{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}1.
ذكرت أكثر من قصّة أو سبب لنزول هذه الآية المباركة، وكلّها تصبّ في اتجاه واحد، ونكتفي بذكر اثنين منها:
1 ـ لما كان فتح مكَّة، أمر رسول الله(ص) بلالاً حتى أذَّن من على ظهر الكعبة، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العاص: "الحمد لله الَّذي قبض أبي حتّى لم يرَ هذا اليوم!"، وقال الحارث بن هشام: "أما وجد محمَّد غير هذا الغراب الأسود مؤذِّناً؟!"، فأخبر الله نبيَّه بما قالوا، فدعاهم وسألهم عمّا قالوا، فأقرّوا، فأنزل الله الآية2.
2 ـ "مرَّ رسول الله ذات يومٍ ببعض أسواق المدينة، وإذا غلامٌ أسود قائمٌ يُنادَى عليه يباع فيمن يزيد، وكان الغلام يقول: من اشتراني فعلى شرط، قيل: ما هو؟ قال: لا يمنعني من الصّلوات الخمس خلف رسول الله(ص)، فاشتراه رجل على هذا الشَّرط، وكان يراه رسول الله(ص) عند كلِّ صلاةٍ مكتوبة، ففقده ذات يوم، فقال لصاحبه: أين الغلام؟ فقال: محموم يا رسول الله، فقال لأصحابه: قوموا بنا نعوده، فقاموا معه فعادوه، فلمّا كان بعد أيّام، قال لصاحبه: ما حال الغلام؟ فقال: يا رسول الله: الغلام قورب به (شارف على الموت)، فقام(ص) ودخل عليه وهو في نزعاته، فقبض على تلك الحال، فتولّى رسول الله(ص) غسله وتكفينه ودفنه".
بيد أنَّ هذا الاهتمام من رسول الله(ص) بهذا الغلام، أثار حفيظة بعض المهاجرين وبعض الأنصار، تقول الرّواية: "فدخل على أصحابه(ص) من ذلك أمر عظيم (وتلك من رواسب الجاهليَّة)، فقال المهاجرون: هاجرنا ديارنا وأموالنا، فلم يرَ أحد منّا في حياته ومرضه وموته ما لقي هذا الغلام، وقالت الأنصار: آويناه (يقصدون النّبيّ(ص))، ونصرناه، وواسيناه بأموالنا، فآثر علينا عبداً حبشيّاً، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى...}3".
دلالات الآية ودروسها
إنَّ الآية الشّريفة قد أقرَّت جملةً من المبادئ الهامَّة:
المبدأ الأوّل: التنوّع في خطّ التكامل
وهذا المبدأ أشار إليه المقطع الأوَّل من الآية الشَّريفة، وهو قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، والجعل هنا جعل تكوينيّ وليس تشريعيّاً، أي أنَّنا أمام سنَّة إلهيَّة تكوينيَّة، والتنوّع المذكور يمثِّل نعمةً كبرى وآيةً من آيات الله العظيمة، إذ تستمرّ به الحياة في تطوّرها وجمالها، قال تعالى مشيراً إلى هذا المعنى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}4، فاختلاف الألسنة والألوان هو آية لا يفقهها إلاّ العالمون، ومن الشَّواهد على أنَّ التعدّد المذكور هو سنَّة إلهيّة عامّة، أنَّ الله تعالى يخاطب الجميع: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، بصرف النَّظر عن أديانهم وألوانهم.
إنَّ الآية تريد أن تقول لنا: إنَّ الله تعالى لم يخلقكم شعباً واحداً، بل شعوباً متعدِّدة، ولا عشيرةً واحدة، بل عشائر مختلفة.
وقد يقال: لماذا هذا التعدّد؟ وكيف يكون آيةً ونعمةً وضرورةً لتقدّم البشريّة وتطوّرها، والحال أنّه مدعاةٌ للاختلاف ومنشأٌ للنِّزاع والتَّصادم؟
والجواب على ذلك:
أوَّلاً: إنّه لولا تعدّد النّاس في ألوانهم وأشكالهم، للزم اختلال النّظام العام، إذ لنتصوَّر أنَّ النّاس كلّهم على شاكلة وهيئة واحدة ولون واحد وتفكير واحد، فكيف سيتميَّزون؟ وكيف نتعرّف إلى المجرم ونميِّزه من البريء؟ وكيف ستعرف المرأة زوجها، أو يعرف الرَّجل زوجته؟!
ثانياً: إنّ هذا التنوّع والتّعدّد ـ شعوباً وأمماً وقبائل مختلفة ـ سيخلق الحوافز عند كلِّ شعبٍ من الشّعوب أو جماعةٍ من الجماعات، لتنافس الآخرين وتقدِّم الأفضل، أترى أنّه لولا التّنافس بين المؤسَّسات التّجاريّة أو الشّركات الاقتصاديّة والإنتاجيّة والزراعيّة، أكنّا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تطوّر وتقدّم؟ بالتّأكيد كلا، لأنّه بدون هذا التّدافع والتّنافس، سيفقد الإنسان الحافز نحو التَّجديد والإبداع وتقديم الأفضل، وهذا هو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بقانون التَّدافع، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}5، فالتّدافع إذاً هو الّذي يحفظ المعابد والمساجد، وهو الّذي يطوِّر الحياة بمجالاتها كافّةً، وينبغي أن لا يخيفنا تنافس الحضارات والشّعوب، فذاك أمر طبيعيّ، بل هو سنَّة الله في خلقه.
ثالثاً: إنَّ الحياة سوف تفقد رونقها وجمالها وسحرها لو كان النّاس جميعهم على نسقٍ واحدٍ من الشَّكل أو الملكات العقليّة والإداريّة والوظيفيّة، وربما أدَّى ذلك إلى شلل الحياة وجمودها. لهذا لا تقل: لماذا لم يخلقنا الله على فكرٍ واحدٍ ومزاجٍ واحدٍ وإمكاناتٍ واحدة؟ لأنّ هذا يعني الرتابة والجمود، تماماً كجمود مملكة النّحل، فإنها، وعلى الرّغم من عظيم صنعها وإتقانها وتنظيمها، تتَّصف برتابة وجمود دائم، وهذا ما لا يريده الله للإنسان؛ إنّه يريد له أن يكون متحركاً في عقله وتفكيره وفي حياته، ليتطوَّر نحو الأفضل، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}6، هذه هي سنَّة الله وقانونه، وهو قانون في غاية الحكمة والرّوعة، فليس بالإمكان أفضل مما كان.
وأمَّا أنَّ التنوّع قد يكون مدعاةً للاختلاف والصِّراع، فهذا صحيح، ولكنَّه ضريبة لا بدَّ منها؛ إنّه ضريبة اختيار الإنسان وحريّته، ولكنَّ الله سبحانه أراد لنا أن نعمل على ضبط الاختلاف وتنظيمه، حتى لا يتحوّل إلى نقمةٍ على البشريّة، لذا دعا سبحانه إلى أن يكون التعدّد مدخلاً للتَّعارف، فقال بعد إقراره للتعدّد والتنوّع: {لِتَعَارَفُوا}، لتنعم البشريّة بثمرات التنوّع والتّنافس. وعليه، فالتنوّع لا بدَّ من أن يدفع نحو التَّعارف لا التَّعارك، ونحو التّكامل لا التّسافل، ونحو التّنافس والتّآزر لا التّناحر.
المبدأ الثّاني: معيار التَّفاضل
في خضمِّ هذا التَّدافع البشريّ المحموم، سيسقط الكثير من الضَّحايا، وسوف ينجح أناس، ويسقط آخرون، سيعيش أناس عيشاً هنيئاً رغداً، ويملكون المال والعشيرة، بينما سيظلُّ آخرون يعانون مرارات الجوع وشظف العيش. والسّؤال: ما هو معيار النَّجاح والأفضليَّة عند الله تعالى؟ فهل الأفضل هو الأكثر مالاً وولداً؟ وهل الأحسن هو الأكثر جمالاً؟ وهل الأعزُّ هو صاحب العشيرة والجاه؟
تجيبنا الآية بتقديم معيارٍ جديدٍ في تحديد الأفضل، وهو معيارٌ يختلف عن معاييرنا، ولا سيَّما معايير الجاهليَّة، إنَّ معيار النَّجاح عند الله هو في طهارة القلب واللّسان والعمل، فالأكرم عند الله هو المتَّقي، والمتَّقي هو الَّذي يعمل لله ولخدمة عيال الله، فأنتم ـ هكذا يريد أن يقول لنا الله ـ في تنوّعكم، وتعدّد عشائركم، واختلاف أعراقكم وألسنتكم وألوانكم، عند الله سواء، ولا قرابة بين الله وأحد منكم، إنّما القرابة هي قرابة التَّقوى والعمل، وهذا معيار إنسانيّ عام، ولذا قالت الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، ولم تقل "يا أيّها المؤمنون"، ثم أردفت في تأكيد مبدأ المساواة قائلةً: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}، فأنتم من أبٍ واحدٍ وأمّ واحدة.
وانطلاقاً من ذلك، فإنَّ الإسلام قد هدم كلَّ قيم الجاهليَّة القائمة على التَّفاخر بالأنساب والتَّكاثر بالأموال والأولاد، وازدراء الفقراء وتفضيل الأغنياء، ورفض كلِّ أشكال التَّمييز العنصريّ، مؤكِّداً أنَّ القيمة الأساس هي للعمل الصَّالح، فعن رسول الله(ص): "أيّها النَّاس، إنَّ ربَّكم واحد وإنَّ أباكم واحد، كلُّكم لآدم وآدم من تراب، وإنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربيٍّ فضلٌ على أعجميٍّ إلا بالتَّقوى، ألا فليبلغ الشَّاهد الغائب"7.
وعن أمير المؤمنين(ع): "إنَّما وليّ محمدٍ من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإنَّ عدوّ محمّدٍ من عصى الله وإن قربت قرابته"8.
وهكذا، فقد قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}9، مع أنّه عمّ رسول الله(ص)، بينما قال في الرّجل الفارسي: "سلمان منَّا أهل البيت"10.
ولذلك، عندما نتأمَّل في أصحابه(ص)، سنجد العربيّ والعجميّ والحبشيّ والرّوميّ والأبيض والأسود... وكان هؤلاء الفقراء أسرع النّاس إلى الإيمان به.
* محاضرة
1 (الحجرات: 13).
2 أسباب النزول للواحدي: ص265.
3 المصدر نفسه.
4 (الروم: 22).
5 (الحج: 40).
6 (الزخرف: 32).
7 شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 128.
8 نهج البلاغة، ج4، ص 22.
9 (المسد: 1).
10 المستدرك للحاكم النّيسابوري، ج 3، ص 598.