على عتبة دار الأرقم، تجسمت خواطر مصعب، وتصارعت أمامه صور وذكريات، كل منها تأخذ لنفسها إطاراً صاخباً.
ثمَّ صورة مكة وسكانها، وصورة أبيه وأُمه، وقومه وموقفهم منه لو عرفوا أمره ماذا يكون مصيره معهم، ويخطر في نفسه خاطر يلتاع له، ويهتز جسمه هزاً خفيفاً.
ذلك منظر أبي جهل وحربته يطارد أصحاب محمد يذيقهم ألواناً من عذابه، ويسيمهم أنواع البلاء. يتصوّر كل هذا، ويفكر بعواقب كل هذا، وتوشوش له بعض الخواطر بالعودة من حيث أتى ليسهر، ويمرح مع فتيان الحيّ، أولئك الذين خلفهم في رحبة بيته.
ولكن صدى الإيمان من أعماقه يتعالى، ويدفعه دفعاً رقيقاً إلى دنياه الجديدة، وليذيقه أبو جهل وزمرته ما شاؤوا من عذاب، وليصنع أبوه به ما يحبّ، فإنّ إيمانه ماض به إلى حيث دار الأرقم، إلى نداء الضمير، إلى موعد محمد.
ويلج الدار، ويستقبله الصفوة من الأصحاب مبتسمين، يشرق عليهم إيمان الدعوة، وتصهرهم عواطف العقيدة، وينساب إليهم الصوت الرزين، يتلو عليهم من آيات الله ما شغف بها قلبه، وتغور إلى أعماقه قوة تلك الكلمات، فتتهلّل أساريره إشراقاً وابتهاجاً، وهكذا كان نصيب مصعب من دعوة محمد في بدء تكوينها.
وفي مساء ليل داكن، يعود فتى عمير إلى بيته يقطر رقةً وعذوبة - كعادته - من مجلسه، وفي عتمة الظلام، يلمح ظلاً خفيفاً على باب بيته يقترب منه رويداً كلّما اقترب إلى داره.
وعن مقربة من بيته، سمع صوت أمه الحنون يزحف إليه بشيء من الحنان والحزن، وهي التي كانت شديدة الولوع به، كما كان والده شديد المحبّة إليه، حتى لا يمكنهما مفارقته، ويجمد الدّم في عروق مصعب، ما الذي حدا بأمّه أن تقف منه هذا الموقف، واللّيل قد نزع عنه ظله الكبير، ولم يبق منه إلا طرف خفي؟
ويا لهول ما سمع منها، أن أباه على وشك الانفجار من الغضب، فقد عرف بكل شيء، واكتشف ما كان يخفيه عنه، وقد أصبح عالة على والده، ومصدراً لأقاويل المتشمتين، كأبي جهل وأبي سفيان وأضرابهما.
ودارت في رأسه أفكار وخواطر؛ هل سيصارح أباه بالحقيقة أو يكذب عليه، هل يعطيه المواثيق بعدم العودة لدار الأرقم، أم يصرّ على المضي بأمره، وهكذا دارت في رأسه هذه الأفكار والخواطر وهو يجتاز عتبة الدار، وحاولت أمّه أن تثنيه عن الدخول في هذه الساعة الهوجاء التي فيها أبوه كالبركان من شدة الغضب.
ولكن إيمان الفتى بدعوة محمد دفعه إلى مصارحة والده بالواقع الذي يتبناه أنه لن يسمح لنفسه بالتراجع، والعودة إلى الوراء، فالصراحة هي الحلّ الوحيد، وليتحمل مواجهة الحقيقة بجنان ثابت، ومهما كلف الأمر.
واصطدم بأبيه، فلمح موجة من الغضب تطفو على ملامح هذا الشيخ، وارتسمت على قسماته صورة مشوهة للرّجل الذي ضاق بدنياه، واسودت أيامه.
ووقف بين يديه، وقد أشاح بنظراته عنه، وحاول عمير أن يتكلّم فخانه التعبير، ثم نطق، وفي طيات حديثه شيء ينمّ عن حزن دفين، ولم يطل التساؤل والاستفسار بينهما، بل انقض عليه أبوه، وأوثقه كتافاً، وصاح بأهله المجتمعين حوله أن يحملوا مصعباً إلى البيت الذي أفرده له ليسجن فيه، حتى يعود إلى صوابه.
وتمرّ الأيام، والفتى الوسيم رهين السّجن قد طال شعره وذبل ضوؤه، وبهت شروقه، ويتركه جميع متعلقيه، فلم يتردّد عليه سوى والدته، وهي تكاد تموت شفقة على ولدها الذي سرق نوره ثقل السّجن، وامتصّ جماله كابوس الهم، وكلّما حاولت أن تثنيه عن عزيمته للدعوة الجديدة لينعم بالحياة السعيدة التي يفرشها له أبوه، كان يزداد صلابة وإيماناً بعقيدته.
وهكذا ديدن أصحاب محمد بين تعذيب وتشريد، وسجن وتبعيد، ما اضطرّ الرسول الأعظم أن يدعو أصحابه الى الهجرة هرباً من أذى قريش إلى مكان بعيد عن عيون الحاقدين ويختار لهم الحبشة.
وتزحف الصفوة الطيّبة إلى تلك الديار النائية، لتتقي بهذا السفر المضني مشقة الأذى، والعذاب من هؤلاء القساة، ويترامى النبأ إلى أسماع مصعب، وهو في سجنه الانفرادي، ويفكر في اللحاق بهم، وطال به التفكير، وفي زحمة الخواطر المرّة، تدخل أمه عليه، وترثي لحاله، ويؤلمها أن ترى حبيب قلبها وهو رهين آلامه، ويفيق على آهات أمه وزفراتها التي نفرت منها دون إرادة وقصد، ويلتفت إليها، وقد طبع على ثغره ابتسامة هادئة، وقسماته تنمُّ عن توسّل عميق: - يا أمّاه، هل لك أن تسدي ولدك خدمة، فأنا بحاجة إليها؟
وتهشّ الأمّ المنكوبة لطلب ولدها - وإن كانت لا تعرف بعد ماهيته - : يا أمّاه، أريد أن تساعديني على الهروب لألتحق بركب محمد إلى الحبشة. وترتسم على وجه الأم كآبة وحزن. إن سجنه بهذه الحالة أهون عليها أن يبعد عنها إلى أرض النجاشي.
ولكن مصعباً لم يهدأ من تكرار الطلب عليها، ويوضح لها بأن في هذا العمل سلامته. وأخيراً، تخضع الأم لطلب عزيزها وتساعده على الهرب، والتخلص من سجن أبيه، ويلحق بقومه، وتضم الصفوة الطاهرة أرض النجاشي عهداً ليس بالطّويل.
وتشرق شمس، وتغرب شمس، ونور الإسلام يمتدّ مع الأيام حتى يقوى ويشتد، وتنهار أمامه حشرجات الظلام، وعلى ضوء الصباح، تعود القافلة المسلمة، توشح طريق الإيمان بالأمل.
ويعود مصعب مع من يعود، وهو في عودته أقوى جناناً من قبل، لا يهاب سطوة قريش، ولا سخط أبيه.
وعلى قارعة الطريق، تقف أُمّ مصعب مع الواقفات يشاهدن موكب المسلمين، وهم يعودون سالمين إلى أوطانهم، وتحاول الأمّ الشفيقة أن تتشبّث بولدها، ولكن المسلم الجريء يدفع أُمّه برفق، ثم يرمقها بنظرات عاطفيّة، ويتفوّه والدمعات تنتثر على وجناته، وهو يخاطب أُمّه: يعزّ عليّ والله أن أمتنع من استقبال أبي وأمّي، فليس لمسلم أن يطرق باب المشركين، ولو كانت دار أبيه وأمّه.
وتكتم الأمّ زفرة بين طيات صدرها، وتنثني عائدة إلى الدار، فتلمح عميراً وهو على عتبة الباب، وقد تسمّرت عيناه إلى وضح الطريق، ودمعة تترقرق في مآقيه.
وبين صدى النشيج المنساب، تقول الأمّ المحزونة: يا أبا زرارة: إنّ مصعباً عاد مع القافلة، ومسحة من إشراق تظلّله، وهالة من إيمان تحيطه. فيقاطعها عمير، والثورة تؤزّ في كيانه: اسكتي، وكأنك ملت إلى هذا الدين الجديد، أخشى أن يسمعك أحد فيصيبنا بسوء. وتلملم الوالدة الحزينة دمعة نافرة في مآقيها، ثم تنثرها مدراراً.
ولا يمسي المساء، حتى يزهد مصعب بأمره، ويترك مظاهر الرقّة والدّلال، ويبعد عن عينيه مظاهر النعيم والترف، فالإسلام يحارب هذه المظاهر الزائفة، ولا بدّ من أن يواسي إخوانه الفقراء. ويرمقه الرسول الأعظم، وقد نزع عنه أبراد الحياة الناعمة فيتأثر لذلك، ويدعو له بالخير.كان مصعب لا يلبس إلا أرقّ حلّة، ولا يتطيب إلا بأحسن طيب، ويمر الزمن، وإذا به يرتدي فروة قد رفعها عن كاهله قليلاً لخشونتها، فيبكي محمد رقّة عليه .وفي ضحوة النهار، طلق مصعب دنياه الجملية الضاحكة وأخلص لدينه، وكان بهذه الصفات العالية نال المكانة المرمومة عند النبي (صلى الله عليه وآله). ويقصد النبي مكّة في موسم الحجّ ليبلّغ رسالته، ويقدم عليه وفد المدينة من الخزرج والأوس - وهم يشهدون بالتوحيد وبرسالته - ويطلبون منه أن يرسل معهم معلّماً وموجّهاً، ويرى الرسول أن مصعباً خير من يقوم بهذه المهمة، فيقول له: يا مصعب: أترغب في خدمة تؤديها للمسلمين؟
لبّيك يا رسول الله .ارحل إلى المدينة - وكان ذلك قبل الهجرة بقليل - وعلّم المسلمين القرآن، وفقّههم في الدين. سمعاً وطاعة يا رسول الله.
ويرحل مصعب مع الوفد المدني، ليؤدّي رسالته المقدَّسة، ويبلّغ ويرشد ويتخذ من دار أبي أمامة، أسعد بن زرارة، مركزاً له، وتجمع حوله عدد من الذين نوَّر الله قلوبهم بالإيمان، يعلّمهم القرآن، ويفقّههم في الدين، حتى صار معروفاً في المدينة بـ(المقرئ).
وذات ليلة قمراء، يحدّث أبو أمامة ضيفه مصعباً، فيقول له: لو ترى أن نخرج غداً لسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وهما سيدا الأوس، وتعرض عليهما الإسلام، فعسى أن يستجيبا للدعوة، وفي ذلك إيمان الأوس.
وفي الصباح، قصد الرجلان زعيمي الأوس، ولم يبلغا مضارب الأوس، حتى بلغ خبرهما سماع سعد وأسيد، فضاقا بهما ذرعاً، والتفت سعد إلى أسيد طالباً منه أن يذهب إلى الرّجلين، ويطلب منهما أن يعودا من حيث أتيا، فهما لم يقصدا هذه الديار إلا ليسفها ضعفاءنا، ويضعضعا شبابنا، ما لنا ولهم، ولولا أن سعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، فهو ابن خالتي، ومصعب صاحب محمد ضيفه، ولا أرغب أن أكون قاسياً معه.
وتوجه أسيد إليهما، وما إن وقعت عين أسعد عليه، حتى قال لمصعب: هذا سيّد قومه قد أقبل عليك، فاصدق الله فيه.
قال مصعب: أرجو أن أوفَّق في ذلك .ووقف أسيد عليهما، وهو شاهر حربته، وقال لهما: ما جاء بكما إلينا؟ نحن لا نرغب في قولكما. وبكلّ هدوء، قال له مصعب: لو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته ذهبنا عنك .قال: أنصفت. ثم ركز حربته، وجلس معهما، فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن.
يسمع أسيد هذا الكلام، ويأخذ لبّه، ويسيطر على مشاعره، وتمرّ به ساعة، وهو لا يعرف عن نفسه شيئاً، لقد انصهر بالحديث، وأعجب بالآيات الكريمة، ولم يلتفت إلا وهو يميل إلى مصعب قائلاً: وكيف أدخل في الإسلام؟ ما أحسن هذا الكلام وأجمله! وما أعظم هذه المثل التي يتبنّاها دينكم! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسوله وعبده. ووثب دفعة، وعاد راجعاً إلى صاحبه سعد بن معاذ، ويدخل عليه، وهو بين قومه في مجلسهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الّذي ذهب به من عندكم. فلما وصل أسيد إلى المجلس، قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرّجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما. فقال: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن لهما معك حاجة، فلو أجبتهما، فقام سعد لهما، ولما أقبل، قال أبو أمامة لمصعب: جاءك والله سيد مَن وراءه قومه، إن تبعك لم يتخلّف عنك منهم اثنان.
وما إن وقف عليهما، حتى بادرهما بقوله: وماذا تريدان مني؟ فقال له مصعب: اجلس واسمع، فإن رغبت بما قلنا، وإلا تركناك. فجلس معهما، فتحدث له مصعب عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن، وهما في هذه، يقول أسعد: عرفت والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، ولم ينته مصعب من حديثه، حتى نوَّر الله قلب سعد بن معاذ، وأسلم.
وعاد إلى قومه، ووقف بينهم، وهو يقول: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. ولم يمسِ المساء على أحياء الأوس إلا وأسلموا، ولم تتخلّف منهم إلا بيوت بقيت ولم تشمل بالهداية، وعاد مصعب مع مضيفه أسعد إلى مقامهما، وهما سعيدان بهذه الخطوة.
ومرة أخرى يخاطب الرسول مصعباً: كيف تكون لو وقع أحد من أهل بيتك أسيراً في يديك، فهل تأخذك الرقّة والعاطفة؟ يا رسول الله، لا تأخذني في سبيل الله رقة وعاطفة، حتى ولو كان أبي أو أخي .ويعلن النبيّ النفير العام بين المسلمين استعداداً لغزوة بدر، وتزحف جيوش المسلمين لتقابل جيشاً سدَّ الخافقين، ومصعب يحمل لواء المسلمين. ويلتحم الجيشان، ولم تنحسر المعركة إلا وزرارة بن عمير أسير بيد أخيه مصعب، والرّجل كان يحمل لواء المشركين في بدر.
ونادى منادي المشركين أنّ زرارة أسير لدى المسلمين. وتهرع الجموع إلى مصعب لتطلب منه صاحب لواء المشركين: إنه أخوك يا مصعب فارفق به، ولا تعامله بالقسوة كرامةً لأمك، أطلق سراح أخيك. ولكن هيهات! فلم يسمع الحشد من مصعب إلا السخرية والاستهزاء. ولما لم ترَ أمه تزعزعاً عن موقفه، تضطر هي لتفتدي زرارة بأربعة آلاف درهم، فيضيفها إلى خزانة المسلمين.
ويسمع الرسول بهذا الأمر، فيطبع على جبين مصعب قبلة الرّضا، ويدعو الله له بالموفقيّة. انطوت أحاديث بدر، وتحدث الناس عن غزوة (أُحد)، وقد أصدر الرسول أمره بالتأهب لها، ويستعدّ المسلمون للزحف، وفي صباح اليوم المشهود، انتظر القوم موقف النبي لمن يسلّم رايته، ولم يطل التفكير بهم، فقد أعطى لواء المسلمين إلى مصعب.
وفي ساحة الميدان، وقبل أن تنجلي المعركة، يخرّ مصعب صريعاً في رهج الحرب، ويحمله الرسول الأعظم إلى حيث ترك أصفياءه، يودّعه بدمعة حارة، فيها الكثير من الحزن، وفيها الكثير من الألم.
*من كتاب "بين يَدي الرّسُول الأعظم (ص)".
على عتبة دار الأرقم، تجسمت خواطر مصعب، وتصارعت أمامه صور وذكريات، كل منها تأخذ لنفسها إطاراً صاخباً.
ثمَّ صورة مكة وسكانها، وصورة أبيه وأُمه، وقومه وموقفهم منه لو عرفوا أمره ماذا يكون مصيره معهم، ويخطر في نفسه خاطر يلتاع له، ويهتز جسمه هزاً خفيفاً.
ذلك منظر أبي جهل وحربته يطارد أصحاب محمد يذيقهم ألواناً من عذابه، ويسيمهم أنواع البلاء. يتصوّر كل هذا، ويفكر بعواقب كل هذا، وتوشوش له بعض الخواطر بالعودة من حيث أتى ليسهر، ويمرح مع فتيان الحيّ، أولئك الذين خلفهم في رحبة بيته.
ولكن صدى الإيمان من أعماقه يتعالى، ويدفعه دفعاً رقيقاً إلى دنياه الجديدة، وليذيقه أبو جهل وزمرته ما شاؤوا من عذاب، وليصنع أبوه به ما يحبّ، فإنّ إيمانه ماض به إلى حيث دار الأرقم، إلى نداء الضمير، إلى موعد محمد.
ويلج الدار، ويستقبله الصفوة من الأصحاب مبتسمين، يشرق عليهم إيمان الدعوة، وتصهرهم عواطف العقيدة، وينساب إليهم الصوت الرزين، يتلو عليهم من آيات الله ما شغف بها قلبه، وتغور إلى أعماقه قوة تلك الكلمات، فتتهلّل أساريره إشراقاً وابتهاجاً، وهكذا كان نصيب مصعب من دعوة محمد في بدء تكوينها.
وفي مساء ليل داكن، يعود فتى عمير إلى بيته يقطر رقةً وعذوبة - كعادته - من مجلسه، وفي عتمة الظلام، يلمح ظلاً خفيفاً على باب بيته يقترب منه رويداً كلّما اقترب إلى داره.
وعن مقربة من بيته، سمع صوت أمه الحنون يزحف إليه بشيء من الحنان والحزن، وهي التي كانت شديدة الولوع به، كما كان والده شديد المحبّة إليه، حتى لا يمكنهما مفارقته، ويجمد الدّم في عروق مصعب، ما الذي حدا بأمّه أن تقف منه هذا الموقف، واللّيل قد نزع عنه ظله الكبير، ولم يبق منه إلا طرف خفي؟
ويا لهول ما سمع منها، أن أباه على وشك الانفجار من الغضب، فقد عرف بكل شيء، واكتشف ما كان يخفيه عنه، وقد أصبح عالة على والده، ومصدراً لأقاويل المتشمتين، كأبي جهل وأبي سفيان وأضرابهما.
ودارت في رأسه أفكار وخواطر؛ هل سيصارح أباه بالحقيقة أو يكذب عليه، هل يعطيه المواثيق بعدم العودة لدار الأرقم، أم يصرّ على المضي بأمره، وهكذا دارت في رأسه هذه الأفكار والخواطر وهو يجتاز عتبة الدار، وحاولت أمّه أن تثنيه عن الدخول في هذه الساعة الهوجاء التي فيها أبوه كالبركان من شدة الغضب.
ولكن إيمان الفتى بدعوة محمد دفعه إلى مصارحة والده بالواقع الذي يتبناه أنه لن يسمح لنفسه بالتراجع، والعودة إلى الوراء، فالصراحة هي الحلّ الوحيد، وليتحمل مواجهة الحقيقة بجنان ثابت، ومهما كلف الأمر.
واصطدم بأبيه، فلمح موجة من الغضب تطفو على ملامح هذا الشيخ، وارتسمت على قسماته صورة مشوهة للرّجل الذي ضاق بدنياه، واسودت أيامه.
ووقف بين يديه، وقد أشاح بنظراته عنه، وحاول عمير أن يتكلّم فخانه التعبير، ثم نطق، وفي طيات حديثه شيء ينمّ عن حزن دفين، ولم يطل التساؤل والاستفسار بينهما، بل انقض عليه أبوه، وأوثقه كتافاً، وصاح بأهله المجتمعين حوله أن يحملوا مصعباً إلى البيت الذي أفرده له ليسجن فيه، حتى يعود إلى صوابه.
وتمرّ الأيام، والفتى الوسيم رهين السّجن قد طال شعره وذبل ضوؤه، وبهت شروقه، ويتركه جميع متعلقيه، فلم يتردّد عليه سوى والدته، وهي تكاد تموت شفقة على ولدها الذي سرق نوره ثقل السّجن، وامتصّ جماله كابوس الهم، وكلّما حاولت أن تثنيه عن عزيمته للدعوة الجديدة لينعم بالحياة السعيدة التي يفرشها له أبوه، كان يزداد صلابة وإيماناً بعقيدته.
وهكذا ديدن أصحاب محمد بين تعذيب وتشريد، وسجن وتبعيد، ما اضطرّ الرسول الأعظم أن يدعو أصحابه الى الهجرة هرباً من أذى قريش إلى مكان بعيد عن عيون الحاقدين ويختار لهم الحبشة.
وتزحف الصفوة الطيّبة إلى تلك الديار النائية، لتتقي بهذا السفر المضني مشقة الأذى، والعذاب من هؤلاء القساة، ويترامى النبأ إلى أسماع مصعب، وهو في سجنه الانفرادي، ويفكر في اللحاق بهم، وطال به التفكير، وفي زحمة الخواطر المرّة، تدخل أمه عليه، وترثي لحاله، ويؤلمها أن ترى حبيب قلبها وهو رهين آلامه، ويفيق على آهات أمه وزفراتها التي نفرت منها دون إرادة وقصد، ويلتفت إليها، وقد طبع على ثغره ابتسامة هادئة، وقسماته تنمُّ عن توسّل عميق: - يا أمّاه، هل لك أن تسدي ولدك خدمة، فأنا بحاجة إليها؟
وتهشّ الأمّ المنكوبة لطلب ولدها - وإن كانت لا تعرف بعد ماهيته - : يا أمّاه، أريد أن تساعديني على الهروب لألتحق بركب محمد إلى الحبشة. وترتسم على وجه الأم كآبة وحزن. إن سجنه بهذه الحالة أهون عليها أن يبعد عنها إلى أرض النجاشي.
ولكن مصعباً لم يهدأ من تكرار الطلب عليها، ويوضح لها بأن في هذا العمل سلامته. وأخيراً، تخضع الأم لطلب عزيزها وتساعده على الهرب، والتخلص من سجن أبيه، ويلحق بقومه، وتضم الصفوة الطاهرة أرض النجاشي عهداً ليس بالطّويل.
وتشرق شمس، وتغرب شمس، ونور الإسلام يمتدّ مع الأيام حتى يقوى ويشتد، وتنهار أمامه حشرجات الظلام، وعلى ضوء الصباح، تعود القافلة المسلمة، توشح طريق الإيمان بالأمل.
ويعود مصعب مع من يعود، وهو في عودته أقوى جناناً من قبل، لا يهاب سطوة قريش، ولا سخط أبيه.
وعلى قارعة الطريق، تقف أُمّ مصعب مع الواقفات يشاهدن موكب المسلمين، وهم يعودون سالمين إلى أوطانهم، وتحاول الأمّ الشفيقة أن تتشبّث بولدها، ولكن المسلم الجريء يدفع أُمّه برفق، ثم يرمقها بنظرات عاطفيّة، ويتفوّه والدمعات تنتثر على وجناته، وهو يخاطب أُمّه: يعزّ عليّ والله أن أمتنع من استقبال أبي وأمّي، فليس لمسلم أن يطرق باب المشركين، ولو كانت دار أبيه وأمّه.
وتكتم الأمّ زفرة بين طيات صدرها، وتنثني عائدة إلى الدار، فتلمح عميراً وهو على عتبة الباب، وقد تسمّرت عيناه إلى وضح الطريق، ودمعة تترقرق في مآقيه.
وبين صدى النشيج المنساب، تقول الأمّ المحزونة: يا أبا زرارة: إنّ مصعباً عاد مع القافلة، ومسحة من إشراق تظلّله، وهالة من إيمان تحيطه. فيقاطعها عمير، والثورة تؤزّ في كيانه: اسكتي، وكأنك ملت إلى هذا الدين الجديد، أخشى أن يسمعك أحد فيصيبنا بسوء. وتلملم الوالدة الحزينة دمعة نافرة في مآقيها، ثم تنثرها مدراراً.
ولا يمسي المساء، حتى يزهد مصعب بأمره، ويترك مظاهر الرقّة والدّلال، ويبعد عن عينيه مظاهر النعيم والترف، فالإسلام يحارب هذه المظاهر الزائفة، ولا بدّ من أن يواسي إخوانه الفقراء. ويرمقه الرسول الأعظم، وقد نزع عنه أبراد الحياة الناعمة فيتأثر لذلك، ويدعو له بالخير.كان مصعب لا يلبس إلا أرقّ حلّة، ولا يتطيب إلا بأحسن طيب، ويمر الزمن، وإذا به يرتدي فروة قد رفعها عن كاهله قليلاً لخشونتها، فيبكي محمد رقّة عليه .وفي ضحوة النهار، طلق مصعب دنياه الجملية الضاحكة وأخلص لدينه، وكان بهذه الصفات العالية نال المكانة المرمومة عند النبي (صلى الله عليه وآله). ويقصد النبي مكّة في موسم الحجّ ليبلّغ رسالته، ويقدم عليه وفد المدينة من الخزرج والأوس - وهم يشهدون بالتوحيد وبرسالته - ويطلبون منه أن يرسل معهم معلّماً وموجّهاً، ويرى الرسول أن مصعباً خير من يقوم بهذه المهمة، فيقول له: يا مصعب: أترغب في خدمة تؤديها للمسلمين؟
لبّيك يا رسول الله .ارحل إلى المدينة - وكان ذلك قبل الهجرة بقليل - وعلّم المسلمين القرآن، وفقّههم في الدين. سمعاً وطاعة يا رسول الله.
ويرحل مصعب مع الوفد المدني، ليؤدّي رسالته المقدَّسة، ويبلّغ ويرشد ويتخذ من دار أبي أمامة، أسعد بن زرارة، مركزاً له، وتجمع حوله عدد من الذين نوَّر الله قلوبهم بالإيمان، يعلّمهم القرآن، ويفقّههم في الدين، حتى صار معروفاً في المدينة بـ(المقرئ).
وذات ليلة قمراء، يحدّث أبو أمامة ضيفه مصعباً، فيقول له: لو ترى أن نخرج غداً لسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وهما سيدا الأوس، وتعرض عليهما الإسلام، فعسى أن يستجيبا للدعوة، وفي ذلك إيمان الأوس.
وفي الصباح، قصد الرجلان زعيمي الأوس، ولم يبلغا مضارب الأوس، حتى بلغ خبرهما سماع سعد وأسيد، فضاقا بهما ذرعاً، والتفت سعد إلى أسيد طالباً منه أن يذهب إلى الرّجلين، ويطلب منهما أن يعودا من حيث أتيا، فهما لم يقصدا هذه الديار إلا ليسفها ضعفاءنا، ويضعضعا شبابنا، ما لنا ولهم، ولولا أن سعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك، فهو ابن خالتي، ومصعب صاحب محمد ضيفه، ولا أرغب أن أكون قاسياً معه.
وتوجه أسيد إليهما، وما إن وقعت عين أسعد عليه، حتى قال لمصعب: هذا سيّد قومه قد أقبل عليك، فاصدق الله فيه.
قال مصعب: أرجو أن أوفَّق في ذلك .ووقف أسيد عليهما، وهو شاهر حربته، وقال لهما: ما جاء بكما إلينا؟ نحن لا نرغب في قولكما. وبكلّ هدوء، قال له مصعب: لو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته ذهبنا عنك .قال: أنصفت. ثم ركز حربته، وجلس معهما، فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن.
يسمع أسيد هذا الكلام، ويأخذ لبّه، ويسيطر على مشاعره، وتمرّ به ساعة، وهو لا يعرف عن نفسه شيئاً، لقد انصهر بالحديث، وأعجب بالآيات الكريمة، ولم يلتفت إلا وهو يميل إلى مصعب قائلاً: وكيف أدخل في الإسلام؟ ما أحسن هذا الكلام وأجمله! وما أعظم هذه المثل التي يتبنّاها دينكم! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسوله وعبده. ووثب دفعة، وعاد راجعاً إلى صاحبه سعد بن معاذ، ويدخل عليه، وهو بين قومه في مجلسهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الّذي ذهب به من عندكم. فلما وصل أسيد إلى المجلس، قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرّجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما. فقال: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن لهما معك حاجة، فلو أجبتهما، فقام سعد لهما، ولما أقبل، قال أبو أمامة لمصعب: جاءك والله سيد مَن وراءه قومه، إن تبعك لم يتخلّف عنك منهم اثنان.
وما إن وقف عليهما، حتى بادرهما بقوله: وماذا تريدان مني؟ فقال له مصعب: اجلس واسمع، فإن رغبت بما قلنا، وإلا تركناك. فجلس معهما، فتحدث له مصعب عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن، وهما في هذه، يقول أسعد: عرفت والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، ولم ينته مصعب من حديثه، حتى نوَّر الله قلب سعد بن معاذ، وأسلم.
وعاد إلى قومه، ووقف بينهم، وهو يقول: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله. ولم يمسِ المساء على أحياء الأوس إلا وأسلموا، ولم تتخلّف منهم إلا بيوت بقيت ولم تشمل بالهداية، وعاد مصعب مع مضيفه أسعد إلى مقامهما، وهما سعيدان بهذه الخطوة.
ومرة أخرى يخاطب الرسول مصعباً: كيف تكون لو وقع أحد من أهل بيتك أسيراً في يديك، فهل تأخذك الرقّة والعاطفة؟ يا رسول الله، لا تأخذني في سبيل الله رقة وعاطفة، حتى ولو كان أبي أو أخي .ويعلن النبيّ النفير العام بين المسلمين استعداداً لغزوة بدر، وتزحف جيوش المسلمين لتقابل جيشاً سدَّ الخافقين، ومصعب يحمل لواء المسلمين. ويلتحم الجيشان، ولم تنحسر المعركة إلا وزرارة بن عمير أسير بيد أخيه مصعب، والرّجل كان يحمل لواء المشركين في بدر.
ونادى منادي المشركين أنّ زرارة أسير لدى المسلمين. وتهرع الجموع إلى مصعب لتطلب منه صاحب لواء المشركين: إنه أخوك يا مصعب فارفق به، ولا تعامله بالقسوة كرامةً لأمك، أطلق سراح أخيك. ولكن هيهات! فلم يسمع الحشد من مصعب إلا السخرية والاستهزاء. ولما لم ترَ أمه تزعزعاً عن موقفه، تضطر هي لتفتدي زرارة بأربعة آلاف درهم، فيضيفها إلى خزانة المسلمين.
ويسمع الرسول بهذا الأمر، فيطبع على جبين مصعب قبلة الرّضا، ويدعو الله له بالموفقيّة. انطوت أحاديث بدر، وتحدث الناس عن غزوة (أُحد)، وقد أصدر الرسول أمره بالتأهب لها، ويستعدّ المسلمون للزحف، وفي صباح اليوم المشهود، انتظر القوم موقف النبي لمن يسلّم رايته، ولم يطل التفكير بهم، فقد أعطى لواء المسلمين إلى مصعب.
وفي ساحة الميدان، وقبل أن تنجلي المعركة، يخرّ مصعب صريعاً في رهج الحرب، ويحمله الرسول الأعظم إلى حيث ترك أصفياءه، يودّعه بدمعة حارة، فيها الكثير من الحزن، وفيها الكثير من الألم.
*من كتاب "بين يَدي الرّسُول الأعظم (ص)".