الفقيه الإنسان: حضورٌ أقوى من الغياب

السيد محمد حسين فضل الله
 
أن تستعيد الحديث عن الكبار، فذلك شيء صعب، وإن كانوا يتقاسمون معك ذاكرتك الجميلة، فليس الجانب العاطفيّ حصراً يترك بصماته بقدر ما شكّلوه من وعيك في مواقفهم وحركتهم وسيرتهم، وما تركوه من رمزية تحاول تثبيت ما لدى الجماعة من قيم. لقد دفع المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله بالحركة الإسلامية والعمل الإسلامي منذ خمسينات القرن الماضي إلى صدارة الساحة السياسية والفكرية العملية تنظيراً وسلوكاً وحركة، حيث بلغت أوجها من الثمانينات والتسعينات حتى العام 2010، تاركاً بصماته على كثير من الأحزاب والمنظّمات الإسلامية وغير الإسلامية، لما تميّز به خطابه من انفتاح واستشراف للقضايا والأحداث في لبنان والعالم.

هي الذكرى التاسعة لرحيله، تفتقده الساحات الفكرية والجهادية والفتوائي، والجلسات العلمية المتنقلة من مكان إلى آخر على طول الوطن وعرضه، مغواراً بالكلمة والموقف، ومفكّراً ومنظّراً إسلامياً وإنسانياً من الطراز الرفيع، ومحاوراً فذّاً ومُلهماً شعبيّاً، يسكن في القلوب متسلّلاً إليها بحذاقة، عبر تقنيّة لغويّة سلسة تشدّ الكبير والصّغير والعالم والمتعلّم، تاركةً تأثيرها في كلّ القابليات، بعيداً من اللّغة المزخرفة والجافة، قدّم السيّد فضل الله للعالم إسلاماً حضارياً منفتحاً.

على الرغم من مرور هذه السنوات على رحيله، لاتزال مؤسّساته عاملة في ظلّ أوضاع ضاغطة، ومحاولات لتغييب دورها أو تهميشه، نذكر من هذه المؤسسات، المكتب الشرعي الذي يتلقّى كثافة من الأسئلة والاستفتاءات من الداخل والخارج، مجيباً عنها ضمن الموازين الشرعيّة التي تؤكّد العلاقة الحيّة مع فكر السيّد فضل الله، وانجذاب الناس إليه حتى اليوم.
أن تلمَّ بأبعاد هذا الشخصية المتنوعة في عطاءاتها ونضالها، فهذا يحتاج إلى الكثير من الكلام، ولكن نعرّج على بعض إسهاماته في مجال السياسة، فقد يظنّ البعض أنّ عالم الدين لا شأن له في السياسة، ولكنّ السيّد فضل الله أعطى للسياسة ديناً ومذهباً جديداً له معالمه ورونقه.

لقد منح لمفهوم الأنسنة مثلاً حضوراً وقوّة تحوي كلّ التجارب البشرية وخبراتها، الناظرة إلى الجدل حتى على مستوى الساحة الواحدة (الإسلامية) كعملية طبيعية تقتحم الحياة في أكثر من موقع وأكثر من أسلوب، متوخّية الوسيلة الفضلى في الوصول إلى الهدف الكبير. كلّ ذلك عبر وعي المصطلحات وتبسيطها لتحريك هذه المفردات في خدمة الواقع والجماهير. أنت تقرأ وتستنتج من فكره السياسي العملي أنَّ الأخلاق والعدل ليسا بديلاً من الحرية والديمقراطية، بل هما في غايتهما خدمة للإنسان وسلامة كرامته، وإن تبدّلت المصطلحات والأسماء، لكن الجوهر واحد في قيمته، في زمن يفرّغ فيه الإنسان من كل توجّه نحو الحرية والعدل لصالح منطق الجشع والانتهازية والاستغلال والتسليع، إذ قلّما تعثر على عدل وحرية قد حافظا على صفائهما من أية حسابات، فالحاكمية للذات والوجود للإنسان تتقدّم على ما سواها خلا مجتمعاتنا.

لقد آمن بتحديث الذات من داخلها في عملية توازن بين لحظاتها عن وعي وأصالة، بعيداً من الاستهلاك والاستغراق في عصر المظاهر المادية وحتى الثقافية، وبدل أن يكون التحديث منطلقاً من ذواتنا إلى ذواتنا، أصبح هشّاً يعاني من التبعية أوّلاً لذواتنا المستغرقة في حساباتها الشخصية والجماعية والحزبية، وثانياً لما يستورد من أفكار وثقافات لا نكلّف أنفسنا عناء غربلتها، بل نتلقّاها بالقبول وكأننا في عصر التنزيل المقدّس...
قيمة الفكر السياسي أن يحرّك نظرياته انطلاقاً من الفهم الصحيح والواعي للمسائل السياسية والفكرية والاجتماعية والإنسانية المترابطة، لا أن يقدّم الفتاوى والطروحات الجاهزة لإضفاء الشرعية على الواقع بما فيه من تجاوزات، وإلا لأضحى شاهد زور فقدَ مصداقيته وحتى مشروعيته، فالله أراد للإنسان أن يكون حرّاً في تفكيره وإرادته وإدارته لشؤونه، ولكنّ الإنسان طغى وتجبّر وتوسّل أنانياته القاسية في تعامله مع كلّ شيء، حتى مع قيمته ووجوده.
إن السياسة عنده مشروع تبشير وعمل أخلاقي وإنساني تخلق مزيداً من الصحوة والنهوض لكتابة تاريخ حيوي جامع خالٍ من التحيزات والاصطفافات، وليس كما يجري اليوم من تزييف للتاريخ وقتل للحقائق وتشويه للأحداث، وكأنّ كلَّ طائفة وجهةٌ لها أمجادها التي تسقطها على تاريخ جماعي مُثقل بالانفعالات وتجميل الوقائع.

إن السياسة هي في حفظ التوازن الاجتماعي، وعملية خلق لتاريخ مشرّف ضمن وعي جماهيري مسؤول ومؤثّر يمتلك رؤية وبرنامجاً عملياً للمواجهة، يتحرك وفق إحساسه بالأمانة والمسؤولية، وليس كالقطعان التي يسوقها رعاة المذاهب والطوائف، لذلك عمل السيد فضل الله على إخراج الخطاب الإسلامي من التجريد والتنظير، إلى الممارسة العملية في الواقع حركة ومواقف وسلوكيات، متوجّساً من الإسلاميين الذين يشكّلون عبئاً على الإسلام في فهمهم وتصرّفاتهم.

لقد شكَّلت تجربة المرجع الراحل مرجعية اجتهادية فتحت الجدال حولها وحول آرائها الفقهية على رحاب وطن الإنسانيّة الكبير، بما أحدثته من صدمة على صعيد التدين التقليدي، فالفتوى عنده لم تكن عملية إسقاط مصنَّعة من الأعلى، بل تُصنع من صخب الواقع وإشكالاته وتولد من رحمه، فلغة السّماء لم تكن يوماً غريبة عن لغة الأرض، لغة لا تكلُّف فيها، بل التزام أخلاقي لا يحيد عن قضايا الحق، لغة تؤسّس لتطلعات بعيدة تبني إنساناً بروح وعقل منفتحيْن بعيداً من عقل جمعي أدمن السكن في الكهوف المظلمة، لأن المطلوب صوغ شخصية تمتلك خطّاً ولوناً وموقفاً ونهجاً وقراراً، في وقت تتميّز شخصية اليوم بالعبث والخواء وعدم التزام خطّ واضح، بل ما يميّزها المزيد من التشوّش والضّياع والتبعيّة.

إننا في عصر ندير أظهرنا لكبارنا، لا بل نحاصرهم بعصبيّاتنا وجهلنا في كثير من الأحيان، متجاهلين ما صنعوه من تجارب غنيّة، حتى أضحى من يكتب التاريخ الجماعي ويشكّل الذاكرة الجماعية حفنة من المتأزلمين ومحتكري السياسة والدين، وهذه جريمة لا تُغتفر. يفتقد وطننا العربي والإسلامي لشخصيات كبيرة ومؤثرة إلّا من رحم ربي، إذ نعيش اليوم عصر التصحر في الأسماء الكبيرة والمؤثرة التي تضبط إيقاع الحياة بخبرة وإبداع وحكمة، وأضحى أشباه الرجال يطغون على كلّ الساحات، فلا موازين ولا ضوابط.
في أجواء هذه الذكرى، لا بدّ لنا من أن ننتفض كأحرار؛ كلٌّ في موقعه، ونضغط باتجاه تنقية ما علق في أذهاننا من تبعية واصطفاف طائفيّ، وأن يكتب تاريخنا الشرفاء ونظيفو الكفّ والضمير، وإلا سنبقى ندور في حلقة مفرغة، ولن نصل بمجتمعنا وبلدنا إلى برّ الأمان. المستعمر والمستكبر وأجهزة المخابرات الإقليمية والدولية وكثير من الغوغائيين والمنتفعين والرجعيين يخترقون بنيتنا في كلّ شيء، وهم يتلاعبون بتناقضاتنا لتكريس ضعفنا وتعزيز سيطرتهم، غير مكترثين بكلّ الفوضى والخراب.

ألم يئن الأوان لمراجعة الحال وتأمّلها على الأقلّ؟!
*مقال منشور في جريدة الأخبار اللّبنانيّة، بتاريخ الخميس 4 تموز - يوليو 2019م.


 
 
 
 
أن تستعيد الحديث عن الكبار، فذلك شيء صعب، وإن كانوا يتقاسمون معك ذاكرتك الجميلة، فليس الجانب العاطفيّ حصراً يترك بصماته بقدر ما شكّلوه من وعيك في مواقفهم وحركتهم وسيرتهم، وما تركوه من رمزية تحاول تثبيت ما لدى الجماعة من قيم. لقد دفع المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله بالحركة الإسلامية والعمل الإسلامي منذ خمسينات القرن الماضي إلى صدارة الساحة السياسية والفكرية العملية تنظيراً وسلوكاً وحركة، حيث بلغت أوجها من الثمانينات والتسعينات حتى العام 2010، تاركاً بصماته على كثير من الأحزاب والمنظّمات الإسلامية وغير الإسلامية، لما تميّز به خطابه من انفتاح واستشراف للقضايا والأحداث في لبنان والعالم.

هي الذكرى التاسعة لرحيله، تفتقده الساحات الفكرية والجهادية والفتوائي، والجلسات العلمية المتنقلة من مكان إلى آخر على طول الوطن وعرضه، مغواراً بالكلمة والموقف، ومفكّراً ومنظّراً إسلامياً وإنسانياً من الطراز الرفيع، ومحاوراً فذّاً ومُلهماً شعبيّاً، يسكن في القلوب متسلّلاً إليها بحذاقة، عبر تقنيّة لغويّة سلسة تشدّ الكبير والصّغير والعالم والمتعلّم، تاركةً تأثيرها في كلّ القابليات، بعيداً من اللّغة المزخرفة والجافة، قدّم السيّد فضل الله للعالم إسلاماً حضارياً منفتحاً.

على الرغم من مرور هذه السنوات على رحيله، لاتزال مؤسّساته عاملة في ظلّ أوضاع ضاغطة، ومحاولات لتغييب دورها أو تهميشه، نذكر من هذه المؤسسات، المكتب الشرعي الذي يتلقّى كثافة من الأسئلة والاستفتاءات من الداخل والخارج، مجيباً عنها ضمن الموازين الشرعيّة التي تؤكّد العلاقة الحيّة مع فكر السيّد فضل الله، وانجذاب الناس إليه حتى اليوم.
أن تلمَّ بأبعاد هذا الشخصية المتنوعة في عطاءاتها ونضالها، فهذا يحتاج إلى الكثير من الكلام، ولكن نعرّج على بعض إسهاماته في مجال السياسة، فقد يظنّ البعض أنّ عالم الدين لا شأن له في السياسة، ولكنّ السيّد فضل الله أعطى للسياسة ديناً ومذهباً جديداً له معالمه ورونقه.

لقد منح لمفهوم الأنسنة مثلاً حضوراً وقوّة تحوي كلّ التجارب البشرية وخبراتها، الناظرة إلى الجدل حتى على مستوى الساحة الواحدة (الإسلامية) كعملية طبيعية تقتحم الحياة في أكثر من موقع وأكثر من أسلوب، متوخّية الوسيلة الفضلى في الوصول إلى الهدف الكبير. كلّ ذلك عبر وعي المصطلحات وتبسيطها لتحريك هذه المفردات في خدمة الواقع والجماهير. أنت تقرأ وتستنتج من فكره السياسي العملي أنَّ الأخلاق والعدل ليسا بديلاً من الحرية والديمقراطية، بل هما في غايتهما خدمة للإنسان وسلامة كرامته، وإن تبدّلت المصطلحات والأسماء، لكن الجوهر واحد في قيمته، في زمن يفرّغ فيه الإنسان من كل توجّه نحو الحرية والعدل لصالح منطق الجشع والانتهازية والاستغلال والتسليع، إذ قلّما تعثر على عدل وحرية قد حافظا على صفائهما من أية حسابات، فالحاكمية للذات والوجود للإنسان تتقدّم على ما سواها خلا مجتمعاتنا.

لقد آمن بتحديث الذات من داخلها في عملية توازن بين لحظاتها عن وعي وأصالة، بعيداً من الاستهلاك والاستغراق في عصر المظاهر المادية وحتى الثقافية، وبدل أن يكون التحديث منطلقاً من ذواتنا إلى ذواتنا، أصبح هشّاً يعاني من التبعية أوّلاً لذواتنا المستغرقة في حساباتها الشخصية والجماعية والحزبية، وثانياً لما يستورد من أفكار وثقافات لا نكلّف أنفسنا عناء غربلتها، بل نتلقّاها بالقبول وكأننا في عصر التنزيل المقدّس...
قيمة الفكر السياسي أن يحرّك نظرياته انطلاقاً من الفهم الصحيح والواعي للمسائل السياسية والفكرية والاجتماعية والإنسانية المترابطة، لا أن يقدّم الفتاوى والطروحات الجاهزة لإضفاء الشرعية على الواقع بما فيه من تجاوزات، وإلا لأضحى شاهد زور فقدَ مصداقيته وحتى مشروعيته، فالله أراد للإنسان أن يكون حرّاً في تفكيره وإرادته وإدارته لشؤونه، ولكنّ الإنسان طغى وتجبّر وتوسّل أنانياته القاسية في تعامله مع كلّ شيء، حتى مع قيمته ووجوده.
إن السياسة عنده مشروع تبشير وعمل أخلاقي وإنساني تخلق مزيداً من الصحوة والنهوض لكتابة تاريخ حيوي جامع خالٍ من التحيزات والاصطفافات، وليس كما يجري اليوم من تزييف للتاريخ وقتل للحقائق وتشويه للأحداث، وكأنّ كلَّ طائفة وجهةٌ لها أمجادها التي تسقطها على تاريخ جماعي مُثقل بالانفعالات وتجميل الوقائع.

إن السياسة هي في حفظ التوازن الاجتماعي، وعملية خلق لتاريخ مشرّف ضمن وعي جماهيري مسؤول ومؤثّر يمتلك رؤية وبرنامجاً عملياً للمواجهة، يتحرك وفق إحساسه بالأمانة والمسؤولية، وليس كالقطعان التي يسوقها رعاة المذاهب والطوائف، لذلك عمل السيد فضل الله على إخراج الخطاب الإسلامي من التجريد والتنظير، إلى الممارسة العملية في الواقع حركة ومواقف وسلوكيات، متوجّساً من الإسلاميين الذين يشكّلون عبئاً على الإسلام في فهمهم وتصرّفاتهم.

لقد شكَّلت تجربة المرجع الراحل مرجعية اجتهادية فتحت الجدال حولها وحول آرائها الفقهية على رحاب وطن الإنسانيّة الكبير، بما أحدثته من صدمة على صعيد التدين التقليدي، فالفتوى عنده لم تكن عملية إسقاط مصنَّعة من الأعلى، بل تُصنع من صخب الواقع وإشكالاته وتولد من رحمه، فلغة السّماء لم تكن يوماً غريبة عن لغة الأرض، لغة لا تكلُّف فيها، بل التزام أخلاقي لا يحيد عن قضايا الحق، لغة تؤسّس لتطلعات بعيدة تبني إنساناً بروح وعقل منفتحيْن بعيداً من عقل جمعي أدمن السكن في الكهوف المظلمة، لأن المطلوب صوغ شخصية تمتلك خطّاً ولوناً وموقفاً ونهجاً وقراراً، في وقت تتميّز شخصية اليوم بالعبث والخواء وعدم التزام خطّ واضح، بل ما يميّزها المزيد من التشوّش والضّياع والتبعيّة.

إننا في عصر ندير أظهرنا لكبارنا، لا بل نحاصرهم بعصبيّاتنا وجهلنا في كثير من الأحيان، متجاهلين ما صنعوه من تجارب غنيّة، حتى أضحى من يكتب التاريخ الجماعي ويشكّل الذاكرة الجماعية حفنة من المتأزلمين ومحتكري السياسة والدين، وهذه جريمة لا تُغتفر. يفتقد وطننا العربي والإسلامي لشخصيات كبيرة ومؤثرة إلّا من رحم ربي، إذ نعيش اليوم عصر التصحر في الأسماء الكبيرة والمؤثرة التي تضبط إيقاع الحياة بخبرة وإبداع وحكمة، وأضحى أشباه الرجال يطغون على كلّ الساحات، فلا موازين ولا ضوابط.
في أجواء هذه الذكرى، لا بدّ لنا من أن ننتفض كأحرار؛ كلٌّ في موقعه، ونضغط باتجاه تنقية ما علق في أذهاننا من تبعية واصطفاف طائفيّ، وأن يكتب تاريخنا الشرفاء ونظيفو الكفّ والضمير، وإلا سنبقى ندور في حلقة مفرغة، ولن نصل بمجتمعنا وبلدنا إلى برّ الأمان. المستعمر والمستكبر وأجهزة المخابرات الإقليمية والدولية وكثير من الغوغائيين والمنتفعين والرجعيين يخترقون بنيتنا في كلّ شيء، وهم يتلاعبون بتناقضاتنا لتكريس ضعفنا وتعزيز سيطرتهم، غير مكترثين بكلّ الفوضى والخراب.

ألم يئن الأوان لمراجعة الحال وتأمّلها على الأقلّ؟!
*مقال منشور في جريدة الأخبار اللّبنانيّة، بتاريخ الخميس 4 تموز - يوليو 2019م.


 
 
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية