منذ بدايات الشباب، كان يعتمل في داخلي صراع موجع، عندما كنت أرى بعض الممارسات، أو أسمع بعض الروايات التي تتنافى مع العقل السّليم ولا تتماشى مع المنطق القويم، وكنت أخال نفسي حينها متفرداً بتلك الأفكار.
وقد انتهى ذلك الصراع وتبددت سحب الشكوك، عندما صرت أقرأ للسيد محمد حسين فضل الله، وقد استقرّ الاطمئنان في قلبي أكثر، عندما منّ الله عليّ بلقاء السيد في مكتبه في دمشق قبل سنوات بصحبة أحد الأفاضل، وقد خصّنا (قده) بثلاثة أرباع الساعة، وكان يبتسم لشكوكي وأسئلتي، ويأتي بأجوبة مقنعة تبدّد حيرتي، وتطفئ ظمأ الروح، وكنت قد رسمت له صورةً في مخيّلتي، فلمّا التقيته، وجدته أجمل بكثير من الصّورة التي رسمتها له، ووجدته أعظم مما حسبته وتخيّلته.
لقد تمكَّن حبّ الرَّجل من قلبي، ولكنَّ حبَّه زاد تأصّلاً وتعمّقاً في نفسي، عندما رأيت فيه الاندفاع القويّ نحو الوحدة الإسلاميّة، والتقريب بين المذاهب وإصلاح ذات البين، لقد كان (ره) وحدويّ المزاج، تقريبيّ الهوى، وكان يحرص على توجيه رسائل تُقرأ نيابةً عنه في مؤتمرات الوحدة الإسلاميّة التي تعقد في لندن بإشراف منتدى الوحدة الإسلاميّة، ثم صار يرسل ابنه جعفراً ليشارك شخصيّاً في المؤتمر، وكان حديثه الذي يمثّل وجهة نظر والده، يحظى دائماً بتعاطف الجميع وقبولهم، لصدق الطرح وقوّته.
رجل الحوار والتّعايش
السيد فضل الله رجل عالميّ النزعة، إذ لم يكن يدعو الى التعايش بين المذاهب فحسب، بل وحتى بين الأديان والثقافات المختلفة، وقد علّم من حوله أن يكونوا دعاةً بالحكمة والموعظة الحسنة، التزاماً بالهدي القرآنيّ، فجادل النّاس بالتي هي أحسن، فأحبّوه ووقروا مكانته. فالسيّد رجل حوار وتعايش كجدّه الباقر (ع) الذي قال: "صلاح شأن الناس التعايش"، فصار بذلك صوت الاعتدال وصوت العقل والوحدة والحبّ والتعايش والحريّة، لأنه تيقّن بأهمية هذه القيم، وبدونها نظلّ في دائرة التّراشق والفرقة والخلاف وعبودية الماضي لحقبة أخرى من الزمن.
على خطى الأئمّة (ع)
السيّد فضل الله علويّ حتى النخاع في نظرته إلى الأمور، دافع عن الزهراء (ع) بأمثل الطرق، ولم يزايد على قضيتها، فصار بذلك موضع احترام القاصي قبل الداني، والمخالف قبل المحالف.
حسنيّاً كان في الحرص على دماء المسلمين، وكان حسينيّاً في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسجاديّاً في الورع والتقوى والعبادة، وفي مساعدة المعوزين والمحتاجين والأرامل والأيتام.
لقد حدَّث الناس بمحاسن حديث الأئمة، امتثالاً لأوامرهم (ع)، وكان زيناً لهم ولم يكن شينا عليهم في قول أو فعل.
ذبّ عن الدين ودافع عن المذهب، بنبذ البدع والخرافات والضلالات، حتى صار موضع انتقاد وهجوم وتكفير من البعض، وقد تعرَّض لمحاولات اغتيال عديدة، ولكنّه كان يُغتال يوميّاً بالقلم، لمعرفتهم بأن هذا الرجل لو عاش وتُرك، لملأ الدنيا بنداءات الحبّ والتقارب والتعاون والتآلف، وهذا ما لا ترضاه قوى الظلام التي تعمل على بثّ الفرقة منذ ألف عام ويزيد، ومن المؤسف وجود مواقع إلكترونيّة أنشئت خصيصاً لجعل السيّد غرضاً للسهام وعرضة للاتهام.
المفكّر المنفتح
الفكر الإسلامي فكر مرن، يحتاج بصورة مستمرّة إلى التجديد ليلائم الزّمان والمكان، والتجديد يحتاج إلى علم وجرأة وسداد وتوفيق توفّرت كلّها في السيد فضل الله الذي كان من المنظّرين الإسلاميّين الكبار، وربّى جيلاً متعلّماً واعياً متفتحاً، وهذا الجيل سيأخذ مشعل العلم والنّور إلى أجيال أخرى.
السيد فضل الله لم يكن طائفيّاً ضيّق الأفق، بل كان عالميّاً، ولا سيّما أنه يترتّب على العالم المجتهد تكاليف ومسؤوليات جمة وصعبة، وعاها السيّد وأدّاها على أكمل وجه، ولم يكن مبتدعاً في نظرته العالميّة، لأن الرسالة المحمديّة برمّتها أصلاً رحمة للعالمين، وليست لجماعة دون أخرى، ولكي يصل السيّد إلى الإنسان في أيّ عمق وأيّ لون أو انتماء، أفتى بعدم نجاسة أحد من البشر، فكلهم في نظره (نظير في الخلق).
ثم إنّ السيد لم يفرض آراءه واستنتاجاته على أحد، وله قول في ذلك سديد، وهو: "حتى في الدين، فإن رجال الدين لا يملكون الحقيقة المطلقة، هم يعطون وجهة نظر".
أنا لست هنا بصدد عدّ مشاريعه الإعلامية والإنسانية والاجتماعية والدينية، وإنما أريد القول: لقد خسر العالَم هذا العالِم، وقبل فترة، قرأت موضوعاً عنه بعنوان (عالم خسره النجف)، وأنا أعتقد ليس النجف فحسب، بل خسره الإسلام والعالم، وليعذرني الإمام الصّادق (ع)، لأني لم أكن افهم معنى رواية "إذا مات العالم، انثلم في الدين ثلمة لا يسدّها شيء"، حتى رأيت السيّد فضل الله مسجَّى بلا حراك.
على أنّ السيّد يجب أن يظلّ حيّاً، من خلال إطلاق اسمه على مؤسّسات علميّة وتربويّة ودينيّة، وعلى قاعات ومكتبات ومعاهد، أداءً لحقّه أو بعض حقّه.
لقد عرف الشّهيد السعيد محمد باقر الصّدر ـ عليه الرّحمة ـ قدر هذا الرجل وفضله مبكراً، وهو في بدايات تصدّيه لشؤون الأمّة، فقال في حقّه: "كلّ من خرج من النجف خسر النجف، إلا السيّد فضل الله، فعندما خرج من النّجف، خسره النجف". ولكن ماذا كان يقول السيد الصدر الآن، وهو يرى ما حقّقه فضل الله من تغيير هائل في العقول؟! لقد كان ليقول بأن الدنيا بأكملها خسرته وخسرت وجوده المبارك، فهو قلعة فكرية شامخة، وهو شيعي أصيل موضوعي وعاقل، وهو مجتهد حقيقي خرج على المألوف بعقل ورويّة، ولعلّ أصوب آرائه هو عدم القول بنظريّة الأعلم وجواز التّبعيض؛ إنه الوعي الحقيقيّ الكامل لما يجري من حوله، إذ لم يكن أسير الماضي وأحداث الماضي، بل كان مولعاً بالحاضر، مراهناً على المستقبل، كان يقرأ الإسلام على أنه صالح لكلّ زمان ومكان، ولم يكن ليُرضي العوام بفتاويه بقدر ما كان يرضي ضميره المتوقّد.
المرجعيَّة المتحرِّكة
وإن كان لا بدَّ من وصف المرجعيّات بالرشيدة والحكيمة والناطقة والصامتة، فأنا أصف مرجعيّة فضل الله بالمرجعيّة المتحركة، إذ كان يذهب إلى النّاس كما يأتونه، وكان يحرص على حجّ بيت الله الحرام، لأنها فرصة مناسبة للقاء المسلمين من مختلف البلدان على صعيد واحد، وكانت بعثته في الحجّ لا تعجّ بطلبة العلم فحسب، وإنما كانت مقصداً لذوي الحاجات والمعوزين أيضاً.
أقول مرجعية متحركة لأسباب كثيرة، منها ظهوره المتكرّر على وسائل الإعلام، والإدلاء بأحاديث صحفيّة ومقابلات إعلاميّة في الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون، وهو ظهور مبارك يتفرّد به عن أقرانه المراجع. ولا أخفي أني لم أكن أعرف معنى العالم العامل، حتى رأيت هذا العامل، ورأيت مشاريعه التي تضمّ مدارس ثانوية ومعاهد مهنيّة ومراكز صحية واجتماعية، فضلاً عن جانب الرحمة المتجلية في مبراته الخيرية التي تأوي الأرامل والأيتام وتكفل لهم العيش الكريم، سواء في حياته أو بعد مماته.
نحن لا ندرك الفراغ الذي سيتركه السيّد الآن، ولا شكّ في ان هناك من سيخالطه السرور لغيابه عن الساحة، لأسباب لست أذكرها، ولكنّنا يا سيّدنا لفراقك لمحزونون، وقد بكيت كثيراً وأنا أرى الجلد والصّبر على وجوه أفراد أسرته، وهم يتلقّون العزاء من جموع المعزين، وأيقنت أنّ بكائي لم يكن عليه، بل على الدين وعلى التشيّع الحقيقي الأصيل. فمن لنا بعده أمام سيل البدع والخرافات ومحاولات تحجيم التشيّع من قبل الشيعة أنفسهم؟! ومن بعده يعطينا الفكر الصّحيح ويعطينا غذاء الروح؟! ومن يعلّمنا أن الدين يبقى مشعّاً رغم الشّوائب العالقة؟! لقد أظهر السيّد فضل الله علمه في وقت لم يظهره الآخرون. لقد كان واضحاً في ندائه أن ليس لديه ما يخفيه عن الأعين، وليس عنده ازدواجية في الخطاب، فالحلال بيّن، والحرام بيّن، والأصل بيّن، والنقل بيّن.
المجاهد بوجه الضّلالات
ومن ألقاب السيّد فضل الله (المجاهد). وجهاده ضدّ العدوّ الصهيوني معروف لدى الجميع، ولكن أشد من ذلك هو جهاده ضدّ الضلالات والترهات والبدع والخزعبلات، حتى عاداه بنو قومه وعلماء طائفته، ووصفوه بما لا يليق بجلال قدره وسموّ مكانته.
لقد كان الرجل المؤمن الذي صدق ما عاهد الله عليه فقضى نحبه. فرحم الله فضل الله الذي كان فضلاً من الله منّ به الله على المؤمنين. فحمدا لله على فضله، وأقول لمحبّيه وأنصاره وذويه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
نعم، لقد رحل فضل الله، وهذا هو قضاء الله، وهذه إرادة الله، فلا رادّ لحكمه، ولا معقّب لقضائه.
اللّهمّ احشره مع من أحبّ، وابعثه ربي مقاماً ترضاه مع النبيّين والصدّيقين والشّهداء وحسن أولئك رفيقاً.
* المقال منشور على موقع مؤسّسة الأبرار الإسلاميّة، بتاريخ: 20 حزيران 2020.