفكّر بطريقة براغماتية تقرب من تلك الأميركية، وهي تعرف أنها لن تستطيع تحويل العراق إلى حالة إيرانية، ولكنها تعمل على حماية مصالحها في العراق، كما تعمل على أن يجد العراقيون مصالحهم في إيران، وخصوصاً مع هذا النوع من الانجذاب العاطفي بين فريق كبير من العراقيين السنّة والشيعة، فإيران لها علاقات مع السنّة تماماً كعلاقاتها مع الشيعة، وخصوصاً مع الأكراد وغيرهم، لهذا فالمسألة ليست بهذا المستوى من السلبية، لأن إيران لا تفكّر من خلال تجاربها أن يكون العراق إيرانياً.
* من خلال مراقبة تجربة السيد مقتدى الصدر، كان واضحاً أن الغالبية الشيعية في العراق لم تكن مع توجّهه، ليس من ناحية قبول الاحتلال، بل من ناحية طريقة مواجهته. وكان واضحاً أيضاً أن المرجع السيد علي السيستاني وفّر غطاءً لمواقف الغالبية المذكورة، الأمر الذي أظهر مقتدى الصدر معزولاً داخل محيطه، فلجأ إلى العنف لأكثر من دافع، منها إنهاء الاحتلال. لكن قد يكون منها فرض نفسه وحركته على الغالبية الشيعية، من خلال استعماله الخطف والترغيب والترهيب وما إلى ذلك، إلا أن ذلك لم يؤثر على السيستاني، على الأقل حتى مغادرته العراق لأسباب طبية. ما رأيك في ذلك؟
ـ إن سماحة السيد السيستاني يمثل امتداداً للمرجعية الشيعية التقليدية، بقطع النظر عن أحداث العراق، فهو ليس موقعاً ينفتح على حالة سياسية - وهو ما يصرّح به - ولهذا فإن هذا النوع من الموقع المرجعي التقليدي يمثّل امتداداً للحالة الشيعية في كلِّ المراجع التقليدية، ومن الطبيعي أنه لم يُصدر فتوى بالمقاومة العسكرية، ولم يتدخل في مفردات ومعطيات الأمور، وإنما أعطى عناوين معيّنة. وبالنسبة إلى حالة التيار الصدري، فهي نشأت في ظروف عاطفية، باعتبار أن السيّد الشهيد محمَّد صادق الصدر فتح نافذة كبيرة للواقع الشيعي العراقي في صلاة الجمعة، وبدأ ممارسة دوره بطريقة لم يعهدها المراجع الذين لا يخطبون أو يندمجون بالجماهير بالمعنى الشيعي، فكان أن فتح هذا الباب، وحاول النظام السابق استغلال ذلك، ولكن السيد كان عصيّاً على الاستغلال، إلى أن شعر النظام الطاغي السابق بامتداده الشعبي الهائل على مستوى العشائر والشباب، وأصبح يُشار إلى صلاة الجمعة أنها مليونية، وقد ورِثَ ولده هذا التيار رغم عدم امتلاكه ذهنية سياسية بالمعنى "المبرمج" أو "المنظّم". ولكن جاءت الظروف العاطفية لجهة شهادة والده وأخويه، ومن خلال سقوط نظام صدّام، انفتح هذا التيار عاطفياً وشعبياً، وهو متنوّع ومختلط. ومن الطبيعي أن الظروف خلقت لهذا التيار خطوطاً ومناخات استطاع فيها التحرّك بشكل متنوّع بين الحالة السلمية والعنف، ولكن المسألة لن تكون بالشكل الاستقطابي، لا السلبي ولا الإيجابي، بل يبقى هناك حالة شعبية يمكن أن تنمو عندما تأتي الظروف الملائمة، ويمكنها أن تأخذ حجمها الطبيعي في هذا الشأن.
إن المستقبل العراقي لا يزال ضبابياً، لا يستطيع الإنسان عبره رصد أي قوة في العراق على أنها سوف تكون القوة الطاغية في المستقبل، حتّى الذين في الحكم لا يمثّلون قاعدة شعبية، وقد سمعت من بعض الشخصيات الكويتية أن الأميركيين طلبوا من الكويت - ولا أدري دقّة ذلك - دعماً لمن يمثّل الحكومة المؤقتة.
* ولكن الكويت بحاجة إلى دعم؟
ـ قد يكون دعماً مالياً أو غيره.
جريدة النهار:2 رجب 1425 الموافق في 18/08/2004
نعيش جنوناً أميركياً وجنوناً إرهابياً
* لماذا تترك إيران والسعودية وتركيا وسوريا الساحة العراقية بعد انتصارها على أميركا بفرض الانسحاب منه عليها لمصلحة قوة متعددة الجنسية تقودها الأمم المتحدة رغم استمرار الصراع بينها وبين الأميركيين, أو بالأحرى رغم استمرار هؤلاء في الضغط على كل منها، بل في مواجهة كل منها للانتصار عليها في القضايا المختلف عليها معها؟
ـ هناك فارق، إذ يمكن الاكتفاء بالنصر السياسي كمرحلة من مراحل الانتصار الذي قد تكسب منه هذه الدولة أو تلك بعض الشروط التي توازي الشروط الضاغطة من أميركا على هذه الدولة أو تلك, ولكن تبقى المسألة في خصوصيات هذه الدول، فعندما ندرس إيران، نرى أنها تخطط وتتحرك على أساس أن يكون لها موقع في العراق, مع الفارق الكبير طبعاً عن تخطيط أميركا في أن يكون لها موقع في المكسيك أو في كندا. لأن المسألة في هذه الحال تكون عراقية ـ إيرانية، كما كانت سابقاً قبل الاحتلال الأميركي في عملية التجاذب السياسي بين سلب وإيجاب وعنف وسلم. ومن الطبيعي أن المسألة الإيرانية ـ العراقية سوف تنفتح على مشاكل هناك، فإيران، مثلاً، تحاول الإفادة من هذه الأكثرية الشيعية بطريقة وبأخرى، سواء كان كل الشيعة معها أو لم يكونوا معها, وبوسائلها الخاصة، كما أن العراق يمكن أن يطل على إيران ليثير لها مشكلة في المنطقة العربية فيها أو في المنطقة الكردية فيها، عندما تتحرك الفيديرالية في هذا المجال.
وهناك نقاط أخرى قد تثار، منها قضية التعويضات الإيرانية التي قررها مجلس الأمن، وقد تكون مسألة الطائرات, وكل ذلك يبقي القضية في إطارها الإيراني-العراقي. ومن الطبيعي أن تلعب أميركا لعبة الضغط بما تملكه في العراق من نفوذ يبقى بعد زوال الاحتلال.
أما في المسألة السورية, فمن الطبيعي أن هناك مصالح سورية في العراق, ولا سيما عندما ندرس موضوع حزب البعث العربي الذي لا يزال التواصل فيه بين ما يسمى البعث العراقي والبعث السوري بطريقة وبأخرى. هذا بالإضافة إلى نوع التداخل بين الشعبين العراقي والسوري، سواء على مستوى العشائر هنا وهناك، أو على مستوى المصالح الاقتصادية المتداخلة بين سوريا والعراق.
وهكذا عندما ننطلق في المسألة التركية التي تطل على المسألة الكردية التي تثير خوف تركيا من الاتحاد الفيديرالي الذي تتحول فيه المنطقة الكردية دولة شبه مستقلة، ولا سيما إذا انضمت إليها كركوك؛ البلد الغني بالنفط، وخصوصاً أن هذه الدولة شبه المستقلة سوف تشجع حزب العمال الكردستاني. وهنا نلاحظ أن إيران، ومن خلال اتفاقاتها وتقاربها مع تركيا من الناحية الاقتصادية، بدأت من الناحية الأمنية تعتبر أن التعاون بينها وبين الأتراك في المسألةت الكردية يمثل مصلحة مشتركة.
وأضاف سماحة المرجع: أما مسألة السعودية، فإنها قد تفكر في أن تبقي الواجهة العراقية واجهة سنية، وهذا ما لاحظناه في مسألة المجلس الرئاسي عندما كان رئيس الجمهورية سنياً وقد قبل به الشيعة إلى جانب السنّة, وهي، بحسب وضعها الحالي، وخصوصاً في الجانب الأمني، وفي ظلّ التطورات السياسية والثقافية والأمنية، لا تملك أن يكون لها دورٌ فاعل على المستوى السياسي في العراق في هذا المجال بعيداً عن الأدوار الموضوعة للعراق. وأتصور أن المسألة سوف تتحول إلى قضية تجاذب إقليمي، ونحن نعرف جميعاً أن أميركا في موقعها الدولي والعالمي، تعرف أنه لا بد لهذا الموقع من أن يترك تأثيره على علاقات الدول الإقليمية: العراق وما حوله, سواء من خلال الضغوط أو من غير ذلك.
كما نلاحظه الآن في تصريحات المسؤولين العراقيين، وخصوصاً وزيري الدفاع والداخلية بشكل سلبي ضد إيران، ما يعني أن الصراع قد يعود مع إيران إلى ما كان قبل الاحتلال في ظل نظام صدام.
* هناك شرط واحد لحصول ما تتحدث عنه، وهو وقف العنف والإرهاب في العراق، أي توقف الجهات الخارجية عن التدخل لإذكاء العنف، وأن يصبح هناك, كما قلت, قوة متعددة الجنسية بعد انسحاب أميركا. كم يستغرق ذلك من وقت؟
ـ أجاب المرجع الإسلامي: هذا كله يتوقّف على انسحاب القوات الأميركية من العراق، فإذا انسحبت وأصبحت المسألة عراقية, وأصبح الجيش العراقي يمتلك عدداً كبيراً يستطيع به حفظ الأمن، وأصبحت قوى الأمن العراقية، سواء على مستوى المخابرات أو قوى الشرطة، قادرة على حفظ الأمن، فإن العراقيين قادرون على حفظ أمنهم واستقرارهم. لذلك، فإن الذين يمارسون الآن ما يسمى الإرهاب بحجة مواجهة المحتل، لن يستطيعوا حينها مقاومة جيش العراق، وخصوصاً إذا انضمت إليه القوة المتعددة الجنسية. ولكن الآن لا يمكننا أن نقول إن هناك جيشاً عراقياً قادراً على ذلك.
* نشعر جميعاً أن أعمال العنف أو المقاومة صارت تستهدف منذ فترة المؤسسة العسكرية ومؤسسة الشرطة لمنع بناء الدولة. فإذا عجز الأميركيون عن إقامة هذه الدولة لأسباب عدة، منها أخطاؤهم الكثيرة، فهل ستتمكن القوة المتعددة الجنسية في ظلِّ الظروف نفسها من تكوين أو بناء جيش عراقي أو قوات نظامية عراقية مسلحة؟
ـ نحن الآن نحاول تشخيص ما هو موجود على أرض الواقع, فهم يمنعون قيام الدولة لأن الدولة أميركية, وخاضعة للاحتلال، فإذا زال الاحتلال الأميركي، فلن تكون هناك خطة لمنع قيام الدولة.
* هذا رهان كبير وينطوي على مخاطرة كبيرة؟
ـ إننا عندما نتحدث عن هذه المعطيات، لا نريد تبسيط القضايا، نحن نعيش في عالم مجنون, سواء كان الجنون الأميركي أو الجنون الإرهابي, إن صح التعبير, لكننا نتحدث عن طبيعة المعطيات المطروحة كعناوين للأشخاص المتحركين في الساحة.
جريدة النهار:1 رجب 1425 الموافق في 17/08/2004
أميركا ستنسحب لمصلحة الأمم المتحدة
* كيف تخرج أميركا من العراق إذا كان سيتحوَّل إلى ساحة لعمل المتضررين منها ضدّها؟ وهل هناك إمكان أو قبول لدى مكوِّنات الشعب العراقي لأن تصبح أدوات، ولأن يصبح وطنها ساحة للإرهاب؟
- هذه مسألة تحتاج منّا إلى تدقيق، فالإرهاب دخل العراق تحت شعار محاربة الاحتلال الأميركي، فإذا انسحب الجيش الأميركي، افتراضاً، وجئنا لنطرح ملء الفراغ بالأمم المتحدة، بحيث تشكّل هذه الأمم القيادة ولا تكون مجرّد هيئة تسهّل موضوع الانتخابات أو ما إلى ذلك، فإن الشعار الذي حمله أولئك لن يفسح لهم في المجال للقيام بثمانين في المئة على الأقل، بما يتحركون فيه، لأنهم يعتبرون أنفسهم قد انتصروا على أميركا بخروج الجيش الأميركي أو القيادة الأميركية من العراق، وخصوصاً إذا رأينا أن الشعب العراقي، سواء من الذين يتحرّكون بالمقاومة العسكرية أو بالمقاومة السلمية، لا يرتاح إلى مسألة الاحتلال، ولا يوافق على ذلك، لأن الشعب العراقي حرّ في داخله. فصحيح أن هناك بعض الجهات، ككثير من الشعوب، التي قد تلعب وتستزلم للمخابرات الدولية أو لبعض الالتزامات والارتباطات السياسية هنا وهناك، ولكنّ الشعب العراقي شعب حضاري ويملك طاقات متقدمة على جميع المستويات، فهو لم يرفض السلطات المؤقتة رفضاً حاسماً، وأعطاها بعض الوقت لعلّها تستطيع إخراج المحتلّ، علماً أنه يعرف أنها حكومة لم تنتخب من الشعب، وإنما جاءت من خلال تنصيب أميركي أخذ غطاءً من الأمم المتحدة.
لهذا، فإن انسحاب أميركا وإبدال الوضع السياسي وحتى الأمني بقوّات متعدّدة الجنسية لن تكون فيها القوات الأميركية القوة الكبرى والقيادية، سوف يخفّف الكثير من الوضع الأمني المعقّد إذا لم ينهه تماماً. عندها لن تكون دول الجوار التي تخشى من الوجود الأميركي مضطرة إلى متابعة المواجهة، بل ستكون في وضعٍ يجعلها معنيّة بتسهيل هذه الجهات أو غضّ النظر عنها.
* رحّب الشعب العراقي، أو على الأقلّ نظر بإيجابية إلى الحكومة المؤقتة رغم معرفته أن أميركا هي التي عيّنتها، اقتناعاً منه بأنها تريد بناء الدولة أو إعادة بنائها. كيف ستقوم هذه الدولة من جديد إذا كان العراقيون أو جهات عدة منهم لا يمكّنونها من ذلك؟ وعدم تمكين الحكومة من إعادة بناء الدولة يعني أو يفترض وجود أهداف أخرى عند الذين يقومون بأعمال عنف أو "مقاومة" وعند من يدعمهم. وقد يكون من بين هذه الأهداف تقسيم العراق أو جعل قيامته مستحيلة؟!
- قلت إنَّ الشعب العراقي بعفويّته وبساطته يرغب في أن يحصل على الأمن كيفما كان، لكنَّ جهات أخرى تخطّط للمحاربة باعتبار هذه الحكومة واجهةً للاحتلال، ولا سيّما عندما لاحظنا التناقضات التي وقعت فيها هذه الحكومة، فبينما يُصرّح وزير دفاعها أن إيران هي العدوّ الأول، نجد رئيس الوزراء يصرّح: نحن نريد إيجاد علاقات طبيعية مع إيران... المسألة هي أن هذه الحكومة في نظر هؤلاء الذين يخطّطون لمواجهة الاحتلال يعتبرونها واجهةً للمحتل، ولذلك فإن هذا النوع من الانفتاح الشعبي لم يصل إلى درجة يستطيع فيها أن يعطي القوة لهذه الحكومة، وخصوصاً أن لغة الكثير من الوزراء أصبحت شبيهة بلغة النظام السابق.
* ممن ستتكوَّن القوَّة المتعددة الجنسية التي أشرت إليها إذا خرجت الولايات المتحدة من العراق وحلّت الأمم المتحدة مكانها؟
- ربما يُحكى عن دول إسلامية أو آسيوية. بعبارة أخرى، هناك دول لا يُنظر إليها على أنها دول تنفّذ الخطط الأميركية، وإن كان لها ارتباطات بأميركا. فهناك فارق بين أن تكون أميركا هي القيادة وهي المهيمنة والمسيطرة، وبين أن تكون لأميركا خطوط، وفي كلا الحالتين، فإن المخابرات الأميركية لن تترك العراق، وكذلك الموساد، فنحن لا نتحدث عن مستقبل عراقي مستقرّ وشبيه بالجنّة.
* يشكّل خروج أميركا من العراق على النّحو الذي تشير إليه نوعاً من الهزيمة لها، وخصوصاً للإدارة الجمهورية الحاكمة فيها. وأميركا كدولة كبرى أو عظمى، يمكن أن تتعرض لهزائم، ومع هذا، لديها القدرة مع الوقت على تحويل هزيمتها أو هزائمها انتصارات. لكن لا بد من الإشارة إلى أكثر من نوع من الانسحاب، فهناك حلول قوة متعددة الجنسية بقيادة الأمم المتحدة مكان قوات التحالف، وهناك أيضاً انسحاب القوات الأميركية إلى قواعدها العسكرية في الدول المجاورة للعراق أو إخلاؤها المدن والمناطق العراقية الآهلة. وانسحاب كهذا يمكِّن أميركا من معاملة المعادين لها في جوار العراق والمستغلين ساحته لضربها أو قتالها، بالأسلوب الذي يستعملونه، أي أن تترك الأوضاع الداخلية في هذا البلد تتفجّر، فينخرط هؤلاء فيه ويستنـزفون كلهم مع الوقت؟
- نحن نعرف أن أميركا دخلت العراق لخدمة مصالحها الاستراتيجية، وهذا ليس سراً، وأنها تريد للعراق أن يكون جسراً تعبر عليه إلى المنطقة، وأن أكثر من في المنطقة لا يملك من أمره شيئاً أمام الضغوط الأميركية والهيمنة الأميركية على مقدّراتها، ولذا فإن الصراع ينتقل من الجانب الأمني إلى الجوانب الأخرى السياسية والاقتصادية والأمنية والمخابراتية والاجتماعية والثقافية، وعند ذلك تفشل أميركا في إعطاء العراق الصورة التي تبشّر بها الإدارة الأميركية في أن تكون هي الدولة التي تقدَّم للمنطقة على أساس أنها تجسّد الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، لأن هذا يمثّل نكتة سياسية، عندما ندرك أن الديموقراطية لم تصل إلى أوروبا وحتى إلى أميركا إلا بعد عشرات السنين من الحروب، لأن قضية الديموقراطية ليست ما تفرضه وتضعه من فوق، وإنما تحتاج إلى شعب يعيش هذه المفاهيم وذهنية هذه القيم. ونحن نعرف أن الشعوب العربية ليست شعوباً ديموقراطية، ابتداءً من البيت في علاقة الأب بأولاده، امتداداً إلى الأحزاب والحركات والجمعيات. وإذا كان العراقيون يعتبرون أنهم يمارسون الديموقراطية من جهة حرية الكلام، فإنني أقول لهم إنكم بلغتم ما بلغناه في لبنان، وهو حرية الكلام، ولكنه ممنوع علينا حرية التغيير.
وإنّ القضية ستكون تماماً كما هي في دول الخليج أو في مصر والمغرب، عندما يتحوّل العراق من نظام صدّام المستهلِك، إلى نظام صدّام الديموقراطي المجدَّد.
جريدة النهار:29 جمادى الثاني 1425 الموافق في 16/08/2004
العراق ساحة لأميركا وأعدائها
* أشرتم إلى حصول تواصل بين "تيار الصدر" والجماعات الإسلامية السنية، لكن هذا التواصل بقي هشاً أو شكلياً، بمعنى أن أحداً لم يلحظ وجود مقاومة عراقية موحّدة، وكلّ ما لوحظ كان وجود جهات عدة ترفع شعارات المقاومة مع "روزنامة" مختلفة لكل منها. ما مدى صحة ذلك؟
- من الواضح أن احتلال أميركا للعراق جعل الساحة العراقية ساحةً للإرهاب، بصرف النظر عن رأينا في مفهوم الإرهاب، وأصبح كل الذين يحاربون أميركا في العالم يتحركون في الساحة العراقية، شاء العراقيون ذلك أو أبوا، وهذا ما نلاحظه في الحدود المفتوحة حول العراق، لأنها حدود لا يمكن أن يضبطها أحد، ولا يستطيع أحد ضبط الصحراء. وهذا أمر تعترف به حتى أميركا.
ونحن نعرف أنه حتى الحدود الأميركية مفتوحة، وكذلك الأوروبية، فما معنى دخول بعض الناس أميركا وأوروبا بطرق غير شرعية؟ لهذا أصبحت الساحة العراقية تختصر كلَّ الساحات التي تنفتح على محاربة أميركا. ولهذا، فإننا لا نجد هناك تأثيراً أو فعالية للأساليب التي تتم بها مواجهة الأميركيين في أكثر من بلد، حتى إن ما يحصل في اليمن أو السعودية أو ما حصل في المغرب، لا يمثل مشكلة كبيرة للأميركيين بالذات، وإنما يمثل نوعاً من التنفيس عن هذه التعقيدات التي أضاعت مسارها عندما ينطلق خط تفجيرات في مدريد أو المغرب أو السعودية أو في قتل المدنيين. إن هذا النوع من اعتبار العراق الساحة التي تختصر كل الساحات، أدى إلى نوعٍ من التداخلات المتنوّعة، ليس من الضروري أن تكون المسألة جماعة "القاعدة"، وخصوصاً أننا قرأنا، ولا ندري متى، أن الزرقاوي الذي يتهم بالكثير من الأعمال في العراق، على خلاف مع "بن لادن" كما يذكر صواباً أو خطأً، لأن هؤلاء الذين يسمّـون المتشدّدين أو السلفيين أو غير ذلك، لا يمثلون فريقاً واحداً، بل يمثّلون أفرقــاء متعدّديـن لهـم اجتهاداتهم المتنوّعة. ومن الطبيعـي أن تلتقـي هذه الجهـات الخـارجيـة بالكثيـر من العـراقيين، سواء من الذين تضرروا من سقوط النظام، أو من الذين تربّوا على الفكر السلفـي المتشـدد، أو الذين لا يـزالـون يتحركـون من خـلال الجيش العراقي الذي صودر أو صُفّي.
إضافة إلى أنّ دخول أميركا العراق، جعل أميركا على حدود سوريا وإيران والسعودية وتركيا. ومن الطبيعي أن هذا الجوار الأميركي لكلِّ هذه الدول، جعل هذه الدول تتحوّط لنفسها بمختلف الأساليب التي تتحوّط بها أميركا لنفسها عندما تجاور دولاً أخرى، يتواجد فيها بعض الفئات المعادية لواشنطن، الأمر الذي جعل اللعبة بين أميركا ودول جوار العراق لعبة القطّ والفأر، باعتبار أن أميركا تحاول أن تضغط على هذه الدول في خطوط سياسية معينة، سواء كانت بعنوان الحرب ضد الإرهاب، أو من خلال أوضاع معينة تتصل بمحافظتها على الحدود العراقية السورية الإيرانية التركية. ومن الطبيعي أن هذه الدول تعمل للحصول على شروط لمصالحها من أميركا، كما تريد أميركا أن تحصل على شروط لمصالحها.
هذه هي اللعبة الدولية التي لا يمكن أن يلغيها أحد. لم تكن المسألة كما تحدثت الحكومة العراقية المؤقتة أو مجلس الحكم السابق أن هناك مشكلة بين العراق وهذه الدول. لقد صارت المشكلة بين أميركا وهذه الدول المجاورة للعراق. وهذه الدول تنطلق بطريقة وبأخرى للضغط على الوجود الأميركي بالتناغم أو غض الطرف عن كل الفئات التي تريد دخول العراق لمواجهة الاحتلال الأميركي أو العبث بالواقع العراقي بطريقة أو بأخرى.
وأضاف سماحة المرجع: أتصوَّر أنَّ كلَّ هذه المظاهر الشاذة اللاإنسانية أو المظاهر المقاومة، قد أوجدت وحقَّقت (نصراً) على أميركا، لأنها أدخلتها في مأزق. فقد كانت أميركا تمنّي العراقيين بالأمن والرّخاء، وقد أصبحت الآن تواجه العمل المتحرّك لحماية جنودها وحماية الحكومة العراقية المؤقّتة من خلال حماية مراكز الشرطة والدفاع المدني، ما جعلها تبرز أمام العالم بشيء من المد والجزر حتى لدى الرأي العام الأميركي، وهو ما أوحته تصريحات المرشح جون كيري بسحب العدد الأكبر من الجنود الأميركيين في العراق بصرف النظر عن خلفيات الدعوة الرئاسية الانتخابية، ما يعبّر عن قلق في داخل الرأي العام الأميركي في مسألة وجود الجيش الأميركي في العراق. حتى عندما يتحدث كيري عن الخطأ الذي وقع فيه الرئيس بوش في احتلال العراق وإقحامه الجيش الأميركي هناك، يوحي بشيء ما من الخطأ الذي يحاول استغلاله في معركته الرئاسية، هذا بالإضافة إلى نقطة أخرى لا يزال الإعلام يتداولها، وحتى بعض السياسيين الأميركيين الذين كانوا في الإدارة أو الذين خرجوا منها، وهي أن الرئيس بوش فشل في الحرب ضد الإرهاب باحتلاله العراق، لأنّ دخوله لاحتلال العراق جمّع كل الإرهاب داخل العراق من جهة، وشغل أميركا من جهة عن كل المناطق الأخرى، وأصبحت الحرب ضد الإرهاب بطريق الوكلاء، حيث عُهِدَ إلى السعودية أن تحارب الإرهاب من خلال أمنها الخاص، وهكذا بالنسبة إلى اليمن وغيرهما... لهذا أتصور أن المسألة سوف تضطر أميركا إلى الخروج من العراق، وهذا ما كنت أتّفق فيه مع الصحافي البريطاني روبرت فيسك، ولقد قلت له ذلك قبل ذهابه إلى العراق، وقالها لي عندما زارني بعد عودته من العراق.
جريدة النهار:27 جمادى الثاني 1425 الموافق في 14/08/2004
هل "مقاومة" مقتدى الصدر مقاومة؟
* هل تعتبر ما تقوم به جماعة السيد مقتدى الصدر في العراق مقاومة؟
لعلنا إذا أردنا أن ندخل في تقويم هذه الحركة أو الظاهرة، فإنها في دراساتنا لبداياتها لم تكن حركة عنف. لقد كانت كل التصريحات توحي أنها أقرب إلى السلم منها إلى العنف، وإلى السياسة منها إلى القتال. ولذلك كانت الطريقة العادية التي يعبّر بها هؤلاء الناس عمّا يريدونه هي التظاهرات السلمية إضافةً إلى الصحيفة التي يعبّرون فيها عن آرائهم.
ولكن غالب الظن، مع كثيرٍ من المعلومات التي نقرأها أو نسمعها من خلال الإعلام، أن الأميركيين كانوا يحاولون استفزاز هؤلاء الناس باعتقال بعض شخصياتهم أو إغلاق صحيفتهم أو ما إلى ذلك، ما يوحي أن الأميركيين لا يريدون أن يكون في الساحة الشيعية تيار يمكن أن يتحوّل إلى تيار أمني أو عسكري، خصوصاً عندما انطلقت هذه الجماعة لتنشىء "جيش المهدي" الذي كان عنوانه عنوان الجيش الاجتماعي السياسي، أو عندما قامت بإيجاد نوع من العمل القضائي من خلال مجلس القضاء أو ما أشبه ذلك. ما نستوحيه من بعض الخطوات التي انطلق بها الاحتلال الأميركي، وخصوصاً من خلال بريمر، أنهم يريدون القضاء على هذه الظاهرة أو هذه الحركة حتى لا تتطور إلى أن تكون حالة شيعية ممانعة بالمعنى الذي قد يتحول إلى حالة عسكرية. ومن هنا - وربما - كان إغلاق الصحيفة أو اعتقال بعض الشخصيات، إضافةً إلى التضييق على بعض الأماكن والمواقع، تجربةً يراد منها اختبار ردّ فعل هؤلاء الناس.
وهكذا رأينا كيف تحوّلت التظاهرات السلمية إلى حركة عنف صغيرة كانت تطالب بإطلاق هذا المسؤول أو ذاك, أو إعادة ترخيص الصحيفة وما إلى ذلك. ومن الطبيعي أن التعقيدات الموجودة في العراق أوجدت نوعاً من التواصل بين هذه الحركة والفئات الأخرى تحت عنوان الحركة الإسلامية التي تنطلق في مواجهة الاحتلال الأميركي على أساس الوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة، ما أوجد نوعاً من التواصل والتداخل بين الجهات الإسلامية الشيعية والسنية, الأمر الذي فتح أمام هذه الظاهرة أفقاً جديداً بدأت تتطلع من خلاله إلى أبعد من الواقع الذي كانت تتحرك فيه. وقد رأينا كيف كانت تتّسع مساحة المطالب والأهداف في النجف وكربلاء وما يتبعهما من المناطق الأخرى التي يمتد فيها هذا التيار ويتحرك، وانطلقت الأمور بوضع أشبه بالحالة السلمية، وبدا كما لو أن الحركة كانت تتجه للتحول إلى السياسة بدل اختزان العنف، ولكن الاستفزازات الأخيرة التي حصلت من خلال تدخل الاحتلال, هذا التدخل الذي أريد له أن يكون أميركياً بغطاء عراقي من خلال تطويق بيت قيادة هذا التيار وبعض الاعتقالات في بغداد والنجف وغيرهما، جعل المسألة في تعقيداتها الداخلية والخارجية تنطلق في حركة عنف جديدة، وخصوصاً بعد دخول الأميركيين إلى النجف، وكان المفروض ألاّ يدخلوها حسب ما قيل عن اتفاقات سابقة.
وأضاف المرجع الأبرز:
"وقد بدأت قوات الحكومة المؤقتة من الشرطة والدفاع المدني تعتقل بعض جماعات هؤلاء ثم تخطف جماعة من الشرطة، ما خلط الأمور، ولا سيما أن هذا التيار ليس تياراً يمكنك أن تحدد كل عناصره وكل شخصياته, إنه تيارٌ جماهيري قد يتسلل إليه بعض العناصر التي كانت تنتمي إلى النظام السابق، كما يتهمه خصومه بالكثير من الخطوط التي يحاول البعض نسبتها إلى جماعة هذا النظام أو الجهات المتعصبة المتشددة هنا وهناك أو إلى الجهات الساذجة أو غير ذلك... وخصوصاً أن الناس ينسبون إلى بعض عناصره بعض الأعمال المضرّة بالناس، إضافة إلى أن النجف وكربلاء تعتبران من المدن التي تتمول من خلال زوّارها ومن الطبيعي أن وجود هؤلاء في دائرة الفوضى المثارة من خلال الفعل ورد الفعل، يجعل أهل هاتين المدينتين معقّدين من هؤلاء، لأن في ذلك قطعاً لأرزاقهم، ومنعاً للزائرين من المجيء لجهة الأمن, إضافةً إلى ما نعرفه من دخول المخابرات، ولاسيما قوات الاحتلال.
إن عنوان هذه الجهات هو مقاومة الاحتلال, كما إن شعارات هذه الحركة تتحدث عن أن الحكومة المؤقتة منصّبة من الاحتلال وتأتمر بأمره وتنفِّذ خططه، وأن المسألة ليست أن القوات العراقية التي لم تبلغ موقع القوة هي التي يراد لها الحفاظ على الأمن والسيطرة على الواقع، بل إن هذه القوات تمثِّل غطاءً للمحتل، وهو الأمر الذي يجعل القضية تفرض مواجهة المحتل من خلال هذه المقاومة، وما يستتبع ذلك من التحرك في ظروف خطرة ومميتة، وهو ما نشاهده عندما ينطلق أفراد من هؤلاء الشباب ليواجهوا الطائرات في أرض صحراوية وسماء مكشوفة. إن هناك فرقاً بين السلبيات المنسوبة إلى هؤلاء والسلبيات المنسوبة إلى الفريق الذي أسلفنا الحديث عنه في السؤال الأول. فربما يتهم هؤلاء المنتمون إلى هذا التيار ببعض السلبيات من جانب الناس، ولكنهم لا يتعمّدون قتل المدنيين أو الأبرياء, وقد تحصل بعض الحالات نتيجة انفعالات معينة أو حالات شخصية أو ذاتية. ولذلك يمكننا القول، بقطع النظر عن الصواب والخطأ وعن وجود خطة حكيمة أو مبرمجة أو عدم وجودها، إن هذه الحركة أو هؤلاء الناس مسكونون بمقاومة المحتل، وذلك بعيداً عن هذه الفوضى المذهبية من جهة وتيارات التشدّد من جهة أخرى.
جريدة النهار:26 جمادى الثاني 1425 الموافق في 13/08/2004
المسيئون إلى الناس مجرمون لا مقاومون
طغى موضوع العراق على العالم منذ أن شنّت أميركا جورج بوش "جونيور" حربها عليه في ربيع عام 2003، فهي نجحت في إطاحة نظامه ورئيسه صدّام حسين، لكنها فشلت، حتى الآن على الأقل، في توفير الأمن لشعبه أو "لشعوبه" إذا جاز التعبير على هذا النحو، وفشلت أيضاً في إقامة نظام بديل منه يرضي هذه الشعوب ويشعرها بالأمان لحاضرها ولمستقبلها، وفشلت كذلك في الاحتفاظ بالود الذي كنّه لها العراقيون الذين كانوا في معظمهم تواقين إلى الخلاص من قبضة صدام ونظامه، والذين كانوا يعرفون أن ذلك مستحيل من دون "تدخل" خارجي. وتسبّب فشلها هذا، سواء كان نتيجة أخطائها وقلة خبرتها وعدم معرفتها الكافية بالأوضاع في العراق، وعدم تقويمها المناخ العام في المنطقة, أو كان بسبب استثمار الخائفين منها داخل العراق وخارجه، ولا سيّما جواره, تسبب في تحولها إلى قوة محتلة بعدما كان طموحها أن تكون قوة محررة.
فشلت أميركا بوش المذكورة أيضاً في تحقيق نوع من الإجماع الدولي على سياستها العراقية قبل الحرب وبعدها، الأمر الذي سمح لقوى دولية كبرى بمناكفتها ومعارضتها انطلاقاً من أمرين بالغي الأهمية:
أولهما: المصالح السياسية والاقتصادية لهذه الدول التي ضربت بها أميركا عرض الحائط.
وثانيهما: القيم التي تؤمن بها، وفي مقدمها الحرية وحقوق الإنسان والتشاور بين الحلفاء، وتحديداً الذين منهم ديموقراطيون، ورفض الحروب الاستباقية والوقائية، والانفراد في القرارات الدولية، سواء كانت سياسية أو عسكرية. وفشلت أميركا بوش في الإفادة من الحرب العسكرية الناجحة على العراق لجلب أخصامها أو أعدائها في المنطقة إلى "بيت الطاعة"، لا بل ساعدهم فشلها هذا على استعمال العراق ساحةً لمقاومتها ولمواجهتها على نحوٍ ناجح حتى الآن، الأمر الذي جعلهم يعتقدون أنهم سينجحون في تجنب دخول "بيت الطاعة".
هذا الفشل كله انعكس انقساماً حاداً عمودياً وأفقياً داخل أميركا، شعباً وأحزاباً وإعلاماً ومؤسسات، بين فريق يؤيد الحرب ومتابعتها، وآخر يرفض استمرارها لأنها أضرت بالحرب على الإرهاب التي وافقوا عليها جميعاً بعد إرهاب 11 ايلول 2001، بل لأنها حولت العراق ساحة جديدة وكبيرة له، الأمر الذي ضاعف من الأخطار على مصالحها ورعاياها في الداخل والخارج. وكذلك لأنها أرهقت الاقتصاد الأميركي وأعاقت تعافيه أو ستتسبب بذلك في وقت غير بعيد.
لذلك كلّه، رأيت ضرورة التوجّه، وبعد انقطاع دام أكثر من أربعة أشهر، إلى المرجع الديني الأبرز في التيارات الإسلامية الأصولية الشيعية اللبنانية، لمعرفة رأيه في ما يجري داخل العراق الآن، وفي انعكاساته على المنطقة وكيفية الخروج منه، وذلك نظراً إلى سعة علمه وأفقه، وإلى عمق معرفته واطلاعه اليومي، ومن مصادر متنوعة بعضها عراقي، على الكثير مما يدور في الساحة العراقية والساحة الدولية، هذا فضلاً عن قدرته الفائقة على التحليل والاستخلاص والاستنتاج. طبعاً قد لا "ينبسط" المعنيون باستحقاق الانتخابات الرئاسية في لبنان من ذلك، وهم كثر، سواء في الأوساط السياسية أو الشعبية، لأنه وحده المستحوذ على اهتماماتهم، لكن التعرض لموضوع العراق، وعلى مدى بضعة أيام، مهم، لأن آثاره لن تقتصر على الداخل فيه، وإنما تتعداها إلى كل المنطقة وربما العالم, وكذلك لأن أحداً من المتابعين والمعنيين عن قرب بالحركة الرئاسية في لبنان، إذا جازت تسميتها كذلك، لا يتوقع حسما لها أو بتاً في الأيام القليلة المقبلة، إلا إذا حصلت تطورات مفاجئة وسريعة على استبعادها.
السؤال الأول الذي وجهته إليه كان:
* هل تعتقد أن ما يجري في العراق الآن مقاومة، وخصوصاً في ظل عمليات خطف الأجانب وإعدامهم واستهداف أبناء الشعب العراقي ومؤسساتهم?
عندما نتحدث عن عمليات المقاومة، فلا بد لنا من تحديد المصطلح، فإذا كان مصطلح المقاومة يعبّر عن الحركة التي تخطِّط وتعمل من أجل مواجهة المحتل لإخراجه، فقد لا يكون الكثير مما يحصل يدخل في هذا المصطلح, لأنه لا معنى لمقاومة تجتاح المدنيين والأبرياء بشكل عشوائي, ولا معنى لمقاومة تخطف الأشخاص بطريقة وحشية، ولا سيما ممن جاؤوا إلى العراق لتحصيل لقمة العيش، أو الذين يمارسون الخطف لابتزاز الشركات التي ينتمي إليها المخطوفون للحصول على فدية لقاء موظفيهم, أو الذين يتحركون على أساس ذهنية سلفية تختنق في داخل التعصب المذهبي، كما قرأنا لدى بعض الذين ينسبون لجماعة الزرقاوي كمرشدين للفتوى باستحلال قتل الشيعة، أو الذين يفجّرون المعابد والتي تمثل آخرها بتفجير الكنائس، وهو ما يحصل للمرة الأولى في تاريخ العراق.
إن هؤلاء الذين يسيئون للناس المدنيين وللمؤمنين من أي دين ومن أي مذهب كانوا، والذين يقتلون الأبرياء دون حق، هم مجرمون وليسوا مقاومين.
إن المقاومة هي التي تخطط لمواجهة المحتل، وإذا كان البعض يتحدث عن أن قتل الرهائن يمثِّل ضغطاً على دولتهم أو على الشركات المنتمين إليها والعاملين فيها، فإن هذا النوع من الضغط ليس إنسانياً وليس سياسياً، لأنه يعطي صورة وحشية عن هؤلاء الناس، ولا سيما عندما يتطلع الناس والمجتمع إلى عوائل هؤلاء وإلى أطفالهم وأهلهم وهم يتوسلون ويبكون ويتذللون. إن مثل هذا يجعل المقاومة التي يقفون خلفها أمراً وحشياً لدى الناس، حيث لا يمكن أن يحترمها الرأي العام العالمي الذي يتحمس لقضية العراق ولإخراج المحتل منه.
إن مثل هذه الأعمال قد تنتج بعض الإيجابيات كما حصل بالنسبة للفيليبيين، لكن الشعب العراقي لا يستطيع أن يحترم مقاومة كهذه، ولا يمكن للعالم العربي والإسلامي أن يقبلها، لأن ما تنتجه هذه المنظمات يشوّه صورة الإسلام، كما يشوه كل صورة عراقية أو قومية أو غير ذلك.
إننا لا نعتقد أن الكثير مما يحصل في العراق يمكن أن نضعه في خانة المقاومة بالمعنى السياسي التحريري وما إلى ذلك.
جريدة النهار:25 جمادى الثاني 1425 الموافق في 12/08/2004