أيمن رجاء النّخلي
ما أحبّ أن أنوِّه إليه، هو أنَّنا في هذا الزّمن نعيش الغفلة الدِّينيَّة، وهي تغليب العاطفة الدينيَّة على حساب الفكر والوعي، والاستغراق في الشِّعارات على حساب القيم والوعي والفكر والإخلاص في الأعمال.
إحياء الشَّعائر هو من الأمور المهمَّة للغاية لإحياء الدّين وتشييده، وهو من مظاهر الدّين، سواء أمام أصحاب الأديان الأخرى، أو المذاهب الفكريّة الأخرى، أو أمام النَّشء والأجيال الجديدة، لزرع التديّن في قلوبهم وعقولهم. فالشَّعائر هي أقوى وسيلة إعلاميَّة للتَّعبير عن دين معيَّن، وهي من مظاهر العزَّة والشَّرف والكرامة للأديان؛ فهي وسيلة إعلاميَّة قويَّة لإحياء الدّين ونشره: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحجّ: 32].
لذلك، علينا الاستفادة من هذه الشَّعائر في نشر القيم الصَّحيحة وأخلاق أهل البيت، لأنَّها شعائر لله ولإحياء أمر الله، ومن ذلك، إحياء ذكر الرّسول الأعظم وأهل بيته، لما يمثّلونه من قيم دينيَّة، ولكن في هذا الزَّمن، هناك من يروِّج للعاطفة الدينيَّة على حساب الوعي والفكر، ويوظِّف الشّعائر لضرب الدِّين نفسه.
متى تصبح الشَّعائر خطراً؟!
ويكمن الخطر في عدَّة أمور:
الخطر الأوَّل: استخدام الشَّعائر لضرب الدِّين وتشويه صورته، وذلك عن طريق خلق شعائر جديدة يكون الهدف منها إظهار الدِّين أو المذهب على أنّه خرافات وطقوس خالية من الفكرة والمعنى، ويتمّ توظيف هذه الشَّعائر إعلاميّاً، ليظهر للعالم أنَّ التّشيّع مجرَّد طقوسٍ وخرافات. ويتمّ التركيز على العاطفة لنشر مثل هذه الشَّعائر، وكأنَّ الَّذي يرفض بعض هذه الشَّعائر ضالّ أو مضلّ، وتصبح الشَّعائر وسيلةً للفرقة وللغفلة، على حساب ما تحمله من روحٍ ووعيٍ ووجدانٍ وفكر.
الخطر الثّاني: استخدام الشَّعائر والعاطفة الدّينيَّة لنشر الفرقة، سواء بين المسلمين الشّيعة والسنّة، أو بين المسلمين والمسيحيّين، وهكذا، فنجد بعض الكلمات الّتي تستخدم لنبذ فكر المذاهب الأخرى أو رموزها، بينما يدعو الدّين في حقيقته إلى احترام فكر المخالفين وتديّنهم، واحترام رموزهم، ويتمّ توظيف الشَّعائر الدّينيَّة للتَّعبير عن أهواء باسم الدّين، وتصبح هذه الشَّعائر وسيلةً للشَّحن الطّائفيّ والتّفريق بين المسلمين، وضرب وحدتهم، وتمزيق صفِّهم، لحساب انتصارات وهميّة وعاطفيّة، وبالتّالي، لضرب الأمَّة الإسلاميّة وإضعافها، واستخدام الدّين نفسه لسحقها من الدَّاخل، ليضرب أبناؤه بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، فبدلاً من أن يكون الدّين عاملاً للوحدة والتَّعاون والتَّكامل، يصبح سبباً رئيساً للفرقة والصِّراع والتمزّق والاقتتال. ولعلَّه أريد لنا أن نستغرق في هذه الحرب الطّائفيَّة على حساب الوعي الدّيني وحقيقة التديّن.
إنَّ الجهات التي تروِّج للعاطفة الشيعيَّة، هي نفسها الجهات الّتي تروّج للعاطفة السنيّة أو المسيحيّة، فهي تروّج للعواطف الدينيّة القائمة على التّدافع والصّراع الطّائفيّ الوهميّ. والصّراع الطائفي ككرة الثلج، ما إن يبدأ، حتّى يزداد شيئاً فشيئاً، ويهلك الأخضر واليابس.
وفي الحقيقة، ليس هناك صراع دينيّ حقيقيّ، بل هي مجرّد صراعات وهميَّة ابتدعها الجهلة، الَّذين لم يفهموا الدِّين إلا في قوالب من الأنا، أو من منطلق رغبات الدّنيا وأطماعها، أو كأصنام عقليَّة وفكريَّة وعنصريَّة، فاعتقدوا أنَّ الدّين عنصريّ كما يظنّون، والدّين بعيد كلَّ البعد عن العنصريَّة. فجميع المتديّنين الحقيقيّين إخوة ومتحابّون، حتى لو اختلفت مذاهبهم أو أديانهم، لأنهم يطلبون حقيقةً واحدة، وهي الحقّ عزَّ وجلَّ، ويبحثون عن القيم والأخلاق الصَّحيحة الّتي لا تختلف عليها المذاهب أو الأديان والقلوب السَّليمة.
الخطر الثّالث: إنَّ الصِّراع الطائفيّ قد يفتك بالأديان، ويصبح أسلوب تفكير، ليس فقط للأشخاص العاديّين، بل حتى للمفكّرين والكتّاب والنّخب والوعّاظ، فيصبح تفكيرهم قائماً على التّدافع المذهبيّ، فتلقى الخطب، وتؤلَّف الكتب، وتدرَّس على أساس التدافع المذهبيّ والصّراع الطّائفيّ.
ولعلَّ البعض يقوم بوضع أصولٍ جديدةٍ للمذهب الفلاني أو الفلاني، ويسمِّيها أصولاً للمذهب، لكي ينتصر في معركته الوهميّة، ويعزّز التّمايز والفرقة والطائفيّة بين المسلمين. وهذا التدافع المذهبي يخلق شللاً في حركة التقدّم الفكري الحقيقي، ويؤدّي إلى تخلّف الأمّة في قبال الأمم الأخرى، فبدلاً من أن تشتغل الأذهان في بناء الإنسان والأوطان، تنشغل في دوّامة مغلقة من المراء والجدال غير المثمر، الّذي تختفي تحت وطأته القيم الصّالحة.
ولعل التَّدافع المذهبيّ قد أثَّر في الفكر الإسلاميّ منذ القدم، فنجد أصول الدِّين عند معظم المذاهب قائمةً على فكرة التَّمايز بين أتباع كلّ عالِم، وما ذهب إليه رأي هذا العالِم أو ذاك، حتى أوجدنا ما يسمَّى بالمذاهب، التي لم تكن موجودةً في صدر الإسلام، فوُضِعَتْ أصولٌ لتحديد أتباع كلِّ مذهب، ووُضِعَتْ خطوط فاصلة بين المسلمين، مع أنَّ غالبيّة الأصول لا يختلف عليها المسلمون في حقيقتها، وإن اختلفوا في تشخيصها أو مسمّياتها. ولو استمرّينا على أسلوب التّفكير السّابق نفسه، بتقسيم المسلمين إلى مذاهب جديدة، فإنَّ عدد المذاهب سوف يتضاعف بشكلٍ كبيرٍ جدّاً.
الخطر الرّابع: استخدام الشّعائر والعاطفة الدّينيَّة لضرب العلماء من أصحاب المذهب نفسه، وبالتالي ضرب الحركة الفكريّة أو التَّجديد والحراك الفكريّ، فالشّعائر هي لتشييد الدّين وإحيائه، وليست وسيلةً للتّضليل أو التَّكفير، وقمع الشخصيَّات الفكريَّة وإسقاطها باسم ضالٍّ مضلٍّ أو ما شابه.
وإنَّ هذا الأسلوب هو من أساليب بني إسرائيل في محاربة الأنبياء، وهو إسقاط قيمتهم الاجتماعيَّة، وبالتَّالي محو آثارهم، وقد استخدم الأمويّون هذا الأسلوب، ووظَّفوا المنبر لشتم الإمام عليّ(ع) وإسقاط قيمته، وهذا الأسلوب هو قمَّة الإرهاب الدّيني، لأنَّ إسقاط كرامة الإنسان باسم الدّين هو انتهاكٌ لكلِّ حرماته: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ}[الذّاريات: 52]. فالمعيار يصبح عند بعض الأشخاص هو الهوى، وإن جعلوا من أهوائهم ديناً، ويريدون كلّ ما يتّفق مع هذه الأهواء، ويرفضون أيّ حقّ لا يتّفق مع أهوائهم، لأنَّ تديّنهم هو تديّنٌ عاطفيّ صنميّ، لا تديّنٌ عقليٌّ وعباديّ. {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
الخطر الخامس: هو أنَّ الصِّراعات الطَّائفيَّة والتَّدافع العاطفيّ، بدلاً من التّنافس الفكريّ، يدفع الشَّباب نحو الإلحاد أو الماديّة والابتعاد عن التديّن، وهذا ما تروِّج له بعض الجهات أيضاً، عن طريق برامج التّواصل أو المؤلّفات والكتب، فالشّباب يتصوَّر أنَّ مشكلتنا الرّئيسة ليست في هذا المذهب أو ذاك، أو رجل الدّين هذا أو ذاك، بل يتصوّر أنَّ الدّين برمّته هو المشكلة، وأنّ التديّن هو الخطر على المجتمعات، وخصوصاً عندما تسقط مصداقيّة العديد من رجال الدّين، تحت سَوْرة العواطف الدينيَّة.
التديّن الحقيقيّ
ولأنَّ أيَّ انفعالٍ عاطفي، بعيداً عن الفكر ورجاحة العقل، ولو كان باسم الدّين أو المذهب، هو زللٌ للقدم، وكعلاجٍ للحالة الطائفيَّة، لا بدَّ من أن لا يصدر عن الإنسان إلا الإحسان، فحقيقة التديّن هو أن يكون الإنسان محسناً لا جاهلاً، وهذا هو الانتصار للتديّن الحقيقيّ على القيم الفاسدة.
فشكر الخالق يستوجب الإحسان إلى عباد الله، بغضِّ النّظر عن انتماءاتهم أو توجّهاتهم أو أعراقهم، وسواء كان هذا الإنسان مسلماً أو حتّى كافراً مسالماً: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}[البقرة: 83]. والقول في الآية هنا ليس فقط بالألفاظ، بل يشمل جميع أفعال الإنسان وحركاته. فالعلاج الأنجع لمواجهة الحالة الطّائفيَّة، هو مواجهة الإساءة، من أيِّ طرفٍ مقابلٍ لك، بالإحسان إليه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصِّلت: 34]. فخير وسيلةٍ لإخماد نار الطائفيّة هو بالإحسان بين المذاهب الإسلاميّة وأتباعها، واحترام مقدَّسات كلِّ مذهبٍ ورموزه ومعتقداته.
وحتى لو تعرَّضت رموزي أو معتقداتي للإهانة أو الإساءة، فإنَّ ذلك لا يكفي، وليس مبرّراً لأن أسيء إلى رموز الآخرين ومعتقداتهم، بل يجب أن يكون دفاعي عن معتقداتي، بإظهار أفضل ما لديَّ من خيرٍ وإحسان، ودفع السيِّئة بالحسنة، لأنَّ أفعالي تتحدَّث عمّا بداخلي، فإن صدر عني السّوء، فهذا يدلّ على قبح سريرتي، وإن صدر عني الإحسان في قبال الإساءة، فهذا يدلّ على حسن سريرتي، بل إنَّ عدم الإساءة إلى مذهبٍ أو معتقدٍ معيَّن، هي أفضل فرصة لشرح وجهة النَّظر الصَّحيحة، وتصحيح الانطباعات الخاطئة لدى المخالفين.
ومن جهةٍ أخرى، لا يجب محاكمة أصحاب مذهبٍ أو فكرٍ معيَّنٍ بأفعال أفرادٍ قد يكونون جهلةً، أو قبيحي السَّريرة، فمن الخطأ الفادح خسران الأفراد الصَّالحين من كلّ مذهب بجريرة الأشخاص المسيئين فيه، فذاك انتصارٌ للشرّ على الخير. النّاس هم أيتام محمَّد وعليّ، فعلينا كفالة هؤلاء الأيتام والحنوّ عليهم وهدايتهم.
دور الشّباب ومسؤوليّاته
الجيل الحاليّ قد يدمّر ما سبق بناؤه بسبب العاطفة اللاواعية؛ فعاطفة بلا فكر، بلا وعي، بلا عمل رساليّ، تصبح خطراً، وخصوصاً إذا أصبح الغرب هو الّذي يتحكَّم في عواطفنا، ويوجِّهها يميناً وشمالاً عن طريق الإعلام الأصفر، أو برامج التَّواصل الاجتماعيّ، فهو بالسَّيطرة على برامج التّواصل الاجتماعي، يسيطر على الفكر وأسلوب التّفكير، وبالتّالي الأفعال والمخرجات.
الأمَّة الإسلاميَّة تعاني الآن الإرهاب في كلِّ مكان، وقد يكون هناك أجندات أجنبيَّة، ولكن اللّوم والتّقصير هو علينا نحن، لأنَّ الأمَّة الإسلاميَّة أهملت شبابها، ولم تبادر إلى نشر الفكر والوعي واليقظة. ولا بدَّ للجيل الحاليّ من أن يصنع فكره وثقافته، ويكون له تراثٌ فكريٌّ وقيميٌّ مؤثّرٌ في بناء الفكر الإسلاميّ.
أدعو الشَّباب بدلاً من التَّفاعل السَّلبيّ مع هذه البرامج، وتلقّي ما يتمّ إلقاؤه فقط، إلى التفاعل الإيجابي، وإلى الأخذ بزمام المبادرة، والعمل للقيادة الفكريَّة. ليعمل الشّباب على النهضة الفكريّة، هذا دوركم أنتم أيّها الجيل الحاليّ من الشّباب: النّهضة في الفكر الإسلاميّ، لا تنتظروا الآخرين أن يقوموا بما يجب أن تقوموا به أنتم.
أنتم شباب اليوم، ومستقبل الأمّة، وبيدكم وبأفعالكم يتمّ تحديد مصير هذه الأمَّة، فإمّا أن تغطَّ في سباتٍ من الجهل والظّلام لسنوات عديدة لتقصيرنا وتقاعسنا، وإمّا أن تتحرَّك نحو النّور والضِّياء وتنافس الأمم الأخرى، بما يقدِّمه شبابها من روحٍ وعملٍ وفكرٍ وجرأة.
أدعو إلى أعمالٍ إيجابيَّةٍ للتَّقارب بين الشّيعة والسنَّة، وبين الشّيعة والشّيعة، وإصلاح الصَّفّ الدّاخليّ، ورفض كلّ الأعمال الّتي تمزّق الصّفّ الدّاخليّ الشّيعيّ، أو تمزّق الوحدة الإسلاميّة، مهما كان مصدرها.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.