إدخال القوّات الأميركية إلى النجف يشكِّل هتكاً للمقدّسات

إدخال القوّات الأميركية إلى النجف يشكِّل هتكاً للمقدّسات

فضل الله لـ «الرأي العام»: إدخال القوّات الأميركية إلى النجف يشكِّل هتكاً للمقدّسات، ومن الصعب جداً حل المسألة عسكرياً نظراً لخصوصية المدينة في القداسة لدى السنّة والشيعة

رأى المرجع الشيعي العلامة السيد محمد حسين فضل الله، أن «ما يجري في النجف وما قبلها في مدينة الصدر في بغداد، ينطلق من استفزازات أميركية للقوى التي لم تكن تفكِّر بالمقاومة العسكرية»، مشيراً إلى «أن القوات المواجهة والمناهضة للاحتلال استطاعت نقل المعركة إلى أكثر من مدينة في العراق، وأن توحّد المواقع الإسلامية من سنّة وشيعة أشعر العالم أن هناك مقاومة عسكرية للاحتلال».

وشدَّد على أن «من الصعب جداً حل مسألة النجف عسكرياً، نظراً لخصوصيتها في القداسة لدى السنّة والشيعة»، معتبراً «أن مجرد إدخال القوات الأميركية إلى النجف يمثِّل هتكاً لحرمة المقدَّسات، بقطع النظر عما تفعله هذه القوات، وأنه لا يجوز لأي حكومة أن تسلِّط جيشاً غير مسلم ليقتل المسلمين حتى ولو كانوا مخطئين، وتالياً فإن المسألة تتجاوز جيش المهدي».

وإذ رأى أنه كان في الإمكان أن تحلّ مسألة النجف بالطرق السلمية والديبلوماسية، شدد على «أن الحكومة العراقية المؤقتة دخلت في إطار الخيانة والجريمة الكبرى في هتك حرمة النجف، وأنها تتبع سياسة أميركية مئة في المئة».

واستبعد أن يكون المرجع الشيعي في العراق السيد علي السيستاني أعطى الضوء الأخضر للأميركيين بالدخول إلى النجف، وقال: «لا أتصوَّر أن سماحة السيد السيستاني يمكن أن يفكر بهذه الطريقة، ولا يمكن لأي مرجعية مهما كانت قوتها، أن تعطي الضوء الأخضر للقوات الأميركية لتدخل النجف وتقتل المسلمين».

وكشف فضل الله بعض ما قاله لرئيس الحكومة العراقية أياد علاوي خلال استقباله له في دمشق، حيث دعاه «لأن يكون عراقياً ولا يكون أميركياً»، ولفته إلى «أن خطابه فيه ملامح من خطاب صدَّام حسين»، وحذّره من التعرض لمقتدى الصدر، وأكد له «أن الحل لمشكلة العراق هي الأمم المتحدة»، مشدداً على «أن الشيعة في العراق ليس لهم مشروع دولة شيعية ولا يفكّرون في التقسيم».

وإذ أكَّد أهمية اللقاءات الشيعية التي حصلت في الأيام الأخيرة في لبنان، و«انها كغيرها من اللقاءات دليل عافية»، اعتبر أن «الكلام عن أن لقاءاته الأخيرة تأتي على حساب حزب الله لا قيمة له»، مجدداً رفضه بصفته المرجعية أن يحبس نفسه في زنزانة لبنانية شيعية أو غير شيعية.

وفي موضوع الاستحقاق الرئاسي، دعا إلى التفتيش عنه خارج لبنان «لأن اللبنانيين لا يملكون من أمرهم شيئاً»، معتبراً «أن مشكلة لبنان هي النظام الطائفي، فهو السرطان الذي يوزِّع كل مفاعيله على كل الواقع السياسي اللبناني».

مواقف المرجع السيد فضل الله جاءت في حديث خاص لـ «الرأي العام» هذا نصه:

أبعاد الهجوم على النجف وطرق معالجته

س: تعيش «النجف الأشرف» تطوّرات دراماتيكية، في ضوء الهجوم الأميركي على «جيش المهدي»، كيف تقرأون هذا الحدث؟

ـ من خلال متابعتي للأحداث التي تجري في العراق، ألاحظ منذ الاحتلال حتى الآن، أن أميركا تحاول أن تخضع كل قوة تتمظهر بمظهر سياسي أو ديني، لتملك مواقع القوة كلها في العراق، ولا سيّما بعد أن منيت بالكثير من النكسات الأمنية التي أظهرت احتلالها للعراق بالصورة التي تمثل فشلها في هذه الحركة العسكرية ـ السياسية من جهتين:

- الأولى: هي أنها أعطت العراقيين وعداً بالأمن بجميع عناصره، سواء كانت العناصر الأمنية أو الاقتصادية أو السياسية أو غيرها، لتقديم عراق جديد كنموذج للمنطقة كلها، ولاحظنا أنها فشلت في ذلك، وأصبحت تدافع عن أمن جنودها الذي تحوّل مشكلة للمواطنين العراقيين في بيوتهم، كالقصف العشوائي الذي تمارسه القوات الأميركية للدفاع عن نفسها، ما جعل عدد القتلى من المدنيين يتعاظم بشكل كبير جداً، وربما يتساوى بالقتلى الذين سقطوا من جراء جرائم صدام حسين، حتى إن الأعداد التي تتحدث عن مئات القتلى تفسح المجال لمقابر جماعية جديدة.

- الثانية: هي أن أميركا برزت أمام العالم أنها تخوض حرباً في مستوى احتلال العراق من خلال كذبة كبيرة قدمتها للعالم ولمجلس الأمن، وهي مسألة أسلحة الدمار الشامل، فقد اكتشفت هي وحليفتها بريطانيا أنه ليس هناك أي سلاح للدمار الشامل، ما جعل اتّهامها لأكثر من دولة عربية أو إسلامية بصنع أسلحة الدمار الشامل وضغطها عليها لا يحمل أي مصداقية لأنّ العالم لم يعد يثق بهذه المسألة ويعتبرها مجرد ضغط سياسي لا يرتكز إلى أساس، وربما انعكس هذا وذاك على الرأي العام الأميركي، والذي ربما يجد تأثيره السلبي على الانتخابات الرئاسية للرئيس الحالي.

س: برزت إلى الواجهة الآن مسألة الهجوم على النجف الأشرف، والقصف الذي طاول العتبات المقدسة، ولا سيّما الصحن الحيدري، ما هو موقفكم من ذلك؟

ـ نحن نلاحظ أن أميركا تريد أن تقوم بضربات عسكرية قاسية، حتى في الموقع الذي يعتبر من المقدَّسات لدى الشعب العراقي والمسلمين بشكل عام، بحيث تهيئ الظروف للقيام بذلك من خلال استفزاز الجهات التي ربما تنفتح على مقاومة عسكرية جديدة في الموقع الشيعي، الذي كانت أميركا تتحدث عن أنه هو الموقع الذي يستقبل جنودها، وهو الموقع الذي لا يؤمن بالمقاومة العسكرية، بل بالمقاومة السلمية.

لذلك كانت الحركات الأخيرة في النجف الأشرف وما قبلها أيضاً في مدينة الصدر في بغداد، تنطلق من استفزازات أميركية لهذه القوى التي كانت لا تفكر في مقاومة عسكرية، وكان هدف واشنطن أن توجه الضربة القوية، لتستعيد بذلك عنفواناً عسكرياً فقدته بفعل خسائرها التي حدثت في العراق، وكانت مسألة النجف التي امتدت في حركة القوات المواجهة والمناهضة للاحتلال إلى أكثر من مدينة في العراق، ولا سيّما في الجنوب، وهذه القوات المواجهة استطاعت أيضاً أن توحّد المواقع الإسلامية من سنّة وشيعة، من الشمال إلى الجنوب، ليشعر العالم أن هناك مقاومة عسكرية للاحتلال الذي يتغطّى الآن بالحكومة العراقية المؤقتة، ليتحدث المسؤولون العراقيون أنّ المسألة عراقية ـ عراقية، وأن القوات المتعددة الجنسيات مساعدة للحكومة العراقية المؤقتة. ونتصور الآن أنّ إدارة الحكومة العراقية المؤقتة لمسألة النجف غبية جداً، إذا أردنا أن ندرس الأمور دراسةً موضوعية سياسية، لأن من الصعب جداً حلّ مسألة النجف عسكرياً، ولأنّ قضية النجف امتدت إلى العالم ولم تعد تمثل هذه المنطقة المحدودة من الناحية الجغرافية، لأن للنجف خصوصيتها في القداسة التي يجتمع عليها المسلمون في العالم من سنّة وشيعة، لذا فإن هناك مأزقاً تعيشه الحكومة المؤقتة كما تعيشه القوات الأميركية في مسألة الهجوم على النجف تجاه القوات المدافعة عنها، الأمر الذي جعل منطق القوة الذي برزت به الحكومة المؤقتة أو الذي برز به وزير الدفاع الأميركي يفقد معناه، لأنّ الحكومة منذ المؤتمر الصحافي لرئيسها قالت إن المسألة مسألة ساعات، وها هي تراوح مكانها في هذا المجال.

لذلك فإنني أتصوَّر أن الأميركيين في قصفهم المتواصل للمدينة القديمة المحيطة بمرقد الإمام علي (عليه السلام)، والذي قد ينتهي إلى السيطرة على النجف، لن يحل المشكلة، لأن القضية سوف تمتد إلى كل مكان في العراق، ولا سيّما إذا أصيب مرقد الإمام علي بالذات، أو إذا دخلت القوات العراقية، كما تعلن الحكومة، إلى الصحن الشريف، فإن ذلك سيترك تأثيراً كبيراً على المرقد، ويؤدي إلى مذبحة داخله، ما لا يمكن أن يكون في مصلحة الحكومة العراقية أو في مصلحة أحد.

إننا مع الكثيرين من المسلمين، لا نتوقَّف عند مسألة العنف الذي يواجه المدافعين عن النجف أو المواجهين لقوات الاحتلال، لكننا نجد أن مجرد إدخال القوات الأميركية إلى النجف يمثل هتكاً لحرمة المقدسات، بقطع النظر عما تفعله القوات الأميركية في النجف، لأنّ المبنى الفقهي الإسلامي لا يجوّز لأي حكومة أن تسلِّط جيشاً غير مسلم ليقتل المسلمين حتى لو كانوا مخطئين. وفي ضوء هذا، فإن المسألة تتجاوز جيش المهدي لتكون في دائرة الجريمة الكبرى في إدخال الأميركيين إلى النجف تحت أيِّ طائل، ولو أرادت الحكومة العراقية أن تحل المشكلة القانونية وأن تمنع الفوضى أو ما إلى ذلك، لكان في إمكانها أن تقتصر على الجيش العراقي أو قوات الأمن العراقية التي إذا حشدتها فربما تحلّ المشكلة، كما إننا كنا ولا نزال نعتقد أن هناك أكثر من وسيلة لحل المسألة بالطرق الديبلوماسية، لأننا نتصور كما قلنا أن المسألة لا يمكن أن تحل عسكرياً، ونحن في الوقت الذي نؤكد على حرمة المقدّسات، كمرقد الإمام علي ومقبرة وادي السلام، نؤكد أيضاً ودائماً أن حرمة الإنسان العراقي هي أكثر قداسةً من حرمة المراقد، وأن حرمة المرقد المقدس إنما هي من جهة التسامي في حرمة الإنسان، لأن الإنسان يحتضن في إيمانه هذه المقدَّسات، والاعتداء على المقدّسات هو اعتداء على الإنسان نفسه، كما إننا نعتبر أن الاعتداء على الإنسان هو اعتداء على المقدّسات.

التباسات حول دور المرجعية في النجف

س: لاحظ المراقبون أن الهجوم على النجف جاء بعد أقلّ من 24 ساعة من مغادرة المرجع الشيعي السيد علي السيستاني للنجف من أجل العلاج في لندن، والبعض يقول إنّه من أعطى الضوء الأخضر بالهجوم؟

ـ لا أتصور أن سماحة السيد السيستاني يمكن أن يفكر بهذه الطريقة، لأن المحيطين به صرَّحوا أنه خرج من النجف للعلاج الصحي، ونقل عن أجهزة الإعلام أنه خضع لبعض العمليات في القلب، وربما كان بعض الناس المحيطين به يفكّرون، في أن حياته قد تكون في خطر، لأن الأحداث كانت مقبلة، ولا سيّما أن بيته قريب من المرقد المقدس.

س: يقال إنه ضاق ذرعاً بتصرّفات السيد مقتدى الصدر واستيلائه على مقدرات المقدّسات؟

- لا يمكن لأي مرجعية مهما كانت قوّتها، أن تعطي الضوء الأخضر للقوات الأميركية لتدخل النجف ولتقتل المسلمين، لأن المرجعية أياً كانت تحمل أمانة الحفاظ على المسلمين وحماية الأماكن المقدّسة من الفوضى ومن عدوان الكافرين في المصطلح الفقهي في هذا المجال، لذلك فإن هذه الملاحظة التي كان يتحدث بها الإعلام، لا تتناسب مع تفكير إنسان مؤمن عادي، فكيف يمكن أن تتناسب مع تفكير مرجعية كبرى!

س: ولكن ألا ترى أن وضع المرجعية في النجف ضعيف بعدما أصبحت المقدّرات في يد السيد الصدر، وهناك معلومات عن دعوات عدة وجهت إليكم لتولي المرجعية هناك؟

ـ أعتقد أن الظروف الحاضرة لا تسمح لي بالذهاب إلى العراق، ولكنني أتابع القضية العراقية على مستوى الساعة.

الحكومة العراقية أمريكية بامتياز

س: أثار استقبالكم رئيس الحكومة العراقية أياد علاوي في دمشق تساؤلات كثيرة، خصوصاً أنكم تؤكّدون عدم شرعية هذه الحكومة، ورشح عن اللقاء أنكم نصحتم علاوي أن لا يكون أميركياً أكثر من الأميركيين؟

ـ أنا لم تكن لي علاقة به، ولكنني كنت أعرف تزعّمه لحزب الوفاق الوطني وقربه من الأردن الذي يمثل سياسة معينة نعرفها جميعاً في العلاقات مع أميركا، وصرّحت منذ أن تسلَّم الحكومة العراقية المؤقتة برفض هذه الحكومة واعتبارها غير شرعية، لأنها ليست منتخبة من الشعب العراقي، وربما أثار بعض حديثي آنذاك شخصه، والذي جاء في أجواء حديث الإعلام عن تاريخه وعلاقته بـ «سي، أي، إي»، وقد طلب مقابلتي في سوريا، ووافقت على استقباله، لأنني في موقعي المرجعي المسؤول أجد أنه عليّ أن أستقبل كل الناس، وعندما جاء قلت له: "كن عراقياً ولا تكن أميركياً"، كن رئيس حكومة العراق ولا تقف للدفاع عن أميركا وعن موقعك منها، وقلت له أيضاً، إننا نلمح في بعض خطابك، في التهديد بالقوَّة للخارجين على القانون حسب رأيك، نلمح ملامح خطاب صدام حسين. حاول أن يكون خطابك خطاباً لا يبتعد عن الحزم كرئيس وزراء، ولكن ليس بهذه الطريقة. ومن كلامي له، أن العراق لن يستقر ما دامت القوات الأميركية موجودة فيه، في الموقع السياسي، وأن الحلّ لمشكلة العراق هي الأمم المتحدة، لا أن تأتي لإدارة الانتخابات فقط، ولكن لتكون هي القيادة حتى للقوات المتعددة الجنسيات، بما فيها القوات الأميركية. وأيضاً تحدثت إليه أن يتحرك مع كل القوى السياسية، في إبعاد العراق عن الجدل الطائفي، وأن الشيعة في العراق ليس لهم مشروع دولة شيعية، ولا يفكرون بالتقسيم، بل يريدون أن يكونوا مواطنين كبقية المواطنين، يأخذون حقوقهم كاملة غير منقوصة، لأنهم لا يفكرون في اضطهاد أحد، كما لا يريدون لأحد أن يضطهدهم، وقلت له أيضاً إياك أن تتعرض لمقتدى الصدر، لأنه لا يشكِّل خطراً على العراق، ويمكن التعامل معه بالحوار والوسائل السلمية، وأن تكون علاقاته بالجوار جيدة، ولا سيّما سوريا وإيران.

س: ألا ترى أنه يجب إعطاء فرصة للحكومة العراقية؟

ـ حسب متابعاتي العميقة جداً، أتصور أن السياسة التي تسير بها الحكومة العراقية سياسة أميركية مئة بالمئة، وخصوصاً تجاه ما سمعناه أثناء المفاوضات حول النجف، عندما بدت القضية تتجه نحو نتائج إيجابية كاملة، ولكن فوجئ الذين ينفتحون على المفاوضات بالاتصال من رئيس الحكومة في بغداد بإيقاف المفاوضات والإعلان عن فشلها، ما يعني أن الخطة هي أن توضع الكرة في ملعب جيش المهدي، ليقال للعالم إننا فاوضنا ولكننا فشلنا، لا من جهتنا بل من جهة الآخرين، ليكون ذلك حجة لضرب هذا الجيش.

س: ولكن هذا الجيش صادر القرار الشيعي، ووضع الجميع في النجف أمام الأمر الواقع؟

ـ لست الآن في مقام تقويم هذا الجيش، لأنني حسب الواقع لست مطّلعاً على تفاصيله ومفاصله، ولكن الموقف الآن يتراوح بين من ينظر إليه بسلبية مطلقة ومن ينظر إليه بإيجابية مطلقة، من جماعة، وإيجاب كلي من جماعة أخرى في النظرة إليه، وأيضاً هناك الخط الوسطي الذي يشير إلى بعض التجاوزات التي يرتكبها هنا أو هناك، ولكن من المؤكد أن النظرة السلبية والاتهامات المطلقة ليست واقعية. نحن لا ننكر أن هناك تجاوزات، ولكن المسألة يمكن أن تحل بالطرق السلمية، وبأكثر من وسيلة، حسب معرفتنا واتصالاتنا الدائمة بفعاليات العراق من بعض الأطياف السياسية المؤثرة، وأنا كنت أقول حقيقة، إن المسألة ليست مسألة مقتدى الصدر، بل إنّ مجرد إدخال القوات الأميركية إلى النجف هو انتهاك لحرمة النجف، وإن إرسال الأميركيين لقتل المسلمين حتى المخطئين، هو أمر محرم شرعاً ولا يجوز لأحد القيام به، المسألة تجاوزت جيش المهدي ومقتدى الصدر، ونحن نعتبر أن الحكومة العراقية دخلت في إطار الخيانة الكبرى والجريمة الكبرى في هتك حرمة النجف بهذه الطريقة.

لذلك نحن لا نريد التعليق على طبيعة هذا الجيش أو على طبيعة قيادته والدخول في جدل حول ما إذا كانوا مخالفين للقانون وناشرين للفوضى وما إلى ذلك، نحن نعتبر أن الحكومة العراقية التي كانت غطاءً للجيش الأميركي في النجف أساءت إلى حرمة المقدَّسات الإسلامية، بقطع النظر عن النتائج.

المقاومة الشيعية العسكرية

س: منذ بدء الاحتلال الأميركي للعراق، كان الجو الشيعي يميل إلى عدم اللجوء إلى المقاومة العسكرية، ولكن ظاهرة مقتدى الصدر خالفت هذا الجو؟

ـ الشيعة ثوار منذ كربلاء، منذ الإمام علي (ع)، لأنهم مسلمون، والإسلام ضد كل ظلم واحتلال، ولكن التعقيدات التي كانت تجمعت من خلال حكم الطاغية صدام حسين، جعلت الوضع العراقي يعيش في صدمة، وجعلت الخدعة الأميركية تنطلي على الكثيرين، من أنهم جاءوا محررين وليس محتلين، ولكن بعد ذلك اضطروا، بفعل قرار مجلس الأمن، لتبرير الجانب القانوني، لأن يقولوا إنهم محتلون.

س: هل تعتقد أن حركة السيد الصدر عراقية بالكامل، أم إن لها امتدادات خارجية، وخصوصاً إيرانية؟

ـ الحديث عن ذلك مبالغ فيه، لأن إيران حسب طبيعة ما نتابعه من أحداث، لم تتبنَّ هذه الحركة، ولكن لا يمنع من أن تتعاطف معها، لأن هناك حقيقة لا بد أن يعرفها الجميع، وهي أن أميركا أصبحت على حدود إيران، كما أصبحت على حدود سورية وتركيا والخليج، ولهذا فإن إيران التي تعيش الكثير من التعقيدات في علاقتها السياسية مع أميركا، لا بد أن تستفيد من أي وضع أو حدث يمكن أن يربك الوجود الأميركي في العراق، كما إن سورية أيضاً، في تعقيدات علاقاتها مع أميركا والضغط الأميركي من خلال قانون محاسبة سورية مثلاً، لا بد أن تستفيد من ذلك، كما تستفيد أميركا من أي حدث في أي دولة أخرى تعيش تعقيدات سياسية أو أمنية معها.

س: الشيعة في لبنان، كيف يتعاطون مع هذا الهجوم الأميركي على النجف، فباستثناء «تظاهرة الأكفان» التي نظمها «حزب الله» منذ أشهر، لم نشهد أي تحرك عملي إزاء ما يحدث؟

في لبنان طليعة المقاومة في العالم الإسلامي، وقد استطعنا أن نحرر أرضنا بدمائنا وبجهدنا، في كل فصائل المقاومة، ربما تكون بعض الظروف لا تسمح بأي حركة مقاومة بالمعنى الميداني، بحيث يذهب اللبنانيون المقاومون إلى العراق ليقاوموا، لأن الظروف لا تسمح بذلك، لكن ربما كانت القضية: فليسعد النطق إن لم تسعد الحال، وهذه اللقاءات والاجتماعات والمسيرات التي دللت على أن لبنان يقف في وحدة ليست شيعية فحسب، ولكنها وحدة إسلامية مسيحية ضد الاحتلال الأميركي للعراق، ولا أظن أن هناك بلداً عربياً أو إسلامياً يقف هذا الموقف الموحد الرافض للاحتلال الأميركي مثل لبنان، لبنان هو الرئة التي يتنفس منها العالم الإسلامي في كل قضاياه بما يستطيع في هذا المجال، وها نحن نجد أن لبنان هو البلد الذي يقيم خيمة الحرية ليلتقي بها كل اللبنانيين، لتكون رسالة إلى المسيحيين والمسلمين بمذاهبهم في العالم، بأن هناك وحدة إسلامية ـ مسيحية علمانية في مواجهة كل ظلم إن كان إسرائيلياً أو اميركياً.

اللقاء الشيعي ـ الشيعي في لبنان

س: واضح أن الساحة الإسلامية الشيعية في لبنان تشهد حراكاً هذه الأيام، منذ أيام كنت في صور، حيث عقد لقاء موسَّع ضمكم ورئيس البرلمان نبيه بري، وأعقبه بعد أيام لقاء آخر في حبوش لبعض «النخب»...

ـ في لبنان تكبر القضايا الصغيرة وتصغر القضايا الكبيرة، بحكم التعقيدات اللبنانية التي يعيشها الوسط السياسي الذي يحاول أن يجعل من الحبة قبة، من الطبيعي أن يجتمع الشيعة في لبنان، وأن يلتقوا ويتباحثوا، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي، ومن الطبيعي أن يكون بين المسلمين الشيعة، ما هو بين المسلمين السنة والمسيحيين من خلافات سياسية أو ما أشبه ذلك، ولكن اللقاءات على كل حال، حتى مع اختلافها في وجهات النظر، تمثل عافية وصحة، لأن المشكلة في بعض أوضاع العلاقات التي تختلف فيها الأحزاب والناس، هي الثقافة، نحن نعتقد أنّه ليس هناك مشكلة في تختلف مع الآخر وأن تلتقي به وتتحدث معه في ما تختلف معه أو في ما تلتقي معه فيه، لذلك أعتقد أن كل ما حدث من لقاءات، ربما لم تكن سابقاً، هي دليل عافية ولا أعتقد صحة في هذا المجال، وأن اجتماعاً ما هنا واجتماعاً ما هناك يمكن أن يمثل موقفاً مضادّاً لفريق هنا أو فريق هناك.

س: لكن لقاءاتك المتكررة مع بري في المدة الأخيرة فسِّرت بأنها موجهة ضد «حزب الله» أو على حسابه؟

ـ هذا كلام لا قيمة له، باعتبار أن علاقات «أمل» مع «حزب الله» تكاد تكون استراتيجية، أما علاقاتي أنا بصفتي المرجعية فهي مع كل الناس، لا مع «أمل» و«حزب الله»، بل مع كل الشيعة ومع كل السنة ومع المسيحيين، أنا لا احبس نفسي في زنزانة لبنانية، شيعية كانت أو غير شيعية، لأنني أتحرك في خط المرجعية مع العالم.

الاستحقاق الرئاسي اللبناني

س: يعيش لبنان في هذه الأيام في أجواء الاستحقاق الرئاسي، في ظل تجاذبات بين دعاة تعديل الدستور من جهة، والمطالبين بحماية تداول السلطة من جهة ثانية...

ـ فتش عن الاستحقاق خارج لبنان، لأن اللبنانيين لا يملكون من أمرهم شيئاً...

س: هل ترى ذلك طبيعياً؟

ـ الوضع في لبنان غير طبيعي، والوضع في المنطقة ليس طبيعياً.

س: بالأمس القريب اجتمع المفتي الشيخ محمد رشيد قباني، ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، وأصدرا بياناً حول العراق وفلسطين، ولكن الفقرة المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي وتعديل الدستور سحبت من وسائل الأعلام...

ـ هذه مسألة لبنانية خاصة.

س: هناك سجال حول التجديد والتمديد وتعديل الدستور، أين أنتم من ذلك؟

ـ أعتبر أن هذه الأمور اللبنانية لن تغير شيئاً في الواقع، وإذا كانت لا تغير شيئاً في الواقع، فعلينا ألا نعطيها اهتماماً كبيراً. إن مشكلة لبنان هي في النظام الطائفي فيه، الذي يشبه السرطان الذي يوزع كل مفاعيله على كل الواقع السياسي اللبناني، ولا أحب أن أتحدث في تفاصيل هذا الموضوع.

الخميس:10 رجب 1425هـ الموافق 26 آب - أغسطس 2004م

فضل الله لـ «الرأي العام»: إدخال القوّات الأميركية إلى النجف يشكِّل هتكاً للمقدّسات، ومن الصعب جداً حل المسألة عسكرياً نظراً لخصوصية المدينة في القداسة لدى السنّة والشيعة

رأى المرجع الشيعي العلامة السيد محمد حسين فضل الله، أن «ما يجري في النجف وما قبلها في مدينة الصدر في بغداد، ينطلق من استفزازات أميركية للقوى التي لم تكن تفكِّر بالمقاومة العسكرية»، مشيراً إلى «أن القوات المواجهة والمناهضة للاحتلال استطاعت نقل المعركة إلى أكثر من مدينة في العراق، وأن توحّد المواقع الإسلامية من سنّة وشيعة أشعر العالم أن هناك مقاومة عسكرية للاحتلال».

وشدَّد على أن «من الصعب جداً حل مسألة النجف عسكرياً، نظراً لخصوصيتها في القداسة لدى السنّة والشيعة»، معتبراً «أن مجرد إدخال القوات الأميركية إلى النجف يمثِّل هتكاً لحرمة المقدَّسات، بقطع النظر عما تفعله هذه القوات، وأنه لا يجوز لأي حكومة أن تسلِّط جيشاً غير مسلم ليقتل المسلمين حتى ولو كانوا مخطئين، وتالياً فإن المسألة تتجاوز جيش المهدي».

وإذ رأى أنه كان في الإمكان أن تحلّ مسألة النجف بالطرق السلمية والديبلوماسية، شدد على «أن الحكومة العراقية المؤقتة دخلت في إطار الخيانة والجريمة الكبرى في هتك حرمة النجف، وأنها تتبع سياسة أميركية مئة في المئة».

واستبعد أن يكون المرجع الشيعي في العراق السيد علي السيستاني أعطى الضوء الأخضر للأميركيين بالدخول إلى النجف، وقال: «لا أتصوَّر أن سماحة السيد السيستاني يمكن أن يفكر بهذه الطريقة، ولا يمكن لأي مرجعية مهما كانت قوتها، أن تعطي الضوء الأخضر للقوات الأميركية لتدخل النجف وتقتل المسلمين».

وكشف فضل الله بعض ما قاله لرئيس الحكومة العراقية أياد علاوي خلال استقباله له في دمشق، حيث دعاه «لأن يكون عراقياً ولا يكون أميركياً»، ولفته إلى «أن خطابه فيه ملامح من خطاب صدَّام حسين»، وحذّره من التعرض لمقتدى الصدر، وأكد له «أن الحل لمشكلة العراق هي الأمم المتحدة»، مشدداً على «أن الشيعة في العراق ليس لهم مشروع دولة شيعية ولا يفكّرون في التقسيم».

وإذ أكَّد أهمية اللقاءات الشيعية التي حصلت في الأيام الأخيرة في لبنان، و«انها كغيرها من اللقاءات دليل عافية»، اعتبر أن «الكلام عن أن لقاءاته الأخيرة تأتي على حساب حزب الله لا قيمة له»، مجدداً رفضه بصفته المرجعية أن يحبس نفسه في زنزانة لبنانية شيعية أو غير شيعية.

وفي موضوع الاستحقاق الرئاسي، دعا إلى التفتيش عنه خارج لبنان «لأن اللبنانيين لا يملكون من أمرهم شيئاً»، معتبراً «أن مشكلة لبنان هي النظام الطائفي، فهو السرطان الذي يوزِّع كل مفاعيله على كل الواقع السياسي اللبناني».

مواقف المرجع السيد فضل الله جاءت في حديث خاص لـ «الرأي العام» هذا نصه:

أبعاد الهجوم على النجف وطرق معالجته

س: تعيش «النجف الأشرف» تطوّرات دراماتيكية، في ضوء الهجوم الأميركي على «جيش المهدي»، كيف تقرأون هذا الحدث؟

ـ من خلال متابعتي للأحداث التي تجري في العراق، ألاحظ منذ الاحتلال حتى الآن، أن أميركا تحاول أن تخضع كل قوة تتمظهر بمظهر سياسي أو ديني، لتملك مواقع القوة كلها في العراق، ولا سيّما بعد أن منيت بالكثير من النكسات الأمنية التي أظهرت احتلالها للعراق بالصورة التي تمثل فشلها في هذه الحركة العسكرية ـ السياسية من جهتين:

- الأولى: هي أنها أعطت العراقيين وعداً بالأمن بجميع عناصره، سواء كانت العناصر الأمنية أو الاقتصادية أو السياسية أو غيرها، لتقديم عراق جديد كنموذج للمنطقة كلها، ولاحظنا أنها فشلت في ذلك، وأصبحت تدافع عن أمن جنودها الذي تحوّل مشكلة للمواطنين العراقيين في بيوتهم، كالقصف العشوائي الذي تمارسه القوات الأميركية للدفاع عن نفسها، ما جعل عدد القتلى من المدنيين يتعاظم بشكل كبير جداً، وربما يتساوى بالقتلى الذين سقطوا من جراء جرائم صدام حسين، حتى إن الأعداد التي تتحدث عن مئات القتلى تفسح المجال لمقابر جماعية جديدة.

- الثانية: هي أن أميركا برزت أمام العالم أنها تخوض حرباً في مستوى احتلال العراق من خلال كذبة كبيرة قدمتها للعالم ولمجلس الأمن، وهي مسألة أسلحة الدمار الشامل، فقد اكتشفت هي وحليفتها بريطانيا أنه ليس هناك أي سلاح للدمار الشامل، ما جعل اتّهامها لأكثر من دولة عربية أو إسلامية بصنع أسلحة الدمار الشامل وضغطها عليها لا يحمل أي مصداقية لأنّ العالم لم يعد يثق بهذه المسألة ويعتبرها مجرد ضغط سياسي لا يرتكز إلى أساس، وربما انعكس هذا وذاك على الرأي العام الأميركي، والذي ربما يجد تأثيره السلبي على الانتخابات الرئاسية للرئيس الحالي.

س: برزت إلى الواجهة الآن مسألة الهجوم على النجف الأشرف، والقصف الذي طاول العتبات المقدسة، ولا سيّما الصحن الحيدري، ما هو موقفكم من ذلك؟

ـ نحن نلاحظ أن أميركا تريد أن تقوم بضربات عسكرية قاسية، حتى في الموقع الذي يعتبر من المقدَّسات لدى الشعب العراقي والمسلمين بشكل عام، بحيث تهيئ الظروف للقيام بذلك من خلال استفزاز الجهات التي ربما تنفتح على مقاومة عسكرية جديدة في الموقع الشيعي، الذي كانت أميركا تتحدث عن أنه هو الموقع الذي يستقبل جنودها، وهو الموقع الذي لا يؤمن بالمقاومة العسكرية، بل بالمقاومة السلمية.

لذلك كانت الحركات الأخيرة في النجف الأشرف وما قبلها أيضاً في مدينة الصدر في بغداد، تنطلق من استفزازات أميركية لهذه القوى التي كانت لا تفكر في مقاومة عسكرية، وكان هدف واشنطن أن توجه الضربة القوية، لتستعيد بذلك عنفواناً عسكرياً فقدته بفعل خسائرها التي حدثت في العراق، وكانت مسألة النجف التي امتدت في حركة القوات المواجهة والمناهضة للاحتلال إلى أكثر من مدينة في العراق، ولا سيّما في الجنوب، وهذه القوات المواجهة استطاعت أيضاً أن توحّد المواقع الإسلامية من سنّة وشيعة، من الشمال إلى الجنوب، ليشعر العالم أن هناك مقاومة عسكرية للاحتلال الذي يتغطّى الآن بالحكومة العراقية المؤقتة، ليتحدث المسؤولون العراقيون أنّ المسألة عراقية ـ عراقية، وأن القوات المتعددة الجنسيات مساعدة للحكومة العراقية المؤقتة. ونتصور الآن أنّ إدارة الحكومة العراقية المؤقتة لمسألة النجف غبية جداً، إذا أردنا أن ندرس الأمور دراسةً موضوعية سياسية، لأن من الصعب جداً حلّ مسألة النجف عسكرياً، ولأنّ قضية النجف امتدت إلى العالم ولم تعد تمثل هذه المنطقة المحدودة من الناحية الجغرافية، لأن للنجف خصوصيتها في القداسة التي يجتمع عليها المسلمون في العالم من سنّة وشيعة، لذا فإن هناك مأزقاً تعيشه الحكومة المؤقتة كما تعيشه القوات الأميركية في مسألة الهجوم على النجف تجاه القوات المدافعة عنها، الأمر الذي جعل منطق القوة الذي برزت به الحكومة المؤقتة أو الذي برز به وزير الدفاع الأميركي يفقد معناه، لأنّ الحكومة منذ المؤتمر الصحافي لرئيسها قالت إن المسألة مسألة ساعات، وها هي تراوح مكانها في هذا المجال.

لذلك فإنني أتصوَّر أن الأميركيين في قصفهم المتواصل للمدينة القديمة المحيطة بمرقد الإمام علي (عليه السلام)، والذي قد ينتهي إلى السيطرة على النجف، لن يحل المشكلة، لأن القضية سوف تمتد إلى كل مكان في العراق، ولا سيّما إذا أصيب مرقد الإمام علي بالذات، أو إذا دخلت القوات العراقية، كما تعلن الحكومة، إلى الصحن الشريف، فإن ذلك سيترك تأثيراً كبيراً على المرقد، ويؤدي إلى مذبحة داخله، ما لا يمكن أن يكون في مصلحة الحكومة العراقية أو في مصلحة أحد.

إننا مع الكثيرين من المسلمين، لا نتوقَّف عند مسألة العنف الذي يواجه المدافعين عن النجف أو المواجهين لقوات الاحتلال، لكننا نجد أن مجرد إدخال القوات الأميركية إلى النجف يمثل هتكاً لحرمة المقدسات، بقطع النظر عما تفعله القوات الأميركية في النجف، لأنّ المبنى الفقهي الإسلامي لا يجوّز لأي حكومة أن تسلِّط جيشاً غير مسلم ليقتل المسلمين حتى لو كانوا مخطئين. وفي ضوء هذا، فإن المسألة تتجاوز جيش المهدي لتكون في دائرة الجريمة الكبرى في إدخال الأميركيين إلى النجف تحت أيِّ طائل، ولو أرادت الحكومة العراقية أن تحل المشكلة القانونية وأن تمنع الفوضى أو ما إلى ذلك، لكان في إمكانها أن تقتصر على الجيش العراقي أو قوات الأمن العراقية التي إذا حشدتها فربما تحلّ المشكلة، كما إننا كنا ولا نزال نعتقد أن هناك أكثر من وسيلة لحل المسألة بالطرق الديبلوماسية، لأننا نتصور كما قلنا أن المسألة لا يمكن أن تحل عسكرياً، ونحن في الوقت الذي نؤكد على حرمة المقدّسات، كمرقد الإمام علي ومقبرة وادي السلام، نؤكد أيضاً ودائماً أن حرمة الإنسان العراقي هي أكثر قداسةً من حرمة المراقد، وأن حرمة المرقد المقدس إنما هي من جهة التسامي في حرمة الإنسان، لأن الإنسان يحتضن في إيمانه هذه المقدَّسات، والاعتداء على المقدّسات هو اعتداء على الإنسان نفسه، كما إننا نعتبر أن الاعتداء على الإنسان هو اعتداء على المقدّسات.

التباسات حول دور المرجعية في النجف

س: لاحظ المراقبون أن الهجوم على النجف جاء بعد أقلّ من 24 ساعة من مغادرة المرجع الشيعي السيد علي السيستاني للنجف من أجل العلاج في لندن، والبعض يقول إنّه من أعطى الضوء الأخضر بالهجوم؟

ـ لا أتصور أن سماحة السيد السيستاني يمكن أن يفكر بهذه الطريقة، لأن المحيطين به صرَّحوا أنه خرج من النجف للعلاج الصحي، ونقل عن أجهزة الإعلام أنه خضع لبعض العمليات في القلب، وربما كان بعض الناس المحيطين به يفكّرون، في أن حياته قد تكون في خطر، لأن الأحداث كانت مقبلة، ولا سيّما أن بيته قريب من المرقد المقدس.

س: يقال إنه ضاق ذرعاً بتصرّفات السيد مقتدى الصدر واستيلائه على مقدرات المقدّسات؟

- لا يمكن لأي مرجعية مهما كانت قوّتها، أن تعطي الضوء الأخضر للقوات الأميركية لتدخل النجف ولتقتل المسلمين، لأن المرجعية أياً كانت تحمل أمانة الحفاظ على المسلمين وحماية الأماكن المقدّسة من الفوضى ومن عدوان الكافرين في المصطلح الفقهي في هذا المجال، لذلك فإن هذه الملاحظة التي كان يتحدث بها الإعلام، لا تتناسب مع تفكير إنسان مؤمن عادي، فكيف يمكن أن تتناسب مع تفكير مرجعية كبرى!

س: ولكن ألا ترى أن وضع المرجعية في النجف ضعيف بعدما أصبحت المقدّرات في يد السيد الصدر، وهناك معلومات عن دعوات عدة وجهت إليكم لتولي المرجعية هناك؟

ـ أعتقد أن الظروف الحاضرة لا تسمح لي بالذهاب إلى العراق، ولكنني أتابع القضية العراقية على مستوى الساعة.

الحكومة العراقية أمريكية بامتياز

س: أثار استقبالكم رئيس الحكومة العراقية أياد علاوي في دمشق تساؤلات كثيرة، خصوصاً أنكم تؤكّدون عدم شرعية هذه الحكومة، ورشح عن اللقاء أنكم نصحتم علاوي أن لا يكون أميركياً أكثر من الأميركيين؟

ـ أنا لم تكن لي علاقة به، ولكنني كنت أعرف تزعّمه لحزب الوفاق الوطني وقربه من الأردن الذي يمثل سياسة معينة نعرفها جميعاً في العلاقات مع أميركا، وصرّحت منذ أن تسلَّم الحكومة العراقية المؤقتة برفض هذه الحكومة واعتبارها غير شرعية، لأنها ليست منتخبة من الشعب العراقي، وربما أثار بعض حديثي آنذاك شخصه، والذي جاء في أجواء حديث الإعلام عن تاريخه وعلاقته بـ «سي، أي، إي»، وقد طلب مقابلتي في سوريا، ووافقت على استقباله، لأنني في موقعي المرجعي المسؤول أجد أنه عليّ أن أستقبل كل الناس، وعندما جاء قلت له: "كن عراقياً ولا تكن أميركياً"، كن رئيس حكومة العراق ولا تقف للدفاع عن أميركا وعن موقعك منها، وقلت له أيضاً، إننا نلمح في بعض خطابك، في التهديد بالقوَّة للخارجين على القانون حسب رأيك، نلمح ملامح خطاب صدام حسين. حاول أن يكون خطابك خطاباً لا يبتعد عن الحزم كرئيس وزراء، ولكن ليس بهذه الطريقة. ومن كلامي له، أن العراق لن يستقر ما دامت القوات الأميركية موجودة فيه، في الموقع السياسي، وأن الحلّ لمشكلة العراق هي الأمم المتحدة، لا أن تأتي لإدارة الانتخابات فقط، ولكن لتكون هي القيادة حتى للقوات المتعددة الجنسيات، بما فيها القوات الأميركية. وأيضاً تحدثت إليه أن يتحرك مع كل القوى السياسية، في إبعاد العراق عن الجدل الطائفي، وأن الشيعة في العراق ليس لهم مشروع دولة شيعية، ولا يفكرون بالتقسيم، بل يريدون أن يكونوا مواطنين كبقية المواطنين، يأخذون حقوقهم كاملة غير منقوصة، لأنهم لا يفكرون في اضطهاد أحد، كما لا يريدون لأحد أن يضطهدهم، وقلت له أيضاً إياك أن تتعرض لمقتدى الصدر، لأنه لا يشكِّل خطراً على العراق، ويمكن التعامل معه بالحوار والوسائل السلمية، وأن تكون علاقاته بالجوار جيدة، ولا سيّما سوريا وإيران.

س: ألا ترى أنه يجب إعطاء فرصة للحكومة العراقية؟

ـ حسب متابعاتي العميقة جداً، أتصور أن السياسة التي تسير بها الحكومة العراقية سياسة أميركية مئة بالمئة، وخصوصاً تجاه ما سمعناه أثناء المفاوضات حول النجف، عندما بدت القضية تتجه نحو نتائج إيجابية كاملة، ولكن فوجئ الذين ينفتحون على المفاوضات بالاتصال من رئيس الحكومة في بغداد بإيقاف المفاوضات والإعلان عن فشلها، ما يعني أن الخطة هي أن توضع الكرة في ملعب جيش المهدي، ليقال للعالم إننا فاوضنا ولكننا فشلنا، لا من جهتنا بل من جهة الآخرين، ليكون ذلك حجة لضرب هذا الجيش.

س: ولكن هذا الجيش صادر القرار الشيعي، ووضع الجميع في النجف أمام الأمر الواقع؟

ـ لست الآن في مقام تقويم هذا الجيش، لأنني حسب الواقع لست مطّلعاً على تفاصيله ومفاصله، ولكن الموقف الآن يتراوح بين من ينظر إليه بسلبية مطلقة ومن ينظر إليه بإيجابية مطلقة، من جماعة، وإيجاب كلي من جماعة أخرى في النظرة إليه، وأيضاً هناك الخط الوسطي الذي يشير إلى بعض التجاوزات التي يرتكبها هنا أو هناك، ولكن من المؤكد أن النظرة السلبية والاتهامات المطلقة ليست واقعية. نحن لا ننكر أن هناك تجاوزات، ولكن المسألة يمكن أن تحل بالطرق السلمية، وبأكثر من وسيلة، حسب معرفتنا واتصالاتنا الدائمة بفعاليات العراق من بعض الأطياف السياسية المؤثرة، وأنا كنت أقول حقيقة، إن المسألة ليست مسألة مقتدى الصدر، بل إنّ مجرد إدخال القوات الأميركية إلى النجف هو انتهاك لحرمة النجف، وإن إرسال الأميركيين لقتل المسلمين حتى المخطئين، هو أمر محرم شرعاً ولا يجوز لأحد القيام به، المسألة تجاوزت جيش المهدي ومقتدى الصدر، ونحن نعتبر أن الحكومة العراقية دخلت في إطار الخيانة الكبرى والجريمة الكبرى في هتك حرمة النجف بهذه الطريقة.

لذلك نحن لا نريد التعليق على طبيعة هذا الجيش أو على طبيعة قيادته والدخول في جدل حول ما إذا كانوا مخالفين للقانون وناشرين للفوضى وما إلى ذلك، نحن نعتبر أن الحكومة العراقية التي كانت غطاءً للجيش الأميركي في النجف أساءت إلى حرمة المقدَّسات الإسلامية، بقطع النظر عن النتائج.

المقاومة الشيعية العسكرية

س: منذ بدء الاحتلال الأميركي للعراق، كان الجو الشيعي يميل إلى عدم اللجوء إلى المقاومة العسكرية، ولكن ظاهرة مقتدى الصدر خالفت هذا الجو؟

ـ الشيعة ثوار منذ كربلاء، منذ الإمام علي (ع)، لأنهم مسلمون، والإسلام ضد كل ظلم واحتلال، ولكن التعقيدات التي كانت تجمعت من خلال حكم الطاغية صدام حسين، جعلت الوضع العراقي يعيش في صدمة، وجعلت الخدعة الأميركية تنطلي على الكثيرين، من أنهم جاءوا محررين وليس محتلين، ولكن بعد ذلك اضطروا، بفعل قرار مجلس الأمن، لتبرير الجانب القانوني، لأن يقولوا إنهم محتلون.

س: هل تعتقد أن حركة السيد الصدر عراقية بالكامل، أم إن لها امتدادات خارجية، وخصوصاً إيرانية؟

ـ الحديث عن ذلك مبالغ فيه، لأن إيران حسب طبيعة ما نتابعه من أحداث، لم تتبنَّ هذه الحركة، ولكن لا يمنع من أن تتعاطف معها، لأن هناك حقيقة لا بد أن يعرفها الجميع، وهي أن أميركا أصبحت على حدود إيران، كما أصبحت على حدود سورية وتركيا والخليج، ولهذا فإن إيران التي تعيش الكثير من التعقيدات في علاقتها السياسية مع أميركا، لا بد أن تستفيد من أي وضع أو حدث يمكن أن يربك الوجود الأميركي في العراق، كما إن سورية أيضاً، في تعقيدات علاقاتها مع أميركا والضغط الأميركي من خلال قانون محاسبة سورية مثلاً، لا بد أن تستفيد من ذلك، كما تستفيد أميركا من أي حدث في أي دولة أخرى تعيش تعقيدات سياسية أو أمنية معها.

س: الشيعة في لبنان، كيف يتعاطون مع هذا الهجوم الأميركي على النجف، فباستثناء «تظاهرة الأكفان» التي نظمها «حزب الله» منذ أشهر، لم نشهد أي تحرك عملي إزاء ما يحدث؟

في لبنان طليعة المقاومة في العالم الإسلامي، وقد استطعنا أن نحرر أرضنا بدمائنا وبجهدنا، في كل فصائل المقاومة، ربما تكون بعض الظروف لا تسمح بأي حركة مقاومة بالمعنى الميداني، بحيث يذهب اللبنانيون المقاومون إلى العراق ليقاوموا، لأن الظروف لا تسمح بذلك، لكن ربما كانت القضية: فليسعد النطق إن لم تسعد الحال، وهذه اللقاءات والاجتماعات والمسيرات التي دللت على أن لبنان يقف في وحدة ليست شيعية فحسب، ولكنها وحدة إسلامية مسيحية ضد الاحتلال الأميركي للعراق، ولا أظن أن هناك بلداً عربياً أو إسلامياً يقف هذا الموقف الموحد الرافض للاحتلال الأميركي مثل لبنان، لبنان هو الرئة التي يتنفس منها العالم الإسلامي في كل قضاياه بما يستطيع في هذا المجال، وها نحن نجد أن لبنان هو البلد الذي يقيم خيمة الحرية ليلتقي بها كل اللبنانيين، لتكون رسالة إلى المسيحيين والمسلمين بمذاهبهم في العالم، بأن هناك وحدة إسلامية ـ مسيحية علمانية في مواجهة كل ظلم إن كان إسرائيلياً أو اميركياً.

اللقاء الشيعي ـ الشيعي في لبنان

س: واضح أن الساحة الإسلامية الشيعية في لبنان تشهد حراكاً هذه الأيام، منذ أيام كنت في صور، حيث عقد لقاء موسَّع ضمكم ورئيس البرلمان نبيه بري، وأعقبه بعد أيام لقاء آخر في حبوش لبعض «النخب»...

ـ في لبنان تكبر القضايا الصغيرة وتصغر القضايا الكبيرة، بحكم التعقيدات اللبنانية التي يعيشها الوسط السياسي الذي يحاول أن يجعل من الحبة قبة، من الطبيعي أن يجتمع الشيعة في لبنان، وأن يلتقوا ويتباحثوا، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي، ومن الطبيعي أن يكون بين المسلمين الشيعة، ما هو بين المسلمين السنة والمسيحيين من خلافات سياسية أو ما أشبه ذلك، ولكن اللقاءات على كل حال، حتى مع اختلافها في وجهات النظر، تمثل عافية وصحة، لأن المشكلة في بعض أوضاع العلاقات التي تختلف فيها الأحزاب والناس، هي الثقافة، نحن نعتقد أنّه ليس هناك مشكلة في تختلف مع الآخر وأن تلتقي به وتتحدث معه في ما تختلف معه أو في ما تلتقي معه فيه، لذلك أعتقد أن كل ما حدث من لقاءات، ربما لم تكن سابقاً، هي دليل عافية ولا أعتقد صحة في هذا المجال، وأن اجتماعاً ما هنا واجتماعاً ما هناك يمكن أن يمثل موقفاً مضادّاً لفريق هنا أو فريق هناك.

س: لكن لقاءاتك المتكررة مع بري في المدة الأخيرة فسِّرت بأنها موجهة ضد «حزب الله» أو على حسابه؟

ـ هذا كلام لا قيمة له، باعتبار أن علاقات «أمل» مع «حزب الله» تكاد تكون استراتيجية، أما علاقاتي أنا بصفتي المرجعية فهي مع كل الناس، لا مع «أمل» و«حزب الله»، بل مع كل الشيعة ومع كل السنة ومع المسيحيين، أنا لا احبس نفسي في زنزانة لبنانية، شيعية كانت أو غير شيعية، لأنني أتحرك في خط المرجعية مع العالم.

الاستحقاق الرئاسي اللبناني

س: يعيش لبنان في هذه الأيام في أجواء الاستحقاق الرئاسي، في ظل تجاذبات بين دعاة تعديل الدستور من جهة، والمطالبين بحماية تداول السلطة من جهة ثانية...

ـ فتش عن الاستحقاق خارج لبنان، لأن اللبنانيين لا يملكون من أمرهم شيئاً...

س: هل ترى ذلك طبيعياً؟

ـ الوضع في لبنان غير طبيعي، والوضع في المنطقة ليس طبيعياً.

س: بالأمس القريب اجتمع المفتي الشيخ محمد رشيد قباني، ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، وأصدرا بياناً حول العراق وفلسطين، ولكن الفقرة المتعلقة بالاستحقاق الرئاسي وتعديل الدستور سحبت من وسائل الأعلام...

ـ هذه مسألة لبنانية خاصة.

س: هناك سجال حول التجديد والتمديد وتعديل الدستور، أين أنتم من ذلك؟

ـ أعتبر أن هذه الأمور اللبنانية لن تغير شيئاً في الواقع، وإذا كانت لا تغير شيئاً في الواقع، فعلينا ألا نعطيها اهتماماً كبيراً. إن مشكلة لبنان هي في النظام الطائفي فيه، الذي يشبه السرطان الذي يوزع كل مفاعيله على كل الواقع السياسي اللبناني، ولا أحب أن أتحدث في تفاصيل هذا الموضوع.

الخميس:10 رجب 1425هـ الموافق 26 آب - أغسطس 2004م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية