يُعتبر (الشّهر) ظاهرة زمنيّة خاضعة لنظام الزمن الكونيّ، ويتكرّر حدوثه منذ خلق
الله السموات في وقت معيّن لا يزيد ولا ينقص أبداً، وذلك حين يبدأ بولادته بالخروج
من ظلِّ الأرض المصطلح عليه بـ"المُحاق"، وينتهي لحظة ولادة الشّهر التالي، بعد أن
يمضي على القمر في الشّهر السّابق تسعة وعشرون يوماً وحوالي ثلاث عشرة ساعة، لا
يتخلّف فيها عن موعده الدائم هذا ثانيةً واحدة منذ أن كان، وهو بذلك ظاهرةٌ
متكرِّرة الوجود لا علاقة لوجودها برؤية البصر، تماماً كما هو اللّيل والنّهار،
فإذا شهد أهل الخبرة من الفلكيّين الذين يفيد قولهم الاطمئنان، بولادة الهلال
وخروجه من المُحاق، فهذا يعني أنّ الهلال قد وُجِدَ في الكون قطعاً، ولن ننتظر حتى
نراه لنحكم بوجوده. علماً أنّنا، ومن أجل الزيادة في تأكيد هذا الوجود، قد أضفنا
إلى التّوليد نفسه عنصراً آخر، هو ضرورة مضيّ بضع عشرة ساعة على لحظة ولادته، يصير
خلالها على درجة من قوّة الضّوء تجعله قابلاً للرّؤية بالعين (ولو المسلّحة)
للنّاظر إليه من الأرض، إذ حينها نحكم ببداية الشّهر القمريّ الجديد فعلاً، حتى لو
لم يُرَ بالعين، وذلك في المنطقة التي يمكن رؤيته فيها وفي كلِّ منطقة تشترك معها
في جزء من اللّيل، والذي هو حينئذٍ سيشمل معظم العالم، إلّا بلداناً قليلة. وهذا
الرأي هو نفس ما ذهب إليه أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي (قده) في كتاب خاصّ له
حول هذه المسألة، لكنّه توفي دون أن يفتي بمقتضاه.
وأمّا مَنْ ذهب إلى خلاف هذا الرّأي من العلماء، فإنّهم قد فهموا من الحديث الشّريف
الذي يقول: "اليقين لا يَدْخُلُه الشّكّ؛ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، أنَّ رؤية
العين مطلوبة بذاتها للحكم ببدء الشّهر القمري، حيث إنّ الرؤية تمثّل بذاتها حالة
موضوعيّة دخيلة في بداية الشّهر، فلا يحكم به بدونها، حتى مع اليقين بولادة القمر
وبلوغه درجة عالية من قوة الضّوء. في حين أنّنا نحن نرى أن لا خصوصيّة للرؤية
البصريّة بذاتها، بل هي مجرّد طريق ووسيلة للتحقّق من وجود الهلال وثبوت عنوان
الشّهر، لأنّ القرآن الكريم اعتبر عنوان الشّهر موضوعاً للحكم بوجوب الصّوم، وهذا
العنوان سيتحقّق سواء ثبت برؤية البصر أو من خلال الشّهادة القاطعة لعلماء الفلك
بتحقّقه ووجوده، وهذا المعنى للرؤية هو الذي يفهمه منها العرف العام، فلو قال شخص
لآخر: "إذا رأيت سعيداً في منزله فأخبرني"، وصادف أنّه عَلِمَ بوجود سعيد في المنزل
من خلال الاتصال التّلفوني، فإنّ عليه حينئذٍ أن يخبر بوجوده رغم أنّه لم يره بعينه،
لأنَّ العرف يفهم من كلمة "رأيته" العلمَ بوجوده لا نفس مشاهدته بالعين، بل يمكننا
تأكيد هذا المعنى من الحديث الشّريف نفسه الذي يفيد مطلعه: "اليقين لا يَدْخُلُه
الشّكّ"، أنّ المعوّل عليه في هذا المقام هو تحقّق اليقين بوجود الهلال، وأنّ رؤيته
بالعين هي إحدى وسائل اليقين التي كانت متوافرة، فلو حصل اليقين من طريق آخر، لزم
الأخذ به والحكم بمقتضاه، لأنَّ اليقين لا يدخله الشّكّ.
هذا وينبغي الالتفات إلى أنّه لا يقتصر الاختلاف بين الفقهاء على هذا الجانب فقط من
جوانب موضوع ثبوت الهلال، فثمّة جانبٌ آخر هو موضوع وحدة الأفق وتعدّده، وهو الذي
يختلف فيه العلماء حتى لو اتفقوا في المسألة الآنفة، وقد أشرنا في كلامنا الآنف إلى
أنَّ رأينا في ذلك وحدة الأفق لجميع البلدان التي تشترك في جزء من اللّيل، مهما كان
طريق ثبوت بداية الشّهر، في حين يرى آخرون أنّ الآفاق تتعدَّد بتعدّد أوقات غروب
الشّمس، فما لم يكن للمنطقة الأخرى نفس وقت غروب بلد الرؤية، لا يحكم فيها بثبوت
الهلال رغم تجاورهما في الموقع، كما أنّ ثمة رأياً ثالثاً لغيرهم، هو أنَّ البلاد
الواقعة غرب بلد الرؤية تشاركه في الأفق دون الواقعة بشرقها.
* من كتاب "أحكام الصّوم".
يُعتبر (الشّهر) ظاهرة زمنيّة خاضعة لنظام الزمن الكونيّ، ويتكرّر حدوثه منذ خلق
الله السموات في وقت معيّن لا يزيد ولا ينقص أبداً، وذلك حين يبدأ بولادته بالخروج
من ظلِّ الأرض المصطلح عليه بـ"المُحاق"، وينتهي لحظة ولادة الشّهر التالي، بعد أن
يمضي على القمر في الشّهر السّابق تسعة وعشرون يوماً وحوالي ثلاث عشرة ساعة، لا
يتخلّف فيها عن موعده الدائم هذا ثانيةً واحدة منذ أن كان، وهو بذلك ظاهرةٌ
متكرِّرة الوجود لا علاقة لوجودها برؤية البصر، تماماً كما هو اللّيل والنّهار،
فإذا شهد أهل الخبرة من الفلكيّين الذين يفيد قولهم الاطمئنان، بولادة الهلال
وخروجه من المُحاق، فهذا يعني أنّ الهلال قد وُجِدَ في الكون قطعاً، ولن ننتظر حتى
نراه لنحكم بوجوده. علماً أنّنا، ومن أجل الزيادة في تأكيد هذا الوجود، قد أضفنا
إلى التّوليد نفسه عنصراً آخر، هو ضرورة مضيّ بضع عشرة ساعة على لحظة ولادته، يصير
خلالها على درجة من قوّة الضّوء تجعله قابلاً للرّؤية بالعين (ولو المسلّحة)
للنّاظر إليه من الأرض، إذ حينها نحكم ببداية الشّهر القمريّ الجديد فعلاً، حتى لو
لم يُرَ بالعين، وذلك في المنطقة التي يمكن رؤيته فيها وفي كلِّ منطقة تشترك معها
في جزء من اللّيل، والذي هو حينئذٍ سيشمل معظم العالم، إلّا بلداناً قليلة. وهذا
الرأي هو نفس ما ذهب إليه أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي (قده) في كتاب خاصّ له
حول هذه المسألة، لكنّه توفي دون أن يفتي بمقتضاه.
وأمّا مَنْ ذهب إلى خلاف هذا الرّأي من العلماء، فإنّهم قد فهموا من الحديث الشّريف
الذي يقول: "اليقين لا يَدْخُلُه الشّكّ؛ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، أنَّ رؤية
العين مطلوبة بذاتها للحكم ببدء الشّهر القمري، حيث إنّ الرؤية تمثّل بذاتها حالة
موضوعيّة دخيلة في بداية الشّهر، فلا يحكم به بدونها، حتى مع اليقين بولادة القمر
وبلوغه درجة عالية من قوة الضّوء. في حين أنّنا نحن نرى أن لا خصوصيّة للرؤية
البصريّة بذاتها، بل هي مجرّد طريق ووسيلة للتحقّق من وجود الهلال وثبوت عنوان
الشّهر، لأنّ القرآن الكريم اعتبر عنوان الشّهر موضوعاً للحكم بوجوب الصّوم، وهذا
العنوان سيتحقّق سواء ثبت برؤية البصر أو من خلال الشّهادة القاطعة لعلماء الفلك
بتحقّقه ووجوده، وهذا المعنى للرؤية هو الذي يفهمه منها العرف العام، فلو قال شخص
لآخر: "إذا رأيت سعيداً في منزله فأخبرني"، وصادف أنّه عَلِمَ بوجود سعيد في المنزل
من خلال الاتصال التّلفوني، فإنّ عليه حينئذٍ أن يخبر بوجوده رغم أنّه لم يره بعينه،
لأنَّ العرف يفهم من كلمة "رأيته" العلمَ بوجوده لا نفس مشاهدته بالعين، بل يمكننا
تأكيد هذا المعنى من الحديث الشّريف نفسه الذي يفيد مطلعه: "اليقين لا يَدْخُلُه
الشّكّ"، أنّ المعوّل عليه في هذا المقام هو تحقّق اليقين بوجود الهلال، وأنّ رؤيته
بالعين هي إحدى وسائل اليقين التي كانت متوافرة، فلو حصل اليقين من طريق آخر، لزم
الأخذ به والحكم بمقتضاه، لأنَّ اليقين لا يدخله الشّكّ.
هذا وينبغي الالتفات إلى أنّه لا يقتصر الاختلاف بين الفقهاء على هذا الجانب فقط من
جوانب موضوع ثبوت الهلال، فثمّة جانبٌ آخر هو موضوع وحدة الأفق وتعدّده، وهو الذي
يختلف فيه العلماء حتى لو اتفقوا في المسألة الآنفة، وقد أشرنا في كلامنا الآنف إلى
أنَّ رأينا في ذلك وحدة الأفق لجميع البلدان التي تشترك في جزء من اللّيل، مهما كان
طريق ثبوت بداية الشّهر، في حين يرى آخرون أنّ الآفاق تتعدَّد بتعدّد أوقات غروب
الشّمس، فما لم يكن للمنطقة الأخرى نفس وقت غروب بلد الرؤية، لا يحكم فيها بثبوت
الهلال رغم تجاورهما في الموقع، كما أنّ ثمة رأياً ثالثاً لغيرهم، هو أنَّ البلاد
الواقعة غرب بلد الرؤية تشاركه في الأفق دون الواقعة بشرقها.
* من كتاب "أحكام الصّوم".