في القصة الّتي نتحدّث الآن عنها، يجيء عنصر (الجنّ) أبطالاً (مستقلين) في القصّة، ينهضون بدور خاصّ مرسوم لهم.
وحيوية مثل هؤلاء (الأبطال)، لا تتمثّل في مجرّد كونهم عنصراً غير مرئيّ مثلاً، أو عنصراً يحمل في سماته ما هو مدهش أو غريب، بل تتمثَّل في مشاركتهم للآدميّين في طبيعة همومهم وتطلّعاتهم وحركتهم العامَّة في الوجود.
إنّ القصّة القرآنيّة الكريمة، لا تستهدف عرض الحقائق أو الأبطال غير الآدميّين لمجرّد التسلية والإمتاع، بل تستهدف من ذلك، تحسيسنا ـ نحن البشر ـ بحقيقة مهمّتنا العباديّة في الأرض، والإفادة من تجارب الآخرين ـ حتى لو كان من غير العضوية البشرية ـ في تصحيح سلوكنا وتعديله.
إن (الجن) مخلوقات غير مرئية: لها بيئتها الخاصة التي كيّفتها السماء لهم، كما أنهم ـ مثل الآدميّين وسائر المخلوقات ـ لم يخلقوا عبثاً، بل من أجل مهمات خاصّة يضطلعون بها.
المهمّ، أنّ القصّة التي نحن في صددها، تستهدف عرض بعض الحقائق المتصلة بهذا العنصر، وصلته بالعنصر الآدميّ، من حيث مشاركتهما جميعاً في تحقيق المهمة العبادية: (هم) [أي الجن] في بيئاتهم الخاصّة، و(نحن) في بيئتنا الأرضيّة.
والأهم من ذلك: إفادتنا ـ نحن الآدميّين ـ من تجربة الأبطال غير الآدميّين في نطاق العمل العبادي الذي خلقنا من أجله.
والآن، ما هي التجربة المطروحة في نطاق أبطال الجنّ؟ التجربة المطروحة أمام هؤلاء الأبطال هي قضيّة إيمانهم برسالة (الإسلام) العظيم. وقد يبدو لأوّل وهلة أنّ الإسلام رسالة بشريّة صرف مادام الأمر متّصلاً بشخصية المرسِل (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمرسَل إليهم (البشر).
غير أنّ الأمر يأخذ منعطفاً آخر، عندما تحدّثنا القصّة عن أبطال من غير البشر لهم تركيبتهم الناريّة الخاصة [غير المرئية]، ولهم لغتهم الخاصة [لا تفقه في إدراك الآدميّين العاديين]، ولهم بيئاتهم التي تتجاوز نطاق الأرض: لكنها ذات تعامل مع رسالة القرآن.
التجربة المطروحة أمام هؤلاء الأبطال، تعرضها القصّة على النحو التالي: {اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجنّ: 1]. هذه البداية القصصيّة، لا نمرّ عليها عابراً، بل نقف عندها طويلاً.
فنحن حيال (قصة) تعرض الحقائق وفق شكل فني خاصّ، ما يعني أنّ بدايتها بهذا النحو دون سواه، له دلالة محدَّدة.
لكن، قبل ذلك، ينبغي أن نعرف أيضاً أن هذه القصّة خضعت لهيكل هندسيّ خاصّ، فمن الحقائق المألوفة [في حقل الأدب القصصي]، أنّ غرض الحقائق يتمّ وفق أشكال متنوّعة: قد يكون سرداً، وقد يكون سرداً وحواراً، وقد يكون حواراً وحده، وهذا الحوار قد يكون خارجيّاً [أي: يدور بين طرفين فصاعداً]، وقد يكون الحوار داخليّاً [أي: حديث الشّخص مع نفسه]، وقد يكون حواراً جماعيّاً مبهماً… إلخ.
القصة التي تواجهنا، تعتمد شكل (الحوار) الخالص، دون أن يتخلّله تعقيب أو تعليق، بل يظلّ الحوار طوليّاً يتمّ وفق محاورة جماعيّة مبهمة يتحدّث فيها أبطال الجنّ مع أنفسهم، أو أصحابهم، على النّحو الذي أوضحته بداية القصة، حينما نقلت لنا جانباً من محادثاتهم بهذا الشكل :{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}. إن أهميه هذا الحديث أو الحوار، تتمثل في كونه حديثاً أحادي الجانب، لا أنه محاوره بين طرفين؛ أحدهما يسأل، والآخر يجيب، أو أحدهما يتحدث، والآخر يعقب عليه، بل يجري وكأنه محاضرة يلقيها فرد على آخر، أو جماعة على آخرين.
أو يمكننا أن نتصوّر الأمر على نحو ما نمارسه ـ نحن البشر ـ حين نتلقّى نبأً خطيراً مثلاً، فيهرع كل واحد منا إلى صديقه أو جماعته، وينقل إليه هذا النبأ.
طبيعي، عندما استمع نفر من الجنّ إلى القرآن، وقالوا لأصحابهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، نتوقّع حينئذ أن يصدر عن المخاطبين تعليق على هذا النبأ، سواء أكان إيجابيّاً أم سلبيّاً، غير أنّ القصة لم تنقل إلينا شيئاً من تعليق هؤلاء.
والسرّ في ذلك [من الزاوية الفنية]، أنّ القصّة في صدد التعريف بردّ الفعل الذي أحدثه نزول القرآن الكريم في نفوس أبطال الجنّ، متمثّلاً في استجابتهم الخيرة حيال رسالة السماء، على النجو الذي تفصّله القصّة لاحقاً.
إنَّ القصّة عندما بدأت بهذا الشّكل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، تركتنا ـ نحن القرّاء ـ أمام جملة من التصوّرات لهذه البداية الفنيَّة في القصة.
إنَّ القارئ يطرح أكثر من سؤال في هذا الصّدد :هل قرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن على (الجنّ) كما قرأه على الإنس؟ هل إنهم استمعوا إليه خلال قراءته على الإنس؟ هل قرئ بلغتهم؟ وقبل ذلك: هل لهم لغة خاصّة؟ هل يفقهون اللّغة العربيّة؟ هل أتيح لمجموعة من الجنّ أن يستمعوا ذلك، دون آخرين، ولماذا؟ إنّ هذه الأسئلة تثار في ذهن القارئ دون أدنى شكّ.
بيد أن القصّة سكتت عن ذلك، تاركة لنا تقليب الوجوه والاستنتاجات، بغية أن نكتشف بأنفسنا احتمالات الموقف.
وواضح [من حيث السّمة الفنية]، أن القصّة ليست في صدد تبيين لغة الجنّ، أو تحديد نمط العلاقة الاجتماعيّة القائمة بينهم وبين الآدميّين، بضمنها طريقة تلقيهم للمعرفة، بل في صدد (المعرفة) نفسها… في صدد تبيين ردّ الفعل لديهم حيال مواجهتهم لرسالة الإسلام. من هنا، انتفت الحاجة إلى قصّ التفصيلات المتَّصلة بلغتهم، وطريقة تلقّيهم للمعرفة.
ويلاحظ: أنّ النصوص المفسّرة بدورها، لم تلق إنارة تامّة على هذا الجانب، فبعضها ينفي أن يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قرأ القرآن عليهم، وإلى أن هذا النفر استمع إليه عبر محاولته معرفة السّبب الذي حال بين الشياطين وبين السّماء عند ظهور الرسالة. وبعضها يذهب إلى أنّ بطلهم أتاه، فذهب إليهم يقرئهم في إحدى اللّيالي، وبعضها يذهب إلى أن عددهم سبعة أبطال أو تسعة قابلهم وأرسلهم إلى الآخرين…
ومثلما قلنا، فإن المهمّ (فنيّاً) ليس (عددهم) ولا نمط الرّهط الذي ينتسبون إليه، ولا طريقة استماعهم، بل المهمّ هو استماعهم نفسه، وإدراكهم لأهميّة الرّسالة التي أنزلتها السماء على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيما جعلتهم منبهرين منها بقولهم: {سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}.
والأهمّ من ذلك، أنهم أدركوا تفصيلات الموقف الجديد، وصلته بماضي سلوكهم ولاحقه، على نحو ما يكشفون هم أنفسهم في الحوار الجماعيّ أو الحديث المطوَّل الذي ألقوه على جماعتهم في هذا الميدان.
يبدو أنّ أبطال الجنّ الذين استمعوا إلى القرآن عند نزوله، وعقّبوا على ذلك قائلين: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، يبدو أن هؤلاء الأبطال يشكّلون مجموعة خاصة تتميز بوعي، أو بموقع اجتماعي متميز لم يتوفّر عند الآخرين، على نحو ما نجده في نطاقنا الآدميّ مثلاً. وإلا لم تهيّأ لهذا النفر منهم دون سواهم مثل هذا الاستماع للقرآن، وإدراك رسالة السماء، بحيث هرعوا إلى أصحابهم ينقلون إليهم مثل هذه الظاهرة العظيمة؟
إنّ بيئة الجنّ لا بدّ أن تشبه بيئة الآدميّين في طبيعة بنائهم النفسي والفكري، وفي مقدَّمها، الموقف الفلسفي من الكون ومبدعه، وهو أمر يحدّثنا به أبطال الجنّ أنفسهم. فلتسمع إليهم أوّلاً، وهم يواصلون إلقاء كلمتهم على جمهور الجنّ، ونعني بهم أولئك النفر المتميّز الواعي الذي أتيح له أن يستمع إلى القرآن، وينقل إلى الجمهور تجربته في هذا الصّدد :
قال هؤلاء النّفر :{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا}[الجنّ: 1 – 3]. إلى هنا، فإنّ الكلمة التي ألقاها هذا النفر على جمهور الجنّ، تتحدّث عن ظاهرة (التوحيد) وعدم الشّرك بالله.
ومما لا شكّ فيه، أن الحديث عن التوحيد وعدم الشّرك، يومئ بوجود عنصر (التشكيك) في أذهان البعض منهم، على نحو ما هو متحقَّق عند الجهلة من الآدميّين .غير أنّ هذا الفرز بين نمطين من الجمهور؛ الجمهور الموحّد والجمهور المشكّك، يأخذ تحديداً أوسع شمولاً، حينما نجد هؤلاء النفر يعلنون عن المصدر الذي كان يثير في أذهان الجنّ عنصر التشكيك، ألا وهو الشيطان.
يقول هؤلاء النفر الواعون من الجنّ، مواصلين إلقاء كلمتهم على الجمهور: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطًا}[الجنّ: 4]. إنّ هذه الكلمة ذات دلالة فنيّة وفكريّة كبيرة، وتتمثّل أهميتها في أنها صادرة عن رهط ينتسبون إلى عنصر (الجنّ). ويعرفون رئيسهم تمام المعرفة، حيث خلعوا عليه صفة (السّفيه). وواضح أنّ كلمة (السفيه) لا تشرف صاحبها بأيّة حال من الأحوال، لأنّ (السفاهة) نوع من أمراض التخلف العقلي.
ولا شيء أشدّ ألماً في النفس من أن يرى كبيرهم الّذي أضلّ مجموعة من الجنّ، يرى هذا الرئيس أن متبوعيه يطلقون عليه صفة (السفاهة)، بعد أن خيّل إليه أنه قد نجح في إضلالهم.
إذاً: كم لهذا الكلمة من وقع حادّ على نفسيه الشيطان (السفيه)!! وإلى أيّ حدّ ستعرضه للتمزّق والتوتر والانسحاق والقلق والرعب!!
ولنستمع إليهم في هذا الصدد. قال هذا النفر الواعي من الجنّ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَدًا}[الجنّ: 6، 7].
في هذه الفقرات من خطاب الجنّ، حقيقتان تتصلان بعنصر (الآدميين) وعلاقتهم بعنصر (الجنّ)، الأولى هي أنّ البعض من الآدميّين كان يستجير بالجنّ، فزادتهم هذه الاستجارة رهقاً.
أمّا الحقيقة الثانية فهي: مشاركة الآدميّين للجنّ في التّشكيك باليوم الآخر.
مما لا شكّ فيه أن هذه الحقيقة الأخيرة، أي التشكيك باليوم الآخر، يظلّ متّصلاً بعنصر التشكيك في ظاهرة التّوحيد أيضاً، وقد سبق التحدّث عنها. لكنّها في الحقيقة تبقى متّصلةً أيضاً بعمليّة الاستجارة بالجنّ، وهي الحقيقة التي ينبغي التوقّف عندها، نظراً إلى انطوائها على أهمية كبيرة في نطاق العلاقة القائمة بين عنصري الإنس والجنّ.
والسؤال ـ فنيّاً ـ هو: لماذا أقحم أبطال الجنّ الذين وجهوا كلمتهم إلى الجمهور، لماذا أقحموا قضيّة الاستعاذة أو الاستجارة الآدميّة برجال الجنّ؟ هل لأنّ الجنّ يتميّزون بقوى لا يملكها الآدميّون؟ هل لأشكالهم غير المرئيّة صلة بهذا التميز؟ هل هناك تجارب بشرية في هذا الصدد فرضت على أبطال الجنّ عرضها بهذا النحو؟ ثم، ما هي صلة الفشل الذي لحق تجارب الآدميين في اعتصامهم بقوى الجنّ؟ ما هي صلة الفشل المذكورة بحقيقة الموقف الجديد الذي أعلنه أبطال الجنّ عند استماعهم إلى القرآن الكريم وإيمانهم بالإسلام؟ هذه الأسئلة تتطلّب اجابة محدَّدة مادامت متّصلة بتجارب الآدميّين الذين نقلت هذه القصَّة إليهم.
تريد أن تقول القصّة لنا ثانياً: إن سلالة الجنّ بالرّغم من امتلاكها [في تصور الآدميّين] إمكانات هائلة، وبالرّغم من طغيانها، وبالرّغم من وقوعها مباشرةً تحت تأثير (سفيههم) الكبير: الشيطان، بالرغم من ذلك، ما إن سمع نفر منهم إلى القرآن الكريم، حتى أسرع إلى الإيمان بالله، وبرسالة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم.(
وتريد القصة أن تقول لنا، ثالثاً [بطريقة فنية غير مباشرة]، إنّ الجنّ بالرغم من انتسابهم إلى سلالة غير الآدميّين، وبالرغم من أنّ القرآن لم ينزل إلا بلغة الآدميّين، بالرغم من ذلك، فقد أسرع أبطال الجنّ إلى الإيمان بمجرد استماعهم للرسالة، في حين تلكأ الآدميّون في الاستجابة للنّداء الخير…
طبيعي، لا ينحصر الأمر في عمليّة التّوحيد فحسب، بل ينبغي تجاوز ذلك إلى مطلق التعامل مع مبادئ الإسلام، أي أنّ التجربة الآدميّة ينبغي أن تفيد من تجربة الجنّ في تعديل سلوكها بعامّة، وفي ضبطه وفق مهمّة الخلافة في الأرض، وهي المهمّة التي ألقتها السّماء علينا ـ نحن الآدميّين في هذه المسافة الزمنيّة المحدّدة من العمر.
*من كتاب "دراسات فنيّة في قصص القرآن".