عندما برز اسم المرجع الدينيّ الرّاحل محمد حسين فضل الله، اقترنَ لصيقاً بمفردتَي الانفتاح والتجديد. الرجلُ كان قائداً معرفيّاً مشهودَ الكلمةِ والموقف. أبى إلا أن يكون على رأس الحراك الإسلاميّ في أكثر أوقاته حرجاً.
نَظَّر لحركة السلاح المقاوم حتى باتَ الأب الروحيّ الأوّل، وانفتح على الحوار المحظور حدّ دعوة التيارات المتطرّفة إلى طاولة العقل والنقاش، دون أن ينتظرَ نتيجة مباشرةً من ذلك كلّه.
أبغضهُ بعضُ من وجدوا فيه خطاباً غيرَ مألوفٍ ضمن بيئةٍ هجرتها الحداثة، وتعلّق به كُثرٌ متعطّشون إلى لمسةٍ عقلنةٍ في مقاربة الدّين. يرى معاصرو الرّجل أنّ لهُ وعليه، غير أنّهُ لا يسعُ أحداً إنكار المساحةِ الكبيرة التي احتلّها في خطابه وفكره وحركيّته، والمساحة الشّاغرة التي خلّفها غيابه. البراعةُ في تسييل الأصوليّة الإسلاميّة كقوننةٍ مُعاصرة، حداثةُ اللّغة، «علاقة الدينيّ بالدنيويّ في خطابه جعلها أكثر وضوحاً في وعي هذا الجيل»، كما يعبّر شابٌّ من جمهوره المثقّف، وأنسنةُ التراث الإسلاميّ كانت أقربَ إلى مشروعٍ لإنعاشه في مرحلةٍ حضاريّةٍ حرجة.
لم يبارح فضل الله يوماً موقع الفعل والنشاط، كان عالماً حركيّاً موصوفاً، تأثّرت البيئة الشيعيّة بفكرهِ حدَّ الانقسَام، غيرَ أنّهُ لطالما أعلن الحبّ لمن يختلف معهم، وتجاهلَ من يشتمونه أو يسيئون له، وهُم كُثُر، وآمنَ أنّ مسؤوليّة الكلمة جديرةٌ باحتمال أيّ ضريبةٍ مجتمعيّةٍ مهما بلغت قسوتها.
رحل الرّجل _الذي مرّت ذكراه هذه الأيّام_ منذُ سنواتٍ ستّ؛ وفي جعبته الكثيرُ من المآثر والإنجازات، لكنّ السؤال الأبرز الّذي يفرض نفسه اليوم؛ هو ذاتهُ الذي طَرحهُ الغائبُ الكبيرُ يوماً:
هل غرقَ المجتمعُ مجدَّداً في شخصيّة «بطل الخطّ»؛ أم أنّهُ امتلكَ بعضاً من وعي «خطّ البطل» الّذي كانَ يسعى إليه؟ وأينَ باتَ هذا الخطّ اليوم؟
المرجعيّة... مؤسسةٌ اجتماعيّة
على امتداد مئات السنوات من العمل الدينيّ للمرجعيّات الشيعيّة، كان شخصُ المرجع يُمثّل محورَ المشروع الاجتماعيّ الذي يُشرف عليه. نظامُ «الأموال الشرعيّة» التي تُجبى بالطرق الملزِمة وغير الملزِمة؛ ينصبُّ تحت إدارة المرجع بشكلٍ مُباشر، ويحيلها بدوره ضمن «الموارد الشرعيّة» كذلك.
حركة هذا المال وآليّات إنفاقه، خوّلت المراجع إدارة البيئة الاجتماعيّة المحيطة، بغضّ النظر عن الملاحظات التي كانت _ ولا تزال _ تطرح حول مؤهّلات بعض الشخصيّات الفقهيّة في إدارة الملفات الاقتصاديّة، ولا سيّما ضمن معطيات الاقتصاد المعاصر المعقّدة.
تناوَلَ السيّد فضل الله فكرة «المرجعيّة المؤسّسة»؛ التي تختزن عناصر التخصصّ والعمل الجمعيّ، وهي خطوةٌ معرفيّةٌ تتجاوز أدوات الفقاهة التقليديّة، وتقتضي تنظيراً رفيع الذائقة في التعاطي مع نصوص الدين.
وبغضّ النظر عن نقاط النجاح أو الخلل الّتي كُتبت لهذه التجربة تطبيقاً، فقد كرَّسَ فضل الله نموذجاً واقعيّاً يُمكن البناء عليه في مأسسة العمل الدّيني، وهو _ في إطاره النظريّ _ أبعدُ بكثير من إنشاء مؤسّسات رعائيّة أو ثقافيّة اشتهرت باسمه ونهجه. لم تكن مرحلة حضور الكبار يوماً كمرحلة غيابهم، والمأسسةُ تنجحُ في جانبٍ من العمل وقد تتعثّرُ في آخر؛ والأكفاءُ يتسنّمونَ مفاصل العمل، وكذلك غير الأكفاء.
البيئةُ طبيعيّةٌ كمنطق الخطوط الكبيرة بعد غياب قادتها؛ وهو حالٌ لا يُبيحُ النقدَ المُغرِضَ؛ تماماً كما لا يعصمُ من مسؤوليَّة التّهذيب والتّطوير.
على صعيد العمل المؤسّسيّ تحديداً؛ أشرع فضل الله في البيئة الشيعيّةِ انتظاماً غيرَ مسبوقٍ في النشاط المجتمعيّ غير الرّسميّ منه؛ وبات العديدُ من مؤسّساته الاجتماعيّة نموذجاً محفّزاً أضفى حسّاً تنافُسيّاً على امتداد هذه البيئة؛ وهو ما انعكسَ تغطيةً شبه وافيةٍ لحاجاتها الداخليّة.
وأيّاً كان الموقف من المرجعيّة التي أعلنها؛ لا يُمكنُ لمطّلعٍ على الساحة ومنجزاتها الاجتماعيّة، أن يُنكرَ شراكة الرّجل في كلّ هذا، وهو الذي أعلن يوماً أنّهُ مستعدٌّ لبيع عباءته لإطعام الأيتام، وأنّهُ لن يتلكّأ عن النزول إلى الشارع ومدّ يده إلى النّاس إن جاعَ الفقراء. روحهُ المسؤولةُ هذه عصيّةٌ على عبثيّة التغييب.
قداسة الأشخاص
البيئة الدينيّة والتيّاراتُ المذهبيّة مشحونةٌ أبداً بانتماءاتٍ حادّةٍ لأبطالها؛ تكاد كُلّ عناوين الأديان والمذاهب والقداسات تتكثّفُ وتتلخّصُ في أشخاصهم؛ فيُصبحونَ هدف المشروع بعد أن كانوا جُنده!
حاربَ فضلُ الله باستماتةٍ واعيةٍ هذه البدائيّة في التعاطي مع مشروع الدين؛ وشجَبَ تمحوُر العمل حول شخص المرجع، إن في حياته أو بعدَ وفاته؛ وكرّر التصريحَ في غير مناسبة أنّ «حال التقديس للشخصيّات الدينيّة أو لزعماء الطوائف هي من أبرز الظواهر المرضيّة» في مجتمعاتنا.
وفي حين يغمزُ البعض إلى أنّ جانباً من مشروعه لم يسلم _ بدوره _ من هذه الظاهرة، غيرَ أنّ إطلاق الادّعاء في هذه المسائل أسهلُ بأشواطٍ من ردّه، والواقع أنّه ليسَ ثمّةَ مؤسّسةٌ معصومةٌ في أيِّ عملٍ مجتمعيٍّ أو حتّى رسميّ، إن في خيارٍ هنا أو فردٍ هناك، وإن كان ثمّة من المواقف والشعارات ما يحكمه الاندفاع العاطفيّ لشخص الرّاحل أكثر من الغوص في أبعاد مشروعه وأهدافه.
صفة «المقدّس» التي رفعها بعض المحبّين المتحمّسين بُعيدَ رحيله، كانت إحدى تلك النقاط، غير أنّ مؤسّسته عمدت إلى ترشيدها، وعادَ عنوانها إلى اعتدال خطابه وأدبيّاته. لطالما أشار السيّد إلى خطورة هذه الظاهرة بلغةٍ حازمة؛ «قتلتنا المقدَّساتُ التي لا قداسة لها، وعندما يعجز الإنسان عن فهم نفسه، فلن يكون قادراً على فهم الواقع المحيط به وإن سار على عجلةٍ من الألقاب، وسطَ كلّ هذه الزّحمة من كلمات التقديس والقداسة التي لا أساس دينيّاً ولا روحيّاً ولا واقعيّاً لها».
هذه التركة الفكريّة الثريّةُ لا زالت أعمق من اختصارها في معطياتِ المرحلة الحاليّة.
ستُّ سنواتٍ مرّت على رحيل فضل الله، والتركة التي أثقلَ بها كاهِلَ مُريديه ومُعاديه، تزدادُ تعقيداً. لدى تأبينه العام 2010، ختمَ رفيق دربه السيّد الغريفي في بيان نعيه: «رحل السيّدُ الجسد، وسيبقي السيّدُ الخطّ والفكر والروح...». لعلّهُ التحدّي الأكبرُ للبناء على تجربته كما أراد؛ في بيئةٍ أكثر ما تكون حاجةً لتعقّل المجدّدين، ونُضج خُططِهم ومشاريعهم.
*باحث وأستاذ حوزوي
إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.