معركة أحد وشهاده حمزة عمّ النبيّ (ص)

معركة أحد وشهاده حمزة عمّ النبيّ (ص)

منطقة "أحد"

كان الوادي الطويل الكبير الذي يصل طريق الشام التجارية باليمن، يسمى آنذاك بـ «وادي القرى»، وكانت القبائل العربية من اليهود وغير اليهود تقطن في كل منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة ومستلزمات الحياة، ولهذا نشأت على طول هذا الخط «قرى» بسبب وجود مناطق خصبة فيه، وقد سوّرت بأسوار من الحجارة، وكانت يثرب مركز هذه القرى وأمها، وهي التي سميت في ما بعد بمدينة الرّسول، ومن ثم «المدينة» تخفيفاً واختصاراً.

وكان على كل قادم من مكة إلى المدينة، أن يدخل من جنوب يثرب، وحيث إن أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية، لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمراً عسيراً وفي غاية الصعوبة.

من هنا، عمدت قريش ـ عندما وصل جيشها إلى مشارف المدينة ـ إلى تحاشي هذه المنطقة، ودخلت من شمال المدينة، واستقرت في وادي العقيق في سفوح جبل «أحد»، وقد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها، ولسهولة أرضها، أفضل مكان للعمليات العسكرية، وخير ميدان للقتال والحرب.

نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل «أحد».

وبقي النبي ذلك اليوم وليلته في المدينة، وفي يوم الجمعة، أقدم رسول الله (ص) على عقد شورى عسكرية، واستشار قادة جيشه وأهل الخبرة والرأي من أصحابه في كيفيّة مواجهة العدوّ، والتكتيك الذي يجب أن يتّبعه المسلمون.

لما سمع رسول الله (ص) باقتراب قريش إلى المدينة، وقف في تلك الشورى التي كانت جمعاً كبيراً من صناديد أصحابه، وقادة جيشه وجنوده، وقال بصوت عال: «أشيروا عليّ»، وهو يطلب بذلك من أولئك الجنود والقادة، أن يدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو، وطريقة الدفاع عن حوزة الإسلام وصرح التوحيد المهدَّدة من قبل قريش والمتحالفين معهم من أحزاب الشّرك، وأتباع الوثنيّة.

وكان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول الله (ص) من المهاجرين والأنصار، إلا أن الفتيان من المسلمين، وبخاصّة من لم يشهد منهم بدراً، وكانوا يشكلون الأغلبية، شجبوا هذا الرأي بشدة، ورفضوه بقوة، وطلبوا من رسول الله الخروج إلى العدوّ، ورغبوا في الشهادة، وأحبّوا لقاء العدوّ.

وقال «حمزة» بطل الإسلام العظيم: لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة.

حصيلة الشّورى

لقد أخذ رسول (ص) برأى الأكثرية التي كانت ترجّح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ، ورجح هو (ص) البقاء في المدينة وقتال العدوّ داخلها، إذ لم يكن من الصّالح ـ بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة، وسعد بن عباده ونظرائهم، وأصرّوا عليه ـ أن يأخذ برأي عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق.

هذا مضافاً إلى أن حرب الشوارع والمدن غير المنظم في داخل سكك المدينة وأزقتها الضيقة، واشتراك النسوة في الأمور الدفاعية، والجلوس في البيت، والسماح للعدو بأن يفعل ما يريد، آية العجز، والوهن، وهو أمر لا يليق بالمسلمين، ولا يتلاءم مع الانتصار العظيم الذي كسبوه في معركة «بدر»، وهزموا به عدوّهم الغاشم القويّ.

إنّ محاصرة المدينة وسيطرة العدوّ على مداخلها وطرقاتها، وسكوت جنود الإسلام على ذلك، من شأنه أن يقتل الروح القتالية، والفروسية في أبناء الإسلام المجاهدين.

ويمكن أن يكون «عبد الله بن أبيّ بن سلول» قد أضمر في نفسه نيّة سيئة ضد رسول (ص)، وأنه بهذا الاقتراح (أي البقاء في المدينة وعدم الخروج لمجابهة العدوّ ومواجهته بشجاعة) كان يريد ـ في الحقيقة ـ أن يوجّه ضربة الى النبيّ (ص)!.

النبيّ يلبس لامة الحرب

بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو والدفاع، دخل رسول الله (ص) بيته ولبس لامته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم، واعتمّ وتقلّد السيف، وخرج من بيته.

فأثار هذا المشهد المسلمين، وهزّهم بشدّة، وتصور بعضهم بأن إصرارهم على النبيّ (ص) بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا، وخشوا أنهم قد استكرهوه على هذا الأمر، فندموا على ذلك، وقالوا معتذرين: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك (أو: ما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك).

استعرض رسول (ص) جيشه في منطقة تدعى بالشيخين، وكانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع أشعة السيوف، وتعكس إصراراً كبيراً على قتال الكفار، ومجاهدة المشركين.

ولقد كان جيش رسول الله (ص) الذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل أحد، يتألف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتاً كبيراً. ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السنّ، وفيهم الشاب الفدائيّ الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.

العسكران يصطفّان

في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، اصطفّت قوى الإسلام أمام قوى الشرك المعتدية، وكان جيش التوحيد قد جعل ظهره إلى أحد كمانع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف. وقد كان في جبل أحد ثغرة كان من الممكن أن يتسلل منها العدوّ ويباغت المسلمين من الخلف، ويوجّه إليهم ضربة قاضية.

ولهذا، عمل رسول (ص) إلى وضع جماعة من الرماة عند تلك الثغرة، وأمّر عليهم «عبد الله بن جبير» وقال :

«انضح الخيل عنّا بالنبل، واحموا لنا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، إن كانت لنا أو علينا، فلا تفارقوا مكانكم». ولقد أثبتت حوادث «أحد» التي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكرياً، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في بداية المعركة، نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ وإخلاء ذلك الموقع الاستراتيجي، الأمر الذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافيّة سريعة، ويحمل عليهم، ويوجه عليهم ضربة قوية!!

رفع معنويّات الجنود وتقوية عزائمهم

لم يكن النبيّ (ص) ليغفل في المعارك والحروب عن تقوية العنصر الرّوحيّ لدى الجنود، وما يصطلح عليه الآن بالرّوح المعنوية، أو المعنويات العسكريّة.

ففي هذه المرّة أيضاً، لما اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدجّجين بالسّلاح، خطب رسول الله (ص) في المسلمين خطبة رفع بها من معنوياتهم، وذلك بعد أن نظم صفوفهم وسوّاها.

العدوّ ينظّم صفوفه

نظم أبو سفيان قائد المشركين صفوف جنوده، وقسّمهم إلى ثلاثة أقسام: الرماة، وجعلهم في الوسط، والميمنة، واستعمل عليهم خالد بن الوليد، والميسرة، واستعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل. وقدّم جماعة فيهم حملة الألوية والرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات، وكانوا جميعاً من بني عبد الدار: إنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء، وإنّما يؤتى القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، أو خلوا بيننا وبينه فإنا قوم مستميتون موتورون، نطلب ثاراً حديث العهد.

القتال يبدأ

بدأ القتال بما فعله أبو عامر الفاسق الذي كان قد هرب من المدينة مباعداً لرسول الله (ص) كما أسلفنا، وكان من الأوس، وقد فرَّ معه خمسة عشر رجلاً من الأوس بسبب معارضته للإسلام.

وقد تصوّر أبو عامر هذا أنّ الأوس إذا رأوا يوم أحد تركوا نصرة رسول (ص)، فلمّا التقى العسكران يومئذٍ، نادى أبو عامر: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر. قالوا : فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق. فلمّا سمع ردّ الأوس تركهم، واعتزل الحرب بعد قليل.

ثم إنّ هناك مواقف وتضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة أحد معروفة بين المؤرخين، أبرزها، وأجدرها بالإجلال، تضحيات علي (ع) ومواقفه الكبرى في ذلك اليوم، فهو صاحب اللواء والراية في هذه الموقعة الكبرى.

الهزيمة بعد الانتصار

قد يتساءل سائل: لماذا انتصر المسلمون أوّلاً؟ لقد انتصروا لأنهم كانوا يقاتلون، ولا يحدوهم في ذلك شيء حتى لحظة الانتصار، إلاّ الرغبة في مرضاة الله، ونشر عقيدة التوحيد، وإزالة الموانع عن طريقها، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه. وقد يتساءل : ولماذا انهزموا أخيراً؟ لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين ونواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار، فقد توجهت أنظارهم إلى الغنائم التي تركتها قريش في أرض المعركة، وفروا منهزمين. لقد خولط إخلاص عدد كبير من المسلمين، ونسوا على أثره أوامر النبيّ (ص) وتعاليمه، فغفلوا عن ظروف الحرب.

ولقد دأب حمزة على حماية رسول الله (ص) من أذى المشركين والوليين في اللحظات الخطيرة، والظروف القاسية من بدء الدعوة المحمدية بمكّة.

وقد ردّ على أبي جهل الذي كان قد أذى رسول (ص) بشدة، وضربه ضربه شجّ بها رأسه في جمع من قادة قريش، ولم يجرؤ أحد على مقابلته.

لقد كان حمزة مسلماً مجاهداً وبطلاً فدائياً متفانياً في سبيل الإسلام، فهو الذي قتل «شيبة»، وشيبة من كبار صناديد قريش وأبطالها في بدر، كما قتل آخرين، ولم يهدف إلا نصرة الحق والفضيلة، وإقرار الحرية في حياة الشعوب والأمم.

ولقد كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان تحقد عليه أشدّ الحقد، وقد عزمت على أن تنتقم من المسلمين لأبيها مهما كلَّف الثّمن.

فأمرت «وحشياً»، وهو غلام حبشي لجبير بن مطعم الذي قتل هو الآخر عمّه في بدر، بأن يحقّق غرضها، وأملها كيفما استطاع، وقالت له: لئن قتلت محمداً أو علياً أو حمزة لأعطينّك رضاك.

فقال وحشي لها: أمّا محمد فلا أقدر عليه، وأما عليّ فوجدته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلا أطمع فيه، وأمّا حمزة، فإني أطمع فيه، لأنه إذا غضب لم يبصر بين يديه.

يقول وحشيّ: ولما كان يوم أحد، كمنت لحمزة في أصل شجرة ليدنو مني، وكان حمزة يومئذ قد أعلم بريشة نعامة في صدره، فوالله إني لأنظر إليه يهدّ النّاس بسيفه هداً، ما يقوم له شيء، فهززت حربتي ـ وكان ماهراً في رمي الحراب ـ حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته (وهي أسفل البطن)، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي، فغلب، وتركته وايّاها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق.

وفي خلال ذلك، سقط رسول (ص) في حفيرة في الجبل حفرها أبو عمار الفاسق للمسلمين، فأخذ عليّ (ع) بيد النبيّ (ص) وأخرجه منها، وكان أوّل من عرف رسول (ص) من المسلمين، «كعب بن مالك»، وقد رأى عينيه (ص) تزهران من تحت المغفر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول (ص)، فأشار إليه رسول (ص) أن انصت.

وذلك لأن انتشار خبر سلامة النبيّ (ص) كان من شأنه أن يدفع المشركين ـ كما قلنا ـ إلى مواصلة حملاتهم على المسلمين، بهدف استئصال شأفتهم، ولهذا أمر النبيّ (ص) كعباً بالسكوت، فسكت كعب.

وأخيراً وصل رسول (ص) إلى فم الشّعب، ولما عرف المسلمون بحياته (ص)، سروا بذلك، وأخذوا يتجمّعون عنده، وهم يظهرون النّدامة من تركه بين الأعداء، والفرار بأنفسهم إلى الجبل، وأخرج أبو عبيدة الجرّاح حلقتي المغفر من وجه رسول (ص)، وجاء عليّ (ع) بماء في درقته، فغسل رسول الله (ص)، وجاء علي (ع) بماء في درقته فغسل رسول الله (ص) به الدم عن وجهه وصبّ منه على رأسه...

نهاية المعركة

وضعت الحرب أوزارها، وتباعد الجانبان، وقد تحمّل المسلمون من الخسائر في الأرواح ثلاثة أضعاف ما تحمّله المشركون، وكان عليهم أن يبادروا إلى دفن الشهداء على النحو الذي أمرهم به الدين. ولكنهم فوجئوا بأمر فظيع، فقد اغتنمت نسوة من قريش، وفي طليعتهن هند زوجة أبي سفيان، فرصة انشغال المقاتلين المسلمين، وارتكبن بحق الشهداء الأبرار جناية فظيعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلاً، فهن لم يكتفين بالانتصار الظاهري، بل عمدن إلى التمثيل بشهداء المسلمين، تمثيلاً مروّعاً، فخمشن وجوههم، وقطّعن الأنوف، وجدعن الآذان، وسملن العيون، وقطعن أصابع الأيدي والأرجل، والمذاكير، وصنعن منها القلائد والأساور، نكاية بالمسلمين، وإطفاءً للحقد الدفين، وبذلك ألحقن بهنّ وبأوليائهنّ عاراً لا ينسى. ثم إنّ رسول الله (ص) صلى على شهداء أحد الأبرار، وأمر بدفنهم واحداً واحداً، أو اثنين اثنين، وأمر بأن يدفن «عمرو بن الجموح» و «عبد الله بن عمرو» في قبر واحد...

النبيّ يعود إلى المدينة

كانت الشمس تميل نحو المغرب، وكانت تستعدّ للملمة أشعتها الذهبية من صفحة الكون، وكان السكون والصمت يخيّم على كلّ مكان من الأرض.

في مثل هذه اللحظات، كان على المسلمين المقاتلين أن يعودوا بجرحاهم إلى منازلهم في المدينة ليستعيدوا قواهم، ويجدّدوا نشاطهم، ويضمّدوا جرحاهم. ولهذا صدرت أوامر من جانب النبيّ (ص) بالتوجه نحو المدينة.

فلما كانوا بأصل الحرة، قال (ص): اصطفوا فنثني على الله. فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء، ثم دعا فقال" :اللّهمّ لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضلّ لمن هديت، ولا مقرّب لما باعدت، ولا مباعد لما قرّبت. اللهم انّي أسألك الأمن يوم الخوف، والغنى يوم الفاقة عائذاً بك .اللهم من شرّ ما أعطيتنا وشرّ ما منعت منّا .اللهم توفّنا مسلمين .اللهم حبّب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين .اللهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدّون عن سبيلك. اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك إله الحقّ. آمين".

وأخيراً، انتهت معركة أحد، وقد قدم المسلمون فيها سبعين، أو أربعة وسبعين، أو واحداً وثمانين شهيداً، على روايات مختلفة، بينما لم يتجاوز عدد قتلى قريش اثنين وعشرين.

*من كتاب "سيّد المرسلين".

منطقة "أحد"

كان الوادي الطويل الكبير الذي يصل طريق الشام التجارية باليمن، يسمى آنذاك بـ «وادي القرى»، وكانت القبائل العربية من اليهود وغير اليهود تقطن في كل منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة ومستلزمات الحياة، ولهذا نشأت على طول هذا الخط «قرى» بسبب وجود مناطق خصبة فيه، وقد سوّرت بأسوار من الحجارة، وكانت يثرب مركز هذه القرى وأمها، وهي التي سميت في ما بعد بمدينة الرّسول، ومن ثم «المدينة» تخفيفاً واختصاراً.

وكان على كل قادم من مكة إلى المدينة، أن يدخل من جنوب يثرب، وحيث إن أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية، لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمراً عسيراً وفي غاية الصعوبة.

من هنا، عمدت قريش ـ عندما وصل جيشها إلى مشارف المدينة ـ إلى تحاشي هذه المنطقة، ودخلت من شمال المدينة، واستقرت في وادي العقيق في سفوح جبل «أحد»، وقد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها، ولسهولة أرضها، أفضل مكان للعمليات العسكرية، وخير ميدان للقتال والحرب.

نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل «أحد».

وبقي النبي ذلك اليوم وليلته في المدينة، وفي يوم الجمعة، أقدم رسول الله (ص) على عقد شورى عسكرية، واستشار قادة جيشه وأهل الخبرة والرأي من أصحابه في كيفيّة مواجهة العدوّ، والتكتيك الذي يجب أن يتّبعه المسلمون.

لما سمع رسول الله (ص) باقتراب قريش إلى المدينة، وقف في تلك الشورى التي كانت جمعاً كبيراً من صناديد أصحابه، وقادة جيشه وجنوده، وقال بصوت عال: «أشيروا عليّ»، وهو يطلب بذلك من أولئك الجنود والقادة، أن يدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو، وطريقة الدفاع عن حوزة الإسلام وصرح التوحيد المهدَّدة من قبل قريش والمتحالفين معهم من أحزاب الشّرك، وأتباع الوثنيّة.

وكان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول الله (ص) من المهاجرين والأنصار، إلا أن الفتيان من المسلمين، وبخاصّة من لم يشهد منهم بدراً، وكانوا يشكلون الأغلبية، شجبوا هذا الرأي بشدة، ورفضوه بقوة، وطلبوا من رسول الله الخروج إلى العدوّ، ورغبوا في الشهادة، وأحبّوا لقاء العدوّ.

وقال «حمزة» بطل الإسلام العظيم: لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة.

حصيلة الشّورى

لقد أخذ رسول (ص) برأى الأكثرية التي كانت ترجّح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ، ورجح هو (ص) البقاء في المدينة وقتال العدوّ داخلها، إذ لم يكن من الصّالح ـ بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة، وسعد بن عباده ونظرائهم، وأصرّوا عليه ـ أن يأخذ برأي عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق.

هذا مضافاً إلى أن حرب الشوارع والمدن غير المنظم في داخل سكك المدينة وأزقتها الضيقة، واشتراك النسوة في الأمور الدفاعية، والجلوس في البيت، والسماح للعدو بأن يفعل ما يريد، آية العجز، والوهن، وهو أمر لا يليق بالمسلمين، ولا يتلاءم مع الانتصار العظيم الذي كسبوه في معركة «بدر»، وهزموا به عدوّهم الغاشم القويّ.

إنّ محاصرة المدينة وسيطرة العدوّ على مداخلها وطرقاتها، وسكوت جنود الإسلام على ذلك، من شأنه أن يقتل الروح القتالية، والفروسية في أبناء الإسلام المجاهدين.

ويمكن أن يكون «عبد الله بن أبيّ بن سلول» قد أضمر في نفسه نيّة سيئة ضد رسول (ص)، وأنه بهذا الاقتراح (أي البقاء في المدينة وعدم الخروج لمجابهة العدوّ ومواجهته بشجاعة) كان يريد ـ في الحقيقة ـ أن يوجّه ضربة الى النبيّ (ص)!.

النبيّ يلبس لامة الحرب

بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو والدفاع، دخل رسول الله (ص) بيته ولبس لامته، وقد لبس الدرع فأظهرها، وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم، واعتمّ وتقلّد السيف، وخرج من بيته.

فأثار هذا المشهد المسلمين، وهزّهم بشدّة، وتصور بعضهم بأن إصرارهم على النبيّ (ص) بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا، وخشوا أنهم قد استكرهوه على هذا الأمر، فندموا على ذلك، وقالوا معتذرين: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك (أو: ما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك).

استعرض رسول (ص) جيشه في منطقة تدعى بالشيخين، وكانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع أشعة السيوف، وتعكس إصراراً كبيراً على قتال الكفار، ومجاهدة المشركين.

ولقد كان جيش رسول الله (ص) الذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل أحد، يتألف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتاً كبيراً. ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السنّ، وفيهم الشاب الفدائيّ الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.

العسكران يصطفّان

في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، اصطفّت قوى الإسلام أمام قوى الشرك المعتدية، وكان جيش التوحيد قد جعل ظهره إلى أحد كمانع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف. وقد كان في جبل أحد ثغرة كان من الممكن أن يتسلل منها العدوّ ويباغت المسلمين من الخلف، ويوجّه إليهم ضربة قاضية.

ولهذا، عمل رسول (ص) إلى وضع جماعة من الرماة عند تلك الثغرة، وأمّر عليهم «عبد الله بن جبير» وقال :

«انضح الخيل عنّا بالنبل، واحموا لنا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، إن كانت لنا أو علينا، فلا تفارقوا مكانكم». ولقد أثبتت حوادث «أحد» التي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكرياً، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في بداية المعركة، نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ وإخلاء ذلك الموقع الاستراتيجي، الأمر الذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافيّة سريعة، ويحمل عليهم، ويوجه عليهم ضربة قوية!!

رفع معنويّات الجنود وتقوية عزائمهم

لم يكن النبيّ (ص) ليغفل في المعارك والحروب عن تقوية العنصر الرّوحيّ لدى الجنود، وما يصطلح عليه الآن بالرّوح المعنوية، أو المعنويات العسكريّة.

ففي هذه المرّة أيضاً، لما اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدجّجين بالسّلاح، خطب رسول الله (ص) في المسلمين خطبة رفع بها من معنوياتهم، وذلك بعد أن نظم صفوفهم وسوّاها.

العدوّ ينظّم صفوفه

نظم أبو سفيان قائد المشركين صفوف جنوده، وقسّمهم إلى ثلاثة أقسام: الرماة، وجعلهم في الوسط، والميمنة، واستعمل عليهم خالد بن الوليد، والميسرة، واستعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل. وقدّم جماعة فيهم حملة الألوية والرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات، وكانوا جميعاً من بني عبد الدار: إنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء، وإنّما يؤتى القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، أو خلوا بيننا وبينه فإنا قوم مستميتون موتورون، نطلب ثاراً حديث العهد.

القتال يبدأ

بدأ القتال بما فعله أبو عامر الفاسق الذي كان قد هرب من المدينة مباعداً لرسول الله (ص) كما أسلفنا، وكان من الأوس، وقد فرَّ معه خمسة عشر رجلاً من الأوس بسبب معارضته للإسلام.

وقد تصوّر أبو عامر هذا أنّ الأوس إذا رأوا يوم أحد تركوا نصرة رسول (ص)، فلمّا التقى العسكران يومئذٍ، نادى أبو عامر: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر. قالوا : فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق. فلمّا سمع ردّ الأوس تركهم، واعتزل الحرب بعد قليل.

ثم إنّ هناك مواقف وتضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة أحد معروفة بين المؤرخين، أبرزها، وأجدرها بالإجلال، تضحيات علي (ع) ومواقفه الكبرى في ذلك اليوم، فهو صاحب اللواء والراية في هذه الموقعة الكبرى.

الهزيمة بعد الانتصار

قد يتساءل سائل: لماذا انتصر المسلمون أوّلاً؟ لقد انتصروا لأنهم كانوا يقاتلون، ولا يحدوهم في ذلك شيء حتى لحظة الانتصار، إلاّ الرغبة في مرضاة الله، ونشر عقيدة التوحيد، وإزالة الموانع عن طريقها، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه. وقد يتساءل : ولماذا انهزموا أخيراً؟ لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين ونواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار، فقد توجهت أنظارهم إلى الغنائم التي تركتها قريش في أرض المعركة، وفروا منهزمين. لقد خولط إخلاص عدد كبير من المسلمين، ونسوا على أثره أوامر النبيّ (ص) وتعاليمه، فغفلوا عن ظروف الحرب.

ولقد دأب حمزة على حماية رسول الله (ص) من أذى المشركين والوليين في اللحظات الخطيرة، والظروف القاسية من بدء الدعوة المحمدية بمكّة.

وقد ردّ على أبي جهل الذي كان قد أذى رسول (ص) بشدة، وضربه ضربه شجّ بها رأسه في جمع من قادة قريش، ولم يجرؤ أحد على مقابلته.

لقد كان حمزة مسلماً مجاهداً وبطلاً فدائياً متفانياً في سبيل الإسلام، فهو الذي قتل «شيبة»، وشيبة من كبار صناديد قريش وأبطالها في بدر، كما قتل آخرين، ولم يهدف إلا نصرة الحق والفضيلة، وإقرار الحرية في حياة الشعوب والأمم.

ولقد كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان تحقد عليه أشدّ الحقد، وقد عزمت على أن تنتقم من المسلمين لأبيها مهما كلَّف الثّمن.

فأمرت «وحشياً»، وهو غلام حبشي لجبير بن مطعم الذي قتل هو الآخر عمّه في بدر، بأن يحقّق غرضها، وأملها كيفما استطاع، وقالت له: لئن قتلت محمداً أو علياً أو حمزة لأعطينّك رضاك.

فقال وحشي لها: أمّا محمد فلا أقدر عليه، وأما عليّ فوجدته رجلاً حذراً كثير الالتفات فلا أطمع فيه، وأمّا حمزة، فإني أطمع فيه، لأنه إذا غضب لم يبصر بين يديه.

يقول وحشيّ: ولما كان يوم أحد، كمنت لحمزة في أصل شجرة ليدنو مني، وكان حمزة يومئذ قد أعلم بريشة نعامة في صدره، فوالله إني لأنظر إليه يهدّ النّاس بسيفه هداً، ما يقوم له شيء، فهززت حربتي ـ وكان ماهراً في رمي الحراب ـ حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته (وهي أسفل البطن)، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي، فغلب، وتركته وايّاها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق.

وفي خلال ذلك، سقط رسول (ص) في حفيرة في الجبل حفرها أبو عمار الفاسق للمسلمين، فأخذ عليّ (ع) بيد النبيّ (ص) وأخرجه منها، وكان أوّل من عرف رسول (ص) من المسلمين، «كعب بن مالك»، وقد رأى عينيه (ص) تزهران من تحت المغفر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول (ص)، فأشار إليه رسول (ص) أن انصت.

وذلك لأن انتشار خبر سلامة النبيّ (ص) كان من شأنه أن يدفع المشركين ـ كما قلنا ـ إلى مواصلة حملاتهم على المسلمين، بهدف استئصال شأفتهم، ولهذا أمر النبيّ (ص) كعباً بالسكوت، فسكت كعب.

وأخيراً وصل رسول (ص) إلى فم الشّعب، ولما عرف المسلمون بحياته (ص)، سروا بذلك، وأخذوا يتجمّعون عنده، وهم يظهرون النّدامة من تركه بين الأعداء، والفرار بأنفسهم إلى الجبل، وأخرج أبو عبيدة الجرّاح حلقتي المغفر من وجه رسول (ص)، وجاء عليّ (ع) بماء في درقته، فغسل رسول الله (ص)، وجاء علي (ع) بماء في درقته فغسل رسول الله (ص) به الدم عن وجهه وصبّ منه على رأسه...

نهاية المعركة

وضعت الحرب أوزارها، وتباعد الجانبان، وقد تحمّل المسلمون من الخسائر في الأرواح ثلاثة أضعاف ما تحمّله المشركون، وكان عليهم أن يبادروا إلى دفن الشهداء على النحو الذي أمرهم به الدين. ولكنهم فوجئوا بأمر فظيع، فقد اغتنمت نسوة من قريش، وفي طليعتهن هند زوجة أبي سفيان، فرصة انشغال المقاتلين المسلمين، وارتكبن بحق الشهداء الأبرار جناية فظيعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلاً، فهن لم يكتفين بالانتصار الظاهري، بل عمدن إلى التمثيل بشهداء المسلمين، تمثيلاً مروّعاً، فخمشن وجوههم، وقطّعن الأنوف، وجدعن الآذان، وسملن العيون، وقطعن أصابع الأيدي والأرجل، والمذاكير، وصنعن منها القلائد والأساور، نكاية بالمسلمين، وإطفاءً للحقد الدفين، وبذلك ألحقن بهنّ وبأوليائهنّ عاراً لا ينسى. ثم إنّ رسول الله (ص) صلى على شهداء أحد الأبرار، وأمر بدفنهم واحداً واحداً، أو اثنين اثنين، وأمر بأن يدفن «عمرو بن الجموح» و «عبد الله بن عمرو» في قبر واحد...

النبيّ يعود إلى المدينة

كانت الشمس تميل نحو المغرب، وكانت تستعدّ للملمة أشعتها الذهبية من صفحة الكون، وكان السكون والصمت يخيّم على كلّ مكان من الأرض.

في مثل هذه اللحظات، كان على المسلمين المقاتلين أن يعودوا بجرحاهم إلى منازلهم في المدينة ليستعيدوا قواهم، ويجدّدوا نشاطهم، ويضمّدوا جرحاهم. ولهذا صدرت أوامر من جانب النبيّ (ص) بالتوجه نحو المدينة.

فلما كانوا بأصل الحرة، قال (ص): اصطفوا فنثني على الله. فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء، ثم دعا فقال" :اللّهمّ لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضلّ لمن هديت، ولا مقرّب لما باعدت، ولا مباعد لما قرّبت. اللهم انّي أسألك الأمن يوم الخوف، والغنى يوم الفاقة عائذاً بك .اللهم من شرّ ما أعطيتنا وشرّ ما منعت منّا .اللهم توفّنا مسلمين .اللهم حبّب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين .اللهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدّون عن سبيلك. اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك إله الحقّ. آمين".

وأخيراً، انتهت معركة أحد، وقد قدم المسلمون فيها سبعين، أو أربعة وسبعين، أو واحداً وثمانين شهيداً، على روايات مختلفة، بينما لم يتجاوز عدد قتلى قريش اثنين وعشرين.

*من كتاب "سيّد المرسلين".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية