الفدية وحكمها في الشَّرع

الفدية وحكمها في الشَّرع

ونحن في أجواء شهر رمضان المبارك، نسمع من هنا وهناك عن مسائل يثيرها النَّاس في معرض استفهامهم عن أمور تخصّ عبادة الصَّوم، ومن هذه الأمور، "الفدية" ووجوبها، وفي أيّ حالات تلزم، وما هو معناها، وما يتَّصل بحيثيّاتها!

يشرح سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) الفدية في سياق تفسيره للآية المباركة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة: 184]: "بأنها البدل الماليّ عن الصّوم. والظّاهر من الآية ـ بمقتضى السّياق ـ هو حالة الّذين يستطيعون الصّوم بجهد ومشقّة، وهم الشيوخ الّذين يجهدهم الصّوم".

ويتابع سماحته موضحاً حكم هؤلاء الشّرعيّ بالقول: "فإنَّ مثل هؤلاء لا يكلّفون بالصّوم، ولا يكلّفون بالقضاء، بل يمكنهم الاكتفاء بدفع الفدية، وقد ورد ذلك في تفسير "العياشي" عن الإمام محمد بن علي الباقر(ع)، قال: الشّيخ الكبير، والّذي يأخذه العطاش (ذو العطاش: المصاب بداء العطاش، وهو دائم التطلّب للماء)... {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، الظّاهر منها ـ بقرينة السّياق ـ هو أنها خطاب للّذين يجهدهم القضاء، فتباح لهم الفدية، لإخبارهم بأنّ الفدية، وإن كانت جائزة، إلا أنّ الصّوم خير لهم إن كانوا يعلمون، لما فيه من النتائج الروحيّة والعلميّة.. وبهذا بطل قول من قال: إنَّ الصّوم كان في بداية التّشريع واجباً تخييريّاً، وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية، ثم نُسِخَ ذلك بعد أن تعوّد المسلمون على الصّوم، فأصبح واجباً عينيّاً (واجباً على كلّ مكلّف)، وهو خلاف الظاهر...". [تفسير من وحي القرآن، ج4، ص 25 وما بعدها].

أمّا بالنّسبة إلى تفصيل أحكامها الشرعيَّة، فإنها تجب ـ الفدية ـ في الحالات التالية، كما يشير إليها سماحة السيّد(رض):

"أ ـ على الشّيخ والشيخة (اللّذين بلغا سنّ السبعين وما فوق)، وذي العطاش (الذي يتطلّب الماء على الدّواء)، إذا تركوا الصّيام لكونه شاقّاً وصعباً عليهم، دون ما لو كان متعذّراً أو مضراً بهم.

ب ـ عند إفطار الحامل المقرب (شهر الولادة)، والمرضعة القليلة اللّبن، إذا أضرّ الصوم بالجنين أو الرضيع.

ج ـ تجب الفدية أيضاً على من أخّر ما فاته من شهر رمضان إلى حلول شهر رمضان الثاني، سواء كان ذلك عن تهاون مع القدرة على القضاء، أو كان التأخير بسبب استمرار المرض، أمّا إذا كان قادراً على القضاء، وعازماً عليه، فطرأ ما منعه من القضاء، كالمرض أو السفر أو غيرهما، فإنّه يجب عليه، مضافاً إلى القضاء، الفدية على الأحوط وجوباً".

وقد يستفهم المرء عن مرضه المستمرّ المانع له من الصّوم، فهل يتوجّب عليه دفع الفدية؟ يقول سماحته حول هذه النّقطة: "إذا استمرَّ المرض المانع من الصّوم ومن قضائه لسنوات عدّة، وجب دفع الفدية عند نهاية كلّ سنة لم يقدر فيها المريض على الصَّوم، ولا على القضاء، ولو استمرّ به ذلك إلى نهاية العمر، وأمّا إذا أخّر قضاء شهر رمضان واحد لعدّة سنين، لم تجب عليه إلا فدية واحدة عن السنة الأولى الّتي أخّر فيها القضاء إلى رمضان الثاني".

ويتساءل البعض عن مقدار الفدية وحكم مصرفها، فيلفت سماحته(رض) إلى ذلك بالقول: "إنَّ مقدار الفدية عن اليوم الواحد، ثلاثة أرباع الكيلو للفقير الواحد (القمح والطّحين)، والأحوط استحباباً أن تكون كيلواً ونصف الكيلو، وحكمها في مصرفها ونوعها ونيّة التقرب بها، ولزوم دفع العين (نفس القمح أو الطّحين) دون القيمة مثلما مرّ في الكفّارة. نعم، تختلف عن الكفّارة بأنّه يمكن إعطاء فدية أيّام عديدة أو شهور عديدة لفقير واحد، وأنه في الفدية، لا بدّ من تسليم نفس العين، فلا يكفي دعوة الفقير إلى مائدة وإشباعه، بخلاف الكفّارة، وكذلك، فإنّ الأحوط استحباباً الاقتصار في الفدية على القمح والطّحين، بخلاف الكفارة".

ويضيف سماحته أنّه إذا أفطرت الحامل المقرب أو المرضع، خوف الضّرر على الولد، وأخّرت القضاء حتى حلّ شهر رمضان الثاني، وجبت عليها فديتان: الأولى لأنها أفطرت خوفاً على ولدها، والثانية لتأخير القضاء...". [فقه الشّريعة، ج 1، ص 493-494].

ومع العجز عن دفع الفدية، يقول سماحته: "إن المكلّف معذور إلى حين الاستطاعة...". وعن دفعها كقيمة بدل الطّعام، يوضح: "لا بدّ في الفدية أو الكفارة من دفع الطّعام إلى الفقير. نعم، يجوز دفع المال إلى بعض الجهات أو الأشخاص، ليكونوا وكلاء في شراء الطّعام وتسليمه إلى الفقير، كما يجوز إعطاء الفقير المال وتوكيله بشراء الطّعام، كما يجوز التبرّع عن الغير في دفع الفدية...".[المسائل الفقهيّة، ص 420-422].

وفي السّياق ذاته، يلفت علماء العامّة (أهل السنّة والجماعة)، إلى أنّ العاجز عن الصّيام لمرضٍ لا يُرجى شفاؤه، يجب عليه الفدية لكلّ يوم، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة: 184]. وقد ذكر ابن عبّاس وغيره، أنها نزلت في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، ويُقاس عليهما المريض المزمن العاجز عن الصّيام عجزاً لا يُرجى زواله، فإنهم يفطرون ويطعمون عن كلّ يوم مسكيناً واحداً.

ومقدار الفدية مدّ من طعام، وهو ما يعادل 750 غراماً من (طحين أو قمح) على مذهب المالكية والشافعية، وأوجب الجمهور إخراجها طعاماً لنصّ الآية، وأجاز الحنفية إخراج القيمة، والذي نراه هو الأخذ بقول الجمهور، إلا إذا كان في إخراج القيمة مصلحة، فلا حرج في إخراجها، ويمكنه إخراج الفدية مجتمعة من أول الشهر أو آخره أو يوماً بيوم.

ما تقدَّم، يبيّن ما يتعلق بالفدية من أحكام لفتت إليها الشريعة من أجل صحَّة الصوم، وما ينبغي على المكلّف فعله في حالات معينة تستوجب الفدية.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه


ونحن في أجواء شهر رمضان المبارك، نسمع من هنا وهناك عن مسائل يثيرها النَّاس في معرض استفهامهم عن أمور تخصّ عبادة الصَّوم، ومن هذه الأمور، "الفدية" ووجوبها، وفي أيّ حالات تلزم، وما هو معناها، وما يتَّصل بحيثيّاتها!

يشرح سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض) الفدية في سياق تفسيره للآية المباركة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة: 184]: "بأنها البدل الماليّ عن الصّوم. والظّاهر من الآية ـ بمقتضى السّياق ـ هو حالة الّذين يستطيعون الصّوم بجهد ومشقّة، وهم الشيوخ الّذين يجهدهم الصّوم".

ويتابع سماحته موضحاً حكم هؤلاء الشّرعيّ بالقول: "فإنَّ مثل هؤلاء لا يكلّفون بالصّوم، ولا يكلّفون بالقضاء، بل يمكنهم الاكتفاء بدفع الفدية، وقد ورد ذلك في تفسير "العياشي" عن الإمام محمد بن علي الباقر(ع)، قال: الشّيخ الكبير، والّذي يأخذه العطاش (ذو العطاش: المصاب بداء العطاش، وهو دائم التطلّب للماء)... {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}، الظّاهر منها ـ بقرينة السّياق ـ هو أنها خطاب للّذين يجهدهم القضاء، فتباح لهم الفدية، لإخبارهم بأنّ الفدية، وإن كانت جائزة، إلا أنّ الصّوم خير لهم إن كانوا يعلمون، لما فيه من النتائج الروحيّة والعلميّة.. وبهذا بطل قول من قال: إنَّ الصّوم كان في بداية التّشريع واجباً تخييريّاً، وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية، ثم نُسِخَ ذلك بعد أن تعوّد المسلمون على الصّوم، فأصبح واجباً عينيّاً (واجباً على كلّ مكلّف)، وهو خلاف الظاهر...". [تفسير من وحي القرآن، ج4، ص 25 وما بعدها].

أمّا بالنّسبة إلى تفصيل أحكامها الشرعيَّة، فإنها تجب ـ الفدية ـ في الحالات التالية، كما يشير إليها سماحة السيّد(رض):

"أ ـ على الشّيخ والشيخة (اللّذين بلغا سنّ السبعين وما فوق)، وذي العطاش (الذي يتطلّب الماء على الدّواء)، إذا تركوا الصّيام لكونه شاقّاً وصعباً عليهم، دون ما لو كان متعذّراً أو مضراً بهم.

ب ـ عند إفطار الحامل المقرب (شهر الولادة)، والمرضعة القليلة اللّبن، إذا أضرّ الصوم بالجنين أو الرضيع.

ج ـ تجب الفدية أيضاً على من أخّر ما فاته من شهر رمضان إلى حلول شهر رمضان الثاني، سواء كان ذلك عن تهاون مع القدرة على القضاء، أو كان التأخير بسبب استمرار المرض، أمّا إذا كان قادراً على القضاء، وعازماً عليه، فطرأ ما منعه من القضاء، كالمرض أو السفر أو غيرهما، فإنّه يجب عليه، مضافاً إلى القضاء، الفدية على الأحوط وجوباً".

وقد يستفهم المرء عن مرضه المستمرّ المانع له من الصّوم، فهل يتوجّب عليه دفع الفدية؟ يقول سماحته حول هذه النّقطة: "إذا استمرَّ المرض المانع من الصّوم ومن قضائه لسنوات عدّة، وجب دفع الفدية عند نهاية كلّ سنة لم يقدر فيها المريض على الصَّوم، ولا على القضاء، ولو استمرّ به ذلك إلى نهاية العمر، وأمّا إذا أخّر قضاء شهر رمضان واحد لعدّة سنين، لم تجب عليه إلا فدية واحدة عن السنة الأولى الّتي أخّر فيها القضاء إلى رمضان الثاني".

ويتساءل البعض عن مقدار الفدية وحكم مصرفها، فيلفت سماحته(رض) إلى ذلك بالقول: "إنَّ مقدار الفدية عن اليوم الواحد، ثلاثة أرباع الكيلو للفقير الواحد (القمح والطّحين)، والأحوط استحباباً أن تكون كيلواً ونصف الكيلو، وحكمها في مصرفها ونوعها ونيّة التقرب بها، ولزوم دفع العين (نفس القمح أو الطّحين) دون القيمة مثلما مرّ في الكفّارة. نعم، تختلف عن الكفّارة بأنّه يمكن إعطاء فدية أيّام عديدة أو شهور عديدة لفقير واحد، وأنه في الفدية، لا بدّ من تسليم نفس العين، فلا يكفي دعوة الفقير إلى مائدة وإشباعه، بخلاف الكفّارة، وكذلك، فإنّ الأحوط استحباباً الاقتصار في الفدية على القمح والطّحين، بخلاف الكفارة".

ويضيف سماحته أنّه إذا أفطرت الحامل المقرب أو المرضع، خوف الضّرر على الولد، وأخّرت القضاء حتى حلّ شهر رمضان الثاني، وجبت عليها فديتان: الأولى لأنها أفطرت خوفاً على ولدها، والثانية لتأخير القضاء...". [فقه الشّريعة، ج 1، ص 493-494].

ومع العجز عن دفع الفدية، يقول سماحته: "إن المكلّف معذور إلى حين الاستطاعة...". وعن دفعها كقيمة بدل الطّعام، يوضح: "لا بدّ في الفدية أو الكفارة من دفع الطّعام إلى الفقير. نعم، يجوز دفع المال إلى بعض الجهات أو الأشخاص، ليكونوا وكلاء في شراء الطّعام وتسليمه إلى الفقير، كما يجوز إعطاء الفقير المال وتوكيله بشراء الطّعام، كما يجوز التبرّع عن الغير في دفع الفدية...".[المسائل الفقهيّة، ص 420-422].

وفي السّياق ذاته، يلفت علماء العامّة (أهل السنّة والجماعة)، إلى أنّ العاجز عن الصّيام لمرضٍ لا يُرجى شفاؤه، يجب عليه الفدية لكلّ يوم، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة: 184]. وقد ذكر ابن عبّاس وغيره، أنها نزلت في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، ويُقاس عليهما المريض المزمن العاجز عن الصّيام عجزاً لا يُرجى زواله، فإنهم يفطرون ويطعمون عن كلّ يوم مسكيناً واحداً.

ومقدار الفدية مدّ من طعام، وهو ما يعادل 750 غراماً من (طحين أو قمح) على مذهب المالكية والشافعية، وأوجب الجمهور إخراجها طعاماً لنصّ الآية، وأجاز الحنفية إخراج القيمة، والذي نراه هو الأخذ بقول الجمهور، إلا إذا كان في إخراج القيمة مصلحة، فلا حرج في إخراجها، ويمكنه إخراج الفدية مجتمعة من أول الشهر أو آخره أو يوماً بيوم.

ما تقدَّم، يبيّن ما يتعلق بالفدية من أحكام لفتت إليها الشريعة من أجل صحَّة الصوم، وما ينبغي على المكلّف فعله في حالات معينة تستوجب الفدية.

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية