إنَّ الإنسان بحاجةٍ على الدّوام إلى استراحةٍ يعود بها إلى نفسه ليحاسبها ويراقبها، لينقدها وينصحها، فأنفسنا أحقّ من يحتاج إلى نصيحتنا. وأنْصحُ النّاس من نصح نفسه، وأغشّهم من غشّ نفسه، وهو بحاجة أيضاً إلى أن يتعرّف متطلّبات هذه النّفس واحتياجاتها. والسّؤال: ما الّذي يحتاجه إنساننا اليوم وسط البركان السياسي والمذهبي الّذي يغلي في منطقتنا؟
أعتقد أنَّ إنساننا اليوم، وفي كلّ يوم، بحاجة إلى السّكينة والاستقرار والأمن والاطمئنان، فكلّ ما يجري في مجتمعاتنا من احترابٍ وتقاتل، ومن تفكّك وتناحر وتداب، يؤشّر إلى أنّنا نفتقد السّكينة، وأنّنا نعيش الاضطراب والقلق، بحيث تكثر فينا الأمراض والعقد النفسيّة، ويكثر الطّلاق وهدم الأسر، وصولاً إلى الطامة الكبرى، أعني سفك الدماء..
وحاجة الإنسان إلى السكينة هي حاجة طبيعية فطرية، فالإنسان لديه تطلع ونزوع فطري إلى الحياة الآمنة المطمئنّة، ولا سعادة بدون ذلك؛ فأيّ مشروع أو تصوّر فكري، لا يمكن أن يكون ناجحاً إلا إذا وفّر للإنسان هذا عنصر الطّمأنينة.
والسّكينة الّتي نحتاجها هي على عدّة مستويات أو مراتب:
1ـ السكينة المادية
المستوى الأولى هو السكينة ببعدها المادّي المعيشي، بأن يتوفر للإنسان غذاء وملبس وبيت يأوي إليه، ولعلّها ليست مصادفةً أن يسمَّى البيت مسكناً، لأنّه يوفِر السّكينة للإنسان، وهكذا، فإنَّ القرآن الكريم يسمّي اللّيل سكناً {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً}[الأنعام: 96]، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ}[يونس: 67]، لأنّ اللّيل يشكّل عامل استراحة للإنسان، ولكنّ الكثيرين اليوم قد حوّلوا ليلهم إلى نهار، ونهارهم إلى ليل!
والله تعالى بلطفه وحسن تقديره، ق وفّر من خلال نظامه التكويني وما أودعه في هذه الطبيعة، ما يحقق للإنسان هذا المستوى من السكينة، لكنّ المهمّ أن يُحسن الإنسان استثمار طاقات الأرض، ويحسن - وهذا هو الأهمّ - توزيعها، بأن يعدل في ذلك؛ فخيرات هذا الكوكب ليست شحيحة، ولا تقصر عن الوفاء باحتياجاتنا.
2ـ السكينة الروحيّة
المستوى الثاني: هو السّكينة الروحيّة، وذلك أنّ الإنسان حيث كان مزيجاً من المادّة والروح، فكان بحاجة إلى ما يوفّر له السكينة المادية، وبحاجة أيضاً إلى ما يوفّر له السكينة الروحية. وأعتقد أنّ التغافل عن البعد الروحي لدى الإنسان، قد جرّ على الإنسانية الويلات والمصائب، وهذه السكينة الروحيّة لن نجدها إلا في التجربة الروحيّة وفي العلاقة مع الله، لأنَّ هذه الروح هي نفخة من الله، فلن تستقرّ إلا بموطنها، فإنّ كل شيء يميل إلى جنسه وإلى أصله، فالجسد المادي يميل إلى أصله وهو الطينة والأرض {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ}[ص: 71]. وأمّا الروح، فأصلها هو الخالق: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي}[ص: 72]، فلا تستقرّ إلا بالعودة إلى موطنها، وهي لا محالة عائدة إلى الله تعالى.
ومن ألطاف الله تعالى، أنّ بابه مفتوح لداعيه ولا يغلقه أبداً، والله حاضر لاستقبالنا دائماً {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة: 186]، وهو تعالى ليس بحاجة إلينا ولا إلى صلواتنا، نحن بحاجةٍ إليه، نحن الفقراء، مهما تملّكنا من الثّروات، ونحن الضعفاء مهما وصلنا إلى أعلى المناصب، الإنسان في لحظةٍ ما سيشعر بالضّعف والخوف، إنّه بحاجة إلى الأمن، ولن يجد ذلك إلا عند العزيز القويّ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر: 15]. إنّ عبادتنا لله تعالى هي التي تمنحنا السّكينة، لاحظوا قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}[التوبة: 103]. إنّ صلاة النبيّ(ص) ودعاءه للمؤمنين سكنٌ لهم، وهكذا فإنَّ صلاتنا إذا أدّيناها بشرطها وشروطها، فستكون سكناً لنا.
وهنا أدعو الّذين لا يصلّون، والّذين لم يجرّبوا معنى الدّعاء، ولم يقيموا تجربة روحيّة مع الله تعالى، أدعوهم إلى أن يجرّبوا هذا الفرح الرّوحيّ الّذي تمنحه الصَّلاة والعبادة والدّعاء، إنّها تمنحهم سلاماً داخليّاً ولذة روحية.
وأقول بكلّ محبّة لغير المؤمنين: لقد جرّبتم الكثير من العلاقات والأفكار والمدارس؛ فتعالوا وجرّبوا علاقة من نوع جديد، وهي العلاقة مع الله تعالى، ويقيني لكم سوف تشعرون بالأمن، إذا عرفتم معنى الإيمان، {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ}[الأنعام: 82]. وأقول للجميع: لقد جرّبتم أو جرّب الكثيرون منكم الحبّ والعشق، فتعالوا وجرّبوا عشقاً من نوع آخر، وسعادة من نوع خاصّ، أرأيتم إلى الصوفي الذي يهيم بحبّ الله تعالى؛ إنّه ليس جباناً ولا خائفاً، وليس شخصاً مجنوناً؛ إنّه يعيش عشقاً وشغفاً من نوع خاصّ لا يعرف طعمه إلا من تذوَّقه، إنّها لذَّة المناجاة، دعكم من أنَّ فلاناً يصلّي ولا يعرف معنى الصّلاة، وصلاته لا روح فيها، وانظروا إلى الجانب المشرق من الصّورة، فكم من الأشخاص الّذين تريحهم الصّلاة والعبادة، بل أقول لكم: انظروا إلى أنفسكم، أليست هي مزيجاً من جسد وروح، إنّ لروحكم عليكم حقّاً، كما أنّ لأجسادكم حقّاً، وقد أمّنتم لأجسادكم الكثير من متطلّباتها، ووفّرتم لها احتياجاتها، فماذا وفّرتم لهذه الرّوح؟ لماذا نهتمّ بمتطلّبات الجسد ولا نهتمّ بمتطلبات الرّوح؟
وأنا لا أتحدث عن أمور تجريدية متعالية لا علاقة بها بالواقع، كلا إنّها من صميم حياتنا، أنا أتكلّم عن الإنسان، هذا المخلوق العجيب:
أتزعم أنّك جرم كبير وفيك انطوى العالم الأكبر
أتحدّث عن الإنسان الذي لو أنّه صلح لصلحت البشريّة جمعاء، وهذا الإنسان لا يمكن أن يصلح إلا بصلاح نفسه وروحه، وروحه لا تصلح إلا بأن تظلّ على اتّصال بموطنها وخالقها، وهو الله تعالى.
تعالوا لنجرّب بناء علاقة خاصّة مع الله، علاقة تقوم على أساس الحبّ وليس الخوف أو الطمع، وهذه العلاقة تعني : أننا نعبده لأنّنا نحبّه لا لأننا نخافه، اسمعوا إلى أمير المؤمنين(ع) يقول في دعائه: "فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربي، صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك"، فهو لا يبكي ولا يتألم من عذاب النّار، بل يبكيه ويؤلمه فراق الحبيب، وتعني أيضاً أنّنا نعبده ليس طمعاً في جنّته، بل لأنّه أهل الحبّ، والحبّ الخالص لا يمكن أن يخالطه الطمع.
رضاك رضاك لا جنّات عدن وهل عدن تطيب بلا رضاكا
ومن وحي ما قاله شاعر آخر :
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
3ـ السّكينة الاجتماعيّة
ولا يمكن أن تكتمل السّكينة ببعديها المادي والروحي، إلاّ إذا تحقّق مستوى ثالث، وهو السّكينة الاجتماعيّة، بحيث يكون هناك مستوى معقول من الاستقرار والتّماسك الاجتماعي. واللّبنة الأساس لهذا الاستقرار هي الأسرة، فالأسرة إذا استقرَّت استقرَّ المجتمع، ولو عدنا إلى القرآن، فنراه يتحدّث عن السكينة كعنصر أساس ومقوّم للعلاقة بين الزّوج والزّوجة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}[الرّوم: 21].. فالزوجة ليست خادمةً في البيت، ولا هي مجرّد آلة لصناعة الأولاد، ولا مجرّد وسيلة لإطفاء الشّهوة وقضائها، إنّها قبل ذلك سكن لزوجها، وكذلك الزّوج هو سكن لزوجته، بحيث إذا نظر إليها يرتاح نفسياً، ويشكو إليها همومه وتشكو إليه همومها، انظروا إلى أعظم زوجين في الدّنيا علي وفاطمة، يقول عليّ عن فاطمة: "فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً، لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموموالأحزان"، فالسكينة هي روح الأسرة وعنصر استقرارها، وليس استقرار الأسرة في القصور ولا في الأموال ولا غيرها.
وقد تسأل: ما الّذي يحقِّق السّكينة؟ والجواب، إنّ السكينة هنا إنّما تحقّقها العاطفة والمحبة، ولذلك أردفت الآية المتقدّمة قائلة: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الرّوم: 21]، فالّذي يحقّق السّكينة والاستقرار في بيتك، ليس هو مالك بل عاطفتك، بأن تحتضن أبناءك وتقبّلهم.. "إنَّ الرّحم إذا تماست تعاطفت"، وأن تحتضن زوجتك وتعبّر لها عن مشاعرك تجاهها، وأن تظهر حبّك لها ولا تبقي هذا الحبّ حبيس النفس، بل أعلمها بذلك، في الحديث عن رسول الحبّ والرّحمة(ص): "إنّ قول أحدكم لزوجته إنّي أحبّك لا يخرج من قلبها أبداً". وهكذا عليك أن تعمل على أن تملأ الحياة بالحبّ، مع جيرانك، مع أخوانك وكلّ الناس، فهذه العواطف الإنسانيّة هي الّتي تبني الحياة، فلترسلْ مشاعرك الحانية الدّافئة إلى الناس جميعاً، فتكون كالشّمس التي ترسل نورها على البرّ والفاجر.
*محاضرة
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.