بطلٌ في ميدان مجالدةٍ مفروضةٍ

بطلٌ في ميدان مجالدةٍ مفروضةٍ

لم يكن السيد فضل الله رجلًا تصادميًّا يسعى لإثارة الهزاهز في الأوضاع المستقرّة اجتماعيًّا وفكريًّا وفقهيًّا وعقائديًّا وسياسيًّا، بل إنه كان من أحرص الناس على تماسك الجماعة المؤمنة، وتحالف قوى الصّلاح والإصلاح، وتشكُّل محور الخير في وحدة واحدة صلبة قويّة عصيّة على التفتّت والاختراق؛ كي تكون في موقع التحدّي ورد التحدي مقتدرةً كفوءة.

لكنّه، في الوقت نفسه، لا يقبل أنْ يتحرَّك بعقليَّة المهندس المتغاضي عن مكامن الخلل في أساسات البناء من أجل المحافظة على مظهره الخارجي الجميل؛ إذ إنَّ انهيار المبنى بعدئذٍ سيودي بحياة جميع ساكنيه.

هناك نقطة أخرى تتعلّق بطبيعة تكوين الأمور وجَريَانها في إطار الاجتماع البشري، وهي أنّ الاختلاف سنّة من سُنَن هذا الاجتماع {... ولِذلَكَ خلَقَهُم...}[هود: 119]. وعليه، فإنّ انصهار كلّ التوجّهات والعقائد والآراء في بوتقة محدَّدة واحدة، تمثيلٌ طوباويّ من شخص حالم.. لذلك، أراد السيّد (رحمة الله عليه) الاستفادة من حقّه الطبيعيّ في الاختلاف، وهو ما لم يستوعبه مخالفوه.

لهذين السببين: (تقييم الخلل المستتِر وتقويمه)، و(ممارسة الحقّ في الاختلاف والتعبير عن الرأي بحريّة)، وجد السيّدُ نفسه في ميدان مجالدة مفروضةٍ عليه، فكان لا بُدّ أن يواجِه. اعتمد فضل الله في هذه المواجهة استراتيجيّةَ أقلّ الخسائر للطّرفين، فهو وإن لم يستسلم لمُصارِعيه، إلا أنّه تحاشى إيذاءهم، وفلسفته في هذا هي أنّ مصرع أيِّ طرف في هذا الصّدام الإكراهيّ هو خسارة عامّةٌ لجمهور الطرفين، هذا الجمهور الذي انقسم على نفسه بين مصفّقٍ للطّرف الأوّل، ومساند للطّرف الثاني، وغير مبالٍ بالطّرفين، ومتأمّل للنّتيجة النهائيّة كي يحدِّد موقفه، وربما هناك من هو غير كلّ هذه الفئات.

انتهت مَشاهِدُ المجالدة المفروضة بجراحٍ ثخينةٍ تكبّدها السيّدُ؛ لأنّه تعالى على اعتماد أساليب خصمه، وإن كانت أدواتُها متاحةً بين يديه. كان جسمهُ منهكًا بالجراحاتِ، وكانت روحه تتألمُ من الموقف، لكنّه وقف شامخًا شموخ الأسد الجريح عقب حربٍ مع الضّباع.. لم يركع على ركبتيه، ولم تُلامس كتفاه الأرض، ولم يطلب استرحامًا، ولم يتأسّف لخياره الذي اختاره بالتعفّف عن إيذاء خصمه، لكنّ جمهورهُ بكاه دمًا وهو يرصد كيفَ يُسجّل البطلُ مآثر النّبل والشّجاعة الحقيقيّة في سبيل كلّ من حضروا الصّراع وعاشوه، ومن سيأتون بعدهم ليطّلعوا على فصوله في قصّةٍ يرويها لهم آباؤهم أو أجدادُهم أو أجدادُ أجدادهم بعد حين.

بعد أجيالٍ من قرع جرس ختام المواجهة، حين عرجت روحُ السيّد إلى عوالم الآخرة، ستحكي الأمّهات لأبنائهنّ سيرةَ بطلٍ وقفَ أمام مناوئيه دون أن يرفع سيفه الّذي في قبضته في وجوههم، لكنّه كان مرفوع الرّأس!

*منشور على صفحته على الفايس بوك، بتاريخ: 5-7-2021م.

لم يكن السيد فضل الله رجلًا تصادميًّا يسعى لإثارة الهزاهز في الأوضاع المستقرّة اجتماعيًّا وفكريًّا وفقهيًّا وعقائديًّا وسياسيًّا، بل إنه كان من أحرص الناس على تماسك الجماعة المؤمنة، وتحالف قوى الصّلاح والإصلاح، وتشكُّل محور الخير في وحدة واحدة صلبة قويّة عصيّة على التفتّت والاختراق؛ كي تكون في موقع التحدّي ورد التحدي مقتدرةً كفوءة.

لكنّه، في الوقت نفسه، لا يقبل أنْ يتحرَّك بعقليَّة المهندس المتغاضي عن مكامن الخلل في أساسات البناء من أجل المحافظة على مظهره الخارجي الجميل؛ إذ إنَّ انهيار المبنى بعدئذٍ سيودي بحياة جميع ساكنيه.

هناك نقطة أخرى تتعلّق بطبيعة تكوين الأمور وجَريَانها في إطار الاجتماع البشري، وهي أنّ الاختلاف سنّة من سُنَن هذا الاجتماع {... ولِذلَكَ خلَقَهُم...}[هود: 119]. وعليه، فإنّ انصهار كلّ التوجّهات والعقائد والآراء في بوتقة محدَّدة واحدة، تمثيلٌ طوباويّ من شخص حالم.. لذلك، أراد السيّد (رحمة الله عليه) الاستفادة من حقّه الطبيعيّ في الاختلاف، وهو ما لم يستوعبه مخالفوه.

لهذين السببين: (تقييم الخلل المستتِر وتقويمه)، و(ممارسة الحقّ في الاختلاف والتعبير عن الرأي بحريّة)، وجد السيّدُ نفسه في ميدان مجالدة مفروضةٍ عليه، فكان لا بُدّ أن يواجِه. اعتمد فضل الله في هذه المواجهة استراتيجيّةَ أقلّ الخسائر للطّرفين، فهو وإن لم يستسلم لمُصارِعيه، إلا أنّه تحاشى إيذاءهم، وفلسفته في هذا هي أنّ مصرع أيِّ طرف في هذا الصّدام الإكراهيّ هو خسارة عامّةٌ لجمهور الطرفين، هذا الجمهور الذي انقسم على نفسه بين مصفّقٍ للطّرف الأوّل، ومساند للطّرف الثاني، وغير مبالٍ بالطّرفين، ومتأمّل للنّتيجة النهائيّة كي يحدِّد موقفه، وربما هناك من هو غير كلّ هذه الفئات.

انتهت مَشاهِدُ المجالدة المفروضة بجراحٍ ثخينةٍ تكبّدها السيّدُ؛ لأنّه تعالى على اعتماد أساليب خصمه، وإن كانت أدواتُها متاحةً بين يديه. كان جسمهُ منهكًا بالجراحاتِ، وكانت روحه تتألمُ من الموقف، لكنّه وقف شامخًا شموخ الأسد الجريح عقب حربٍ مع الضّباع.. لم يركع على ركبتيه، ولم تُلامس كتفاه الأرض، ولم يطلب استرحامًا، ولم يتأسّف لخياره الذي اختاره بالتعفّف عن إيذاء خصمه، لكنّ جمهورهُ بكاه دمًا وهو يرصد كيفَ يُسجّل البطلُ مآثر النّبل والشّجاعة الحقيقيّة في سبيل كلّ من حضروا الصّراع وعاشوه، ومن سيأتون بعدهم ليطّلعوا على فصوله في قصّةٍ يرويها لهم آباؤهم أو أجدادُهم أو أجدادُ أجدادهم بعد حين.

بعد أجيالٍ من قرع جرس ختام المواجهة، حين عرجت روحُ السيّد إلى عوالم الآخرة، ستحكي الأمّهات لأبنائهنّ سيرةَ بطلٍ وقفَ أمام مناوئيه دون أن يرفع سيفه الّذي في قبضته في وجوههم، لكنّه كان مرفوع الرّأس!

*منشور على صفحته على الفايس بوك، بتاريخ: 5-7-2021م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية