هكذا كان السيد فضل الله

هكذا كان السيد فضل الله
 

إنَّ من أهم ما تحتاج إليه السّاحة الإسلاميَّة في هذه الأيام، هو العالم المفكِّر المجدِّد الذي يعيش بين الناس ويشاركهم همومهم وأحلامهم وتطلعاتهم. تحتاج إلى الفقيه الّذي يفهم الإسلام، ويدرك أنَّه منهج حياة، لا مجرّد نظريات ومفاهيم مجردة لا علاقة لها بالواقع المعاش.

هكذا كان العالم المفكِّر المجاهد، والفقيه المجدِّد، والمرجع الديني الكبير، سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل الله(رض)، والذي فُجِع برحيله قبل ثلاثة أعوام، كلُّ مسلم أدرك القيم السامية التي جاء بها الإسلام، وكان واعياً لمقاصده وأهدافه في هذه الحياة.

ولمناسبة الذكرى الثالثة لوفاته، والَّتي تصادف اليوم الموافق 4/7/2013، أحببتُ أن أستعرض ـ وإن بإيجازٍ ـ بعضاً من صفات ذلك العالم القدير، ولا سيما وقد منَّ الله عليَّ بالعيش قريباً منه خلال السنوات الثماني الأخيرة من عمره الشَّريف، الأمر الَّذي أعتقد أنه يعطيني الحقَّ في أنَّ أتحدث عنه دون الوقوع فيما نهى الله تعالى عنه بقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء: 36].

وكان لا بدَّ من وقفةٍ عند هذه الذكرى، لما كان يمثِّله ذلك الفقيد الكبير في نفوس كثير من المسلمين وغيرهم، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وبخاصة أولئك الذين كانوا قريبين منه، وشاءت لهم الأقدار أن يعرفوه معرفة مباشرة.. فقد كان لفقده عظيم الأثر في النفوس والعقول والقلوب، الأمر الذي كان واضحاً جليّاً لكل من تابع وسائل الإعلام، باختلافها وتنوِّعها، منذ لحظة إعلان الوفاة في 4/7/2010، وحتى انتهاء مراسم التشييع والدفن.

لقد نذر ذلك العالم الجليل كلّ حياته خدمةً لرسالة الإسلام، وفي سبيل تحقيق أهدافها، ولم يكن اسمه وموقعه يمثلان عنده شيئاً، فلم يُعِر ـ في يوم من الأيام ـ أيَّ اهتمام لذاته ولمصالحه الشخصيّة. ولأنه لم يفعل، فقد عاش صراعات مريرة، وخاض ـ مع الغلاة والمتخلِّفين خاصة ـ معاركَ لم يكن من الصعب عليه أن يتفاداها لو أراد ذلك، لكن حساباته كانت مع الله، لا مع خلقه، وقد كان يشعر أنه مسؤول أمام الله عن التصريح بكلّ الحقائق التي يعتقد بها، لأنها أمانة الله عنده، ولذا فقد أعلنها صراحةً أنه لن يجامل الخرافيين، ولن يجامل المتخلِّفين، لأنه يريد أن يقدِّم خط أهل البيت(ع) للعالم بطريقة حضاريَّة، لا بطريقة خرافيَّة، ولا بطريقة المتخلّفين.. يريد أن يقدم تراث أهل البيت(ع) ـ وهو تراث الإسلام الأصيل ـ للغرب والشرق، ليعرفوا أن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع)، هم الذين يصنعون الحضارة، بعيداً عن كل الذين يركِّزون على الخرافة والتخلِّف والعصبيّة والحقد والبغضاء.

ورغم كلّ ما كان يواجهه من حقد الجهلة وعداوة المتخلِّفين، فقد كان يحبّ جميع الناس، ولم تعرف العداوةُ طريقاً إلى صدره، ولم يدخل في قلبه حقدٌ على إنسان، حتى لو كان ذلك الشخص من الذين سبُّوه وشتموه وكذّبوا عليه وشهَّروا به، ممَّن كانوا ينتحلون مذهب أهل البيت(ع)، ويدَّعون الانتساب إليه.

كان يؤمن بحقيقة أنَّ على الإنسان أن يحبَّ الَّذين يتفق معهم ليتعاون معهم على البر والتقوى وتأكيد الرسالة، وأن يحبَّ الذين يختلف معهم ـ وإن خاصموه وعادوه ـ لكي يحاول أن يفتح قلوبهم على الحوار من أجل فهم الحقيقة. وقد كان يردِّد دائماً أن الحياة لا تتحمَّل الحقد، لأن الحقد موتٌ، والمحبَّة حياة.وكان من نتائج ذاك الحب الذي كان يملأ قلبَه، أنه عاش حياته رائداً للوحدة الإسلاميَّة بالقول والعمل، ولم يحدث أن صدر عنه في يوم من الأيام ما يخدش مصداقيةَ سعيه في سبيل تحقيق ذلك الهدف النبيل.

ولسنا نعني هنا بالوحدة بين المسلمين، أن يعتنق جميعُهم مذهباً واحداً، بل نقصد أن يدركوا حقيقةَ أنهم جميعاً تحت ظلال رايةٍ واحدة، هي راية الإسلام، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل التي قد يعتقد البعضُ أهميتَها، إلا أنها مع ذلك لا تُعَدُّ من أصول الدين التي يُعتبر منكرُ أحدِها خارجاً عن الإسلام، وهي (التوحيد، والنبوة، والمعاد). ولذا، فإن عليهم أن يتوقفوا عن تكفير بعضهم البعض، وأن يُدينوا كل ما قد ينطلق في هذا الاتجاه من هنا أو هناك، كما عليهم أن يحبُّوا بعضهم البعض، وينزعوا ما في صدورهم من الأحقاد والضغائن، وعليهم أن يحترموا آراء بعضهم البعض، وإن اختلفت تلك الآراء وتنوَّعت، فالاختلاف، كما يُقال، لا يفسد للودِّ قضية، وعليهم بالحوار الجاد المنفتح في كل ما تنازعوا فيه واختلفوا، وأن يردُّوه إلى الله ورسوله استجابةً لأمره، سبحانه وتعالى، إن كانوا يؤمنون حقاً بالله ورسوله واليوم الآخر، ويجب أن يكون ذلك بكل تجرُّد وحياد وموضوعية، بعيداً عن الآراء المسبقة والمتبنَّيات القبلية، وأن تكون النية خالصة لطلب الحقيقة أينما كانت، دونما تشدُّد وتعصُّب لما كان عليه الآباء والأجداد، وإلا فإن الحوار لن يؤتيَ أُكُله، ولن تُخرِج الشجرةُ ثمارَها.

وهنا، لا بدَّ من التنبيه إلى أمر مهم، وهو أن الحوار في بعض الأحيان قد يستوفي جميع شروطه، ومع ذلك، فإن المتحاورين لا يصلون إلى نتائج إيجابية، بل يبقى كل طرف منهم متمسكاً برأيه، ويكون السبب في ذلك، إما قصوراً في الفهم، أو أسلوباً معيناً في التفكير، أو أيّ أمر آخر من الأمور التي تكون ناتجةً من طريقة التربية، أو خصوصيات البيئة، وما إلى ذلك ممَّا لا يكون للإنسان دورٌ مقصودٌ في وجوده.

وفي مثل هذه الحالات، ينبغي ألا تتخذَ الأطراف المتحاورة مواقفَ سلبيةً من بعضها البعض، فيبدأ هذا الطرف أو ذاك باتهام الطرف الآخر بجحود الحق، والتنكُّر للأدلة الواضحة البيِّنة بعد إقامة الحُجج والبراهين الدامغة، بل لا بد من أن يحمل كلُّ طرف الآخرَ على المحمل الحسن، وأن يحاول أن يتفهَّمَه، ويتلمَّس الأعذار له، وأن يحترم رأيه وما بقيَت عليه قناعاته، وبالتالي تبقى المحبَّة والمودَّة والتواصل بين جميع المسلمين.

وبعد أن أخذَنا الحديث عن الوحدة الإسلامية قليلاً، نعود إلى مَن أخذَ علينا قلوبَنا وأقلامَنا، لنقول إنه لم يكن رائداً للوحدة الإسلامية فحسب، بل كان من الدعاة إلى الوحدة بين أتباع الديانات المختلفة، أو لنقُل إنه كان من الدعاة إلى الوحدة الإنسانية بين جميع البشر، حيث كان يؤكِّدُ أن الصراعات الموجودة في العالم اليوم ليست بين الأديان، أو بين الدين والإلحاد، وإنما هي صراعات بين المستضعفين والمستكبرين، وكما أن في المسلمين مستضعفين، فإن فيهم مستكبرين أيضاً، وكذلك في المسيحيين وفي اليهود، وحتى في الملحدين.

وهكذا كان (طيَّب الله ثراه) إنسانياً في تفكيره، يلتقي مع الإنسان في كلّ مكان. وكان يرى أنَّ الإنسانيّة هي ذات الشيء الذي يُعبَّر عنه بكلمة "الفطرة"، ولذا، فإنه كان يعتقد أنَّ الإنسان إذا فكَّر بإنسانيته، أي بفطرته، فإنه سيلتقي بالإنسان الآخر، وسيكون قادراً على محاورته والتعاون معه، وهكذا يلتقي بالحقيقة.

ومن هنا، يمكن لنا أن ندرك أن المشكلة في كثير من الناس، هي أنهم يعيشون ركاماً من الأطماع والأحقاد متجمِّعاً فوق إنسانيتهم، يُطبق على الفطرة فيحجبها عن الانفتاح على الله، وعلى الحقيقة.لذلك، فإنه (رضوان الله عليه)، كان يدعو الإنسان إلى أن يعيش إنسانيته ليكون الينبوع المتدفق الذي يتفجر ولا يسألُ عن طبيعة الأرض التي ينساب فيها.. كان يدعوه إلى أن يتخلَّص من كلّ ذلك الركام الذي يُطبق على عقله ليجعله ضيِّقاً متخلِّفاً، ويُطبق على قلبه ليجعله حاقداً، ويُطبق على روحه ليبتعدَ بها عن عالم السماوات، ويُطبق على إرادته ليُضعفها، وعلى حركته ليُؤطِّرها في إطار لا يتسع للإنسان والحياة.

ولأنَّه كان صريحاً وجريئاً، إضافةً إلى اتصافه بالصّدق والإخلاص، فإنه لم يسلم من محاولات الاغتيال الجسدي، ولكن الذي كان يحُزُّ في نفسه حقاً هو محاولات الاغتيال المعنوي التي كانت تطعنه في الظهر، والتي شاركت فيها أطرافٌ عديدةٌ ذات أسباب ودواعٍ متباينة، كان بعضُها لا يتجاوز إطار الجهل والمرض والتخلّف والغلو. ورغم تعدُّد الأسباب واختلافها، إلا أنَّ هدف جميع تلك الأطراف كان واحداً، وهو إسقاط ذلك الجبل الشامخ الذي بقي راسخاً في مكانه، واثقاً بربِّه، فهو وحده الذي يدافع عن الذين آمنوا، وما كان يطلبُه منه هو أن يرزقَه الإخلاصَ في عمله.

أما ما كان يواجهه من عنت وتعسُّف وظلم، فقد هوَّنه على قلبه أنه كان بعين الله، وما دام ربُّه يحبُّه، وهو يحبُّ ربَّه، فلم تكن لديه أية مشكلة أمام كل الحاقدين المغرضين في كل ما كانوا يقومون به، بل كان يحاول أن يدرس نقاط الضعف فيهم، والتي ألجأتهم إلى ما كانوا عليه، وكان يحاول أن يدرس الجهلَ والتخلَّفَ الذي كانوا يعيشون فيه، والذاتيَّات التي كانوا يدورون في فلكها. ولذلك، فإنه كان يشفق عليهم من أنفسهم أكثر مما كان يشفق على نفسه منهم، وكان يتمثّل ـ في صراعه معهم ـ قول النبي(ص): "الَّلهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُوْنَ".

لقد كان ذلك العالم المحمدي الجليل - بحق - أحد أعلام هذا العصر، ولذا فقد كانت خسارة الإسلام والأمة الإسلامية بفقده خسارةً كبيرةً ليس من السهل تعويضها.



 

إنَّ من أهم ما تحتاج إليه السّاحة الإسلاميَّة في هذه الأيام، هو العالم المفكِّر المجدِّد الذي يعيش بين الناس ويشاركهم همومهم وأحلامهم وتطلعاتهم. تحتاج إلى الفقيه الّذي يفهم الإسلام، ويدرك أنَّه منهج حياة، لا مجرّد نظريات ومفاهيم مجردة لا علاقة لها بالواقع المعاش.

هكذا كان العالم المفكِّر المجاهد، والفقيه المجدِّد، والمرجع الديني الكبير، سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل الله(رض)، والذي فُجِع برحيله قبل ثلاثة أعوام، كلُّ مسلم أدرك القيم السامية التي جاء بها الإسلام، وكان واعياً لمقاصده وأهدافه في هذه الحياة.

ولمناسبة الذكرى الثالثة لوفاته، والَّتي تصادف اليوم الموافق 4/7/2013، أحببتُ أن أستعرض ـ وإن بإيجازٍ ـ بعضاً من صفات ذلك العالم القدير، ولا سيما وقد منَّ الله عليَّ بالعيش قريباً منه خلال السنوات الثماني الأخيرة من عمره الشَّريف، الأمر الَّذي أعتقد أنه يعطيني الحقَّ في أنَّ أتحدث عنه دون الوقوع فيما نهى الله تعالى عنه بقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء: 36].

وكان لا بدَّ من وقفةٍ عند هذه الذكرى، لما كان يمثِّله ذلك الفقيد الكبير في نفوس كثير من المسلمين وغيرهم، على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وبخاصة أولئك الذين كانوا قريبين منه، وشاءت لهم الأقدار أن يعرفوه معرفة مباشرة.. فقد كان لفقده عظيم الأثر في النفوس والعقول والقلوب، الأمر الذي كان واضحاً جليّاً لكل من تابع وسائل الإعلام، باختلافها وتنوِّعها، منذ لحظة إعلان الوفاة في 4/7/2010، وحتى انتهاء مراسم التشييع والدفن.

لقد نذر ذلك العالم الجليل كلّ حياته خدمةً لرسالة الإسلام، وفي سبيل تحقيق أهدافها، ولم يكن اسمه وموقعه يمثلان عنده شيئاً، فلم يُعِر ـ في يوم من الأيام ـ أيَّ اهتمام لذاته ولمصالحه الشخصيّة. ولأنه لم يفعل، فقد عاش صراعات مريرة، وخاض ـ مع الغلاة والمتخلِّفين خاصة ـ معاركَ لم يكن من الصعب عليه أن يتفاداها لو أراد ذلك، لكن حساباته كانت مع الله، لا مع خلقه، وقد كان يشعر أنه مسؤول أمام الله عن التصريح بكلّ الحقائق التي يعتقد بها، لأنها أمانة الله عنده، ولذا فقد أعلنها صراحةً أنه لن يجامل الخرافيين، ولن يجامل المتخلِّفين، لأنه يريد أن يقدِّم خط أهل البيت(ع) للعالم بطريقة حضاريَّة، لا بطريقة خرافيَّة، ولا بطريقة المتخلّفين.. يريد أن يقدم تراث أهل البيت(ع) ـ وهو تراث الإسلام الأصيل ـ للغرب والشرق، ليعرفوا أن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته(ع)، هم الذين يصنعون الحضارة، بعيداً عن كل الذين يركِّزون على الخرافة والتخلِّف والعصبيّة والحقد والبغضاء.

ورغم كلّ ما كان يواجهه من حقد الجهلة وعداوة المتخلِّفين، فقد كان يحبّ جميع الناس، ولم تعرف العداوةُ طريقاً إلى صدره، ولم يدخل في قلبه حقدٌ على إنسان، حتى لو كان ذلك الشخص من الذين سبُّوه وشتموه وكذّبوا عليه وشهَّروا به، ممَّن كانوا ينتحلون مذهب أهل البيت(ع)، ويدَّعون الانتساب إليه.

كان يؤمن بحقيقة أنَّ على الإنسان أن يحبَّ الَّذين يتفق معهم ليتعاون معهم على البر والتقوى وتأكيد الرسالة، وأن يحبَّ الذين يختلف معهم ـ وإن خاصموه وعادوه ـ لكي يحاول أن يفتح قلوبهم على الحوار من أجل فهم الحقيقة. وقد كان يردِّد دائماً أن الحياة لا تتحمَّل الحقد، لأن الحقد موتٌ، والمحبَّة حياة.وكان من نتائج ذاك الحب الذي كان يملأ قلبَه، أنه عاش حياته رائداً للوحدة الإسلاميَّة بالقول والعمل، ولم يحدث أن صدر عنه في يوم من الأيام ما يخدش مصداقيةَ سعيه في سبيل تحقيق ذلك الهدف النبيل.

ولسنا نعني هنا بالوحدة بين المسلمين، أن يعتنق جميعُهم مذهباً واحداً، بل نقصد أن يدركوا حقيقةَ أنهم جميعاً تحت ظلال رايةٍ واحدة، هي راية الإسلام، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل التي قد يعتقد البعضُ أهميتَها، إلا أنها مع ذلك لا تُعَدُّ من أصول الدين التي يُعتبر منكرُ أحدِها خارجاً عن الإسلام، وهي (التوحيد، والنبوة، والمعاد). ولذا، فإن عليهم أن يتوقفوا عن تكفير بعضهم البعض، وأن يُدينوا كل ما قد ينطلق في هذا الاتجاه من هنا أو هناك، كما عليهم أن يحبُّوا بعضهم البعض، وينزعوا ما في صدورهم من الأحقاد والضغائن، وعليهم أن يحترموا آراء بعضهم البعض، وإن اختلفت تلك الآراء وتنوَّعت، فالاختلاف، كما يُقال، لا يفسد للودِّ قضية، وعليهم بالحوار الجاد المنفتح في كل ما تنازعوا فيه واختلفوا، وأن يردُّوه إلى الله ورسوله استجابةً لأمره، سبحانه وتعالى، إن كانوا يؤمنون حقاً بالله ورسوله واليوم الآخر، ويجب أن يكون ذلك بكل تجرُّد وحياد وموضوعية، بعيداً عن الآراء المسبقة والمتبنَّيات القبلية، وأن تكون النية خالصة لطلب الحقيقة أينما كانت، دونما تشدُّد وتعصُّب لما كان عليه الآباء والأجداد، وإلا فإن الحوار لن يؤتيَ أُكُله، ولن تُخرِج الشجرةُ ثمارَها.

وهنا، لا بدَّ من التنبيه إلى أمر مهم، وهو أن الحوار في بعض الأحيان قد يستوفي جميع شروطه، ومع ذلك، فإن المتحاورين لا يصلون إلى نتائج إيجابية، بل يبقى كل طرف منهم متمسكاً برأيه، ويكون السبب في ذلك، إما قصوراً في الفهم، أو أسلوباً معيناً في التفكير، أو أيّ أمر آخر من الأمور التي تكون ناتجةً من طريقة التربية، أو خصوصيات البيئة، وما إلى ذلك ممَّا لا يكون للإنسان دورٌ مقصودٌ في وجوده.

وفي مثل هذه الحالات، ينبغي ألا تتخذَ الأطراف المتحاورة مواقفَ سلبيةً من بعضها البعض، فيبدأ هذا الطرف أو ذاك باتهام الطرف الآخر بجحود الحق، والتنكُّر للأدلة الواضحة البيِّنة بعد إقامة الحُجج والبراهين الدامغة، بل لا بد من أن يحمل كلُّ طرف الآخرَ على المحمل الحسن، وأن يحاول أن يتفهَّمَه، ويتلمَّس الأعذار له، وأن يحترم رأيه وما بقيَت عليه قناعاته، وبالتالي تبقى المحبَّة والمودَّة والتواصل بين جميع المسلمين.

وبعد أن أخذَنا الحديث عن الوحدة الإسلامية قليلاً، نعود إلى مَن أخذَ علينا قلوبَنا وأقلامَنا، لنقول إنه لم يكن رائداً للوحدة الإسلامية فحسب، بل كان من الدعاة إلى الوحدة بين أتباع الديانات المختلفة، أو لنقُل إنه كان من الدعاة إلى الوحدة الإنسانية بين جميع البشر، حيث كان يؤكِّدُ أن الصراعات الموجودة في العالم اليوم ليست بين الأديان، أو بين الدين والإلحاد، وإنما هي صراعات بين المستضعفين والمستكبرين، وكما أن في المسلمين مستضعفين، فإن فيهم مستكبرين أيضاً، وكذلك في المسيحيين وفي اليهود، وحتى في الملحدين.

وهكذا كان (طيَّب الله ثراه) إنسانياً في تفكيره، يلتقي مع الإنسان في كلّ مكان. وكان يرى أنَّ الإنسانيّة هي ذات الشيء الذي يُعبَّر عنه بكلمة "الفطرة"، ولذا، فإنه كان يعتقد أنَّ الإنسان إذا فكَّر بإنسانيته، أي بفطرته، فإنه سيلتقي بالإنسان الآخر، وسيكون قادراً على محاورته والتعاون معه، وهكذا يلتقي بالحقيقة.

ومن هنا، يمكن لنا أن ندرك أن المشكلة في كثير من الناس، هي أنهم يعيشون ركاماً من الأطماع والأحقاد متجمِّعاً فوق إنسانيتهم، يُطبق على الفطرة فيحجبها عن الانفتاح على الله، وعلى الحقيقة.لذلك، فإنه (رضوان الله عليه)، كان يدعو الإنسان إلى أن يعيش إنسانيته ليكون الينبوع المتدفق الذي يتفجر ولا يسألُ عن طبيعة الأرض التي ينساب فيها.. كان يدعوه إلى أن يتخلَّص من كلّ ذلك الركام الذي يُطبق على عقله ليجعله ضيِّقاً متخلِّفاً، ويُطبق على قلبه ليجعله حاقداً، ويُطبق على روحه ليبتعدَ بها عن عالم السماوات، ويُطبق على إرادته ليُضعفها، وعلى حركته ليُؤطِّرها في إطار لا يتسع للإنسان والحياة.

ولأنَّه كان صريحاً وجريئاً، إضافةً إلى اتصافه بالصّدق والإخلاص، فإنه لم يسلم من محاولات الاغتيال الجسدي، ولكن الذي كان يحُزُّ في نفسه حقاً هو محاولات الاغتيال المعنوي التي كانت تطعنه في الظهر، والتي شاركت فيها أطرافٌ عديدةٌ ذات أسباب ودواعٍ متباينة، كان بعضُها لا يتجاوز إطار الجهل والمرض والتخلّف والغلو. ورغم تعدُّد الأسباب واختلافها، إلا أنَّ هدف جميع تلك الأطراف كان واحداً، وهو إسقاط ذلك الجبل الشامخ الذي بقي راسخاً في مكانه، واثقاً بربِّه، فهو وحده الذي يدافع عن الذين آمنوا، وما كان يطلبُه منه هو أن يرزقَه الإخلاصَ في عمله.

أما ما كان يواجهه من عنت وتعسُّف وظلم، فقد هوَّنه على قلبه أنه كان بعين الله، وما دام ربُّه يحبُّه، وهو يحبُّ ربَّه، فلم تكن لديه أية مشكلة أمام كل الحاقدين المغرضين في كل ما كانوا يقومون به، بل كان يحاول أن يدرس نقاط الضعف فيهم، والتي ألجأتهم إلى ما كانوا عليه، وكان يحاول أن يدرس الجهلَ والتخلَّفَ الذي كانوا يعيشون فيه، والذاتيَّات التي كانوا يدورون في فلكها. ولذلك، فإنه كان يشفق عليهم من أنفسهم أكثر مما كان يشفق على نفسه منهم، وكان يتمثّل ـ في صراعه معهم ـ قول النبي(ص): "الَّلهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُوْنَ".

لقد كان ذلك العالم المحمدي الجليل - بحق - أحد أعلام هذا العصر، ولذا فقد كانت خسارة الإسلام والأمة الإسلامية بفقده خسارةً كبيرةً ليس من السهل تعويضها.



اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية