عندما كنت منشغلاً بتصنيف موسوعة (محمّد باقر الصّدر.. السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق)، حاولت كثيرًا الاستفادة من بعض كبار طلاّب الشّهيد الصّدر (لا عدمهم الشّهيد ولا حرمهم)، ليسجّلوا مذكّراتهم وخواطرهم حول السنوات الطويلة التي قضوها مع أستاذهم.. وأتحدّث الآن عن الطبقة الأولى منهم..
أحدهم رفض الإدلاء بأيّة معلومة، معلِّلاً ذلك بأنّ كلّ ما يعرفه عن أستاذه سجّله في صفحاتٍ صدّر بها لأحد كتبه. أجبته بكلِّ أدب وهدوء، بأنّ هناك الكثير من الأحداث والوقائع التي عاصرتموها، والتي لم تأتوا على ذكرها في مقدِّمتكم، فغضب وصدّني بطريقة يُمكن أن تنسب إلى أيّ شيء سوى إلى محمَّد باقر الصّدر، ورفض الحديث نهائيًّا..
البعض تعلّل بعلل كثيرة، ووضع شروطًا أكثر للإدلاء بالمعلومات، وحيث إنَّ (المشروط عدمٌ عند عدم شرطه)، فلم أوفَّق إلى تسجيل مذكّراته وخواطره..
وفي المقابل:
كنت بتاريخ 3/6/2004م مارًّا بقرب منزل المرحوم الراحل السيّد محمّد حسين فضل الله، فقلت: إنّها فرصة مناسبة لأخذ موعدٍ منه لإجراء مقابلة حول الشّهيد الصّدر، بهدف تسجيل مذكّراته حول الأحداث المختلفة التي عاصرها معه.
سلّمت على الموظّف، وذكرت له رغبتي بلقاء السيّد وتحديد موعدٍ لاحق معه. أجرى الموظّف اتصالًا، ثمّ قال لي: (السيّد بانتظاركم)، قلت: (متى؟)، قال: (الآن)، مع أنّني كنت أتوقّع تحديد موعدٍ لاحق.
دلّني الرجل على طريق الصعود إلى غرفة السيّد، وصعدت وحدي، ودخلت عليه وحدي، وكان كذلك وحده، وكانت المرّة الأولى الّتي ألتقي به فيها، ولكنّه عرفني من خلال متابعته لمجلّة (أصداء) الطلابيّة التي كنت أحد المساهمين فيها، وهي مجلّة متواضعة بشكلها، غنيّة بمضمونها، كانت تصدر في مدينة قمّ عن عددٍ من الطلاب اللّبنانيّين.
استقبلني ببشاشة وترحاب كبيرين، وجلستُ معه لأكثر من ساعة يحدّثني عن السيّد الشّهيد، مدليًا بمذكّراته وما تختزنه ذاكرته، ولم يقطع عليّ أنس اللّقاء سوى اتصالات هاتفيّة كانت ترده، فيردّ عليها بنفسه، يعظ هذا ويفتي ذاك، يحلّ مشكلةً هنا ويقترح أمرًا هناك.. وخرجت من عنده مودّعًا مسرورًا بحفاوة اللّقاء..
صدرت موسوعة (السّيرة والمسيرة). وعلى الرغم من أنّي لا أسلك سياسة إهداء أعمالي، ولكنّني قرّرت إهداء عدّة نسخ لجملة من طلاّب السيّد الشّهيد، ومنهم أكابر طلاّبه..
ولكي لا يستوحش أحد كبار طلاّبه من اللّقاء ـ وهو الذي كان قد صدّني ورفض الإدلاء بمذكّراته ـ استعنت بزميلٍ له من طلاّب الشّهيد الصّدر، وهو سيّد جليل القدر، لم أرَ مثله في إخلاصه لأستاذه وذوبانه في ما يؤمن به، وكانت تربطني به ـ وما تزال ـ علاقة ودّ وصفاء، وكان في الوقت نفسه مقرّبًا من زميله ذاك، فقصدناه سويًّا..
جلستُ إلى جانب مضيفنا وقدّمت له الكتاب بعد طول تعريفٍ وثناء من قبل زميله الصفيّ، ولكنّه لم يمدّ يده لاستلام الكتاب، فوضعته أمامه على الكرسي، ولكنّه لم ينظر إليه ولم يفتحه طيلة جلوسنا معه، ولم يتوجّه إليّ بكلمة..
وعندما هممنا بالخروج، رغبنا في التقاط صورة تذكاريّة، فلم يجب، بل نظر إلى مدير مكتبه، الذي خاطبنا قائلًا: (نعتذر، نخاف أن يُساء الاستفادة من الصّورة)، فزاد امتعاضي، لا لعدم نيل (شرف) الظّهور معه في صورة ـ لأنّ لديَّ صورة خاصّة معه ـ بل حزنًا على زميله السيّد الجليل، الذي أهين بهذه الكلمات..
ثمّ شاءت الأقدار أن ألتقي به لاحقًا عندما أتى لزيارة زميله بعد مرضٍ ألمّ بهذا الزّميل، الذي اتّفق أن كنت في بيته حينها. وبعد السّلام والتحايا، أعاد الزّميل التعريف بي، مذكّرًا سماحته بالكتاب الذي صنّفتُه، والذي أهديناه نسخةً منه، فأنكر معرفته بي وبالكتاب، وقال: أنا لا أذكر كتابًا من هذا القبيل. أحضر الزَّميل نسخةً من الكتاب الأزرق، محاولًا تذكيره بلقائنا به سابقًا، لكن دون جدوى.. ودار في هذه الجلسة ما سوف أترك أمره إلى خاطرةٍ أخرى..
أمّا الطّالب الآخر من كبار طلاب السيّد الشّهيد، فبعد أن أهديته نسخةً من الكتاب، أخذ يتصفّحه وقال: (عاشت إيدكم).
وفي المقابل، أرسلت نسخةً من الكتاب إلى المرحوم السيّد فضل الله، واتّصلت به هاتفيًّا بهدف الاطمئنان إلى وصول الكتاب، فكان منه الموقف التّالي الذي أنشره للمرّة الأولى.
ملاحظة: التقطيع الحاصل في التّسجيل، ناجمٌ عن حذف كلامي منه، والإبقاء على كلام السيِّد الذي يعتبر العمدة فيه.
https://www.youtube.com/watch?v=FsOJe_324Bg&feature=youtu.be
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.