سيّدٌ تسكن تحت عمامته السوداء روحانيّة شفّافة مشبعة بطمأنينة غريبة، وأديب رقيق الطّبع ذو لغة فوّارة بجلالة المعنى، وفارس من فرسان الفكر والسياسة، فقيهٌ ذو ذائقة فقهيّة طوّعت الفقه وحوّلته إلى توحّد مع الناس والحياة، مزاوجاً بين لغة السّماء والأرض، بأنفاس حرّة فضاءاتها لا تعرف تعصباً وكراهية واستعلاءً على الآخر، ولا تأطّراً ولا حدوداً، بل تسعى جاهدة إلى خلق أجواء تنعش تلاقح الأفكار واستيلادها الخلّاق في حركة دائبة من أجل تحريك الركود القاتل في دنيا الاجتهاد والفكر، محاورٌ من الطّراز الرفيع، حتى لكأنّ الآخر معه، من متدينين وعلمانيّين ويساريّين، يخرج من بين يديه وهو وليّ حميم.
المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله الفقيه والإنسان المتميّز بثقافته الموسوعيّة التي تقف أمامها بانبهار، مستكشفاً حدود تنوّعها واستشرافها لآفاق مستقبل غائر.
في حضرته ظرافة متناهية ولطافة مؤنسة يشعر بها الصّغير قبل الكبير، فهو الخبير بهموم الناس، والمواسي لهم، والسائل عن أحوالهم، والمتحسّس آلامهم.
مجاهدٌ ومناضل شرسٌ، واجه التقسيم والاحتلال الإسرائيليّ، فتخرّج من تحت جبّته وعباءته رعيل المقاومة الأوّل من النّبعة إلى بئر العبد، إمام في حجة الكلام والمنطق والبلاغة في لقاءاته ومؤتمراته وجلساته وندواته ودورسه وخطبه، تشفع له ذائقة خصبة مزوّدة بنهم القراءة لكبار الأدباء والشّعراء والكتّاب منذ نعومة الأظفار في بلد النخيل ومآذن النجف الأشرف المتولّد فيها العام 1935ميلادية، في أسرة عامليّة متواضعة ومشهورة بفضلها في العلم والأدب، حيث تابع فيها الدَّرس الدّينيّ العالي (البحث الخارج) على يد مجتهدين كبار، كالسيِّد أبي القاسم الخوئي، والسيِّد محسن الحكيم، والسيّد محمد سعيد فضل الله، والشيخ حسين الحلّي، مستغلّاً كلّ وقت ونشاط وفرصة في سبيل التحصيل العلمي درساً وتدريساً.
هو القارئ، الباحث، والمؤلّف والناقد للتديّن السطحي، لا يكلّ ولا يملّ، تسلّح بشغف لا يهدأ، غارف من معين الأصالة والتأصيل لثقافة جامعة ومعارف ربانيّة يقتات منها العالم والجاهل.
عاد إلى لبنان من العراق العام 1966، فساهم بقوّة في مسيرة العمل العلمي والسياسي والجهاديّ، مؤسّساً لمرحلة جديدة مليئة بالحيويّة والعطاءات، في خضمّ واقع مفصليّ لبنانياً وعربياً ودولياً يغلي على كثير من الأفكار والسياسات والطروحات.
بقي حتى وفاته في تموز 2010 يقاوم المرض الذي أرداه جسداً ولم ينَل منه روحاً وثباتاً.
يعصى عليك الحديث عنه بصيغة الماضي، وهو الحاضر معك اليوم فيما قاله ومثّله من ظلال تستوطن القلب والوجدان، وتحيل العقل إلى تساؤلات القلق المعرفيّ، وتضعه أمام مراهقة البحث وشغف الاستطلاع.
الثّائر المتنوّر الذي عاصر الأزمات والحروب والصّراعات والنكسات في فترات ومراحل عديدة وعاصفة بأحداثها، متابعاً ومنظّراً ومروّجاً لوحدة عروبيّة وإسلاميّة مانعة.
صوت الأمّة النابذ للمذهبيّة والطائفيّة، الشّجاع في الموقف، والثّابت الخطى في صبره وبصيرته، على الرغم من كلّ ما أصابه من حملات متحاملة ورعناء في حياته وبعد رحيله.
لا يمكنك أن تختصر أبعاد شخصيّته وأن تنظر إليه من زواية واحدة، فهو بحجم الكبار الذين لا بدَّ لنا في هذه الأزمنة العصيبة أن نعيد قراءتهم ككلّ لا يتجزأ، وكرسالة وأهداف عالية وبعيدة لا تقبل التقزيم والتّحجيم، وكأفراد تخلوا عن أنانياتهم وعاشوا من أجل عزة وكرامة تشقّ لها طريقاً بين أشواك الصّغار من تجّار الدين والسياسة والضمير، ومن الجهلة الذين يحاولون حجب النّور، فماذا بقي لنا منهم؟...
* المقال منشور في جريدة الأخبار اللّبنانيّة، بتاريخ: 6 تمّوز 2021م.
سيّدٌ تسكن تحت عمامته السوداء روحانيّة شفّافة مشبعة بطمأنينة غريبة، وأديب رقيق الطّبع ذو لغة فوّارة بجلالة المعنى، وفارس من فرسان الفكر والسياسة، فقيهٌ ذو ذائقة فقهيّة طوّعت الفقه وحوّلته إلى توحّد مع الناس والحياة، مزاوجاً بين لغة السّماء والأرض، بأنفاس حرّة فضاءاتها لا تعرف تعصباً وكراهية واستعلاءً على الآخر، ولا تأطّراً ولا حدوداً، بل تسعى جاهدة إلى خلق أجواء تنعش تلاقح الأفكار واستيلادها الخلّاق في حركة دائبة من أجل تحريك الركود القاتل في دنيا الاجتهاد والفكر، محاورٌ من الطّراز الرفيع، حتى لكأنّ الآخر معه، من متدينين وعلمانيّين ويساريّين، يخرج من بين يديه وهو وليّ حميم.
المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله الفقيه والإنسان المتميّز بثقافته الموسوعيّة التي تقف أمامها بانبهار، مستكشفاً حدود تنوّعها واستشرافها لآفاق مستقبل غائر.
في حضرته ظرافة متناهية ولطافة مؤنسة يشعر بها الصّغير قبل الكبير، فهو الخبير بهموم الناس، والمواسي لهم، والسائل عن أحوالهم، والمتحسّس آلامهم.
مجاهدٌ ومناضل شرسٌ، واجه التقسيم والاحتلال الإسرائيليّ، فتخرّج من تحت جبّته وعباءته رعيل المقاومة الأوّل من النّبعة إلى بئر العبد، إمام في حجة الكلام والمنطق والبلاغة في لقاءاته ومؤتمراته وجلساته وندواته ودورسه وخطبه، تشفع له ذائقة خصبة مزوّدة بنهم القراءة لكبار الأدباء والشّعراء والكتّاب منذ نعومة الأظفار في بلد النخيل ومآذن النجف الأشرف المتولّد فيها العام 1935ميلادية، في أسرة عامليّة متواضعة ومشهورة بفضلها في العلم والأدب، حيث تابع فيها الدَّرس الدّينيّ العالي (البحث الخارج) على يد مجتهدين كبار، كالسيِّد أبي القاسم الخوئي، والسيِّد محسن الحكيم، والسيّد محمد سعيد فضل الله، والشيخ حسين الحلّي، مستغلّاً كلّ وقت ونشاط وفرصة في سبيل التحصيل العلمي درساً وتدريساً.
هو القارئ، الباحث، والمؤلّف والناقد للتديّن السطحي، لا يكلّ ولا يملّ، تسلّح بشغف لا يهدأ، غارف من معين الأصالة والتأصيل لثقافة جامعة ومعارف ربانيّة يقتات منها العالم والجاهل.
عاد إلى لبنان من العراق العام 1966، فساهم بقوّة في مسيرة العمل العلمي والسياسي والجهاديّ، مؤسّساً لمرحلة جديدة مليئة بالحيويّة والعطاءات، في خضمّ واقع مفصليّ لبنانياً وعربياً ودولياً يغلي على كثير من الأفكار والسياسات والطروحات.
بقي حتى وفاته في تموز 2010 يقاوم المرض الذي أرداه جسداً ولم ينَل منه روحاً وثباتاً.
يعصى عليك الحديث عنه بصيغة الماضي، وهو الحاضر معك اليوم فيما قاله ومثّله من ظلال تستوطن القلب والوجدان، وتحيل العقل إلى تساؤلات القلق المعرفيّ، وتضعه أمام مراهقة البحث وشغف الاستطلاع.
الثّائر المتنوّر الذي عاصر الأزمات والحروب والصّراعات والنكسات في فترات ومراحل عديدة وعاصفة بأحداثها، متابعاً ومنظّراً ومروّجاً لوحدة عروبيّة وإسلاميّة مانعة.
صوت الأمّة النابذ للمذهبيّة والطائفيّة، الشّجاع في الموقف، والثّابت الخطى في صبره وبصيرته، على الرغم من كلّ ما أصابه من حملات متحاملة ورعناء في حياته وبعد رحيله.
لا يمكنك أن تختصر أبعاد شخصيّته وأن تنظر إليه من زواية واحدة، فهو بحجم الكبار الذين لا بدَّ لنا في هذه الأزمنة العصيبة أن نعيد قراءتهم ككلّ لا يتجزأ، وكرسالة وأهداف عالية وبعيدة لا تقبل التقزيم والتّحجيم، وكأفراد تخلوا عن أنانياتهم وعاشوا من أجل عزة وكرامة تشقّ لها طريقاً بين أشواك الصّغار من تجّار الدين والسياسة والضمير، ومن الجهلة الذين يحاولون حجب النّور، فماذا بقي لنا منهم؟...
* المقال منشور في جريدة الأخبار اللّبنانيّة، بتاريخ: 6 تمّوز 2021م.