ما أشوقنا إليك وأنت الحاضر الدَّائم في كلِّ مواسم الوعي.. وأنت المتجدِّد وهجاً علميّاً، فقهيّاً "حركيّاً".. وسياسيّاً.. وفي كلّ الميادين...!
ما أحوجنا إليك، وأنت المتألّق المستمرّ فكراً إسلاميّاً ناصعاً يحاكي المستقبل ويضع الإصبع على جراحاتنا وآلامنا المتوالية...!
من وحشة أيّامنا وداجي ليالينا، إلى ألق الضّحى وعبقات الروح المترامية، حيث أنت في علياء يُشرق بالمحبّة، ويرسل شعاعه نحو غربتنا وتيهنا في وحشة المكان.
من غربة واقعنا المهجوس بالفتنة، المأخوذ دائماً ببيانات القتل، والذي لا يتنفّس إلا عصبيّةً وحقداً، ويضجّ من رائحة الموت الّذي يعصف في كلّ مكان.. إلى واحة هدوئك الأبدي، وإلى لذاذات روحك البيضاء.. إلى تنهّداتك التي تفيض راحةً واطمئناناً بعد تعب الأيّام.. إلى عروجك السّامي وبلوغك ما كنت تطمح، إلى كلّ هذا السّكون الذي قرأته وكتبته مسبقاً:
أحبُّه هذا الهدوء الّذي |
يلفّني في خدَرِ شاعرِ |
يحملُني على جناح الرّؤى |
إلى لذاذاتِ الهوى السّاحرِ |
يتيه بي في الغيب في زورقِ الضَّبابِ |
في بحر ِ الدّجى السّاهرِ |
أحبّه غيبوبةً حلوةً |
في عالمٍ مجنَّحٍ طائرِ |
تُبعدني عن الحكايا التي |
تخنقُ وحيَ النّور في خاطري |
حسبك كلُّ هذا السموّ.. وحسبنا كلُّ هذه الفوضى.. ديدنك في هذا العلوّ، وهمّنا في هذا الخلود الدّائم إلى الأرض.. في وعورة العصبيّات، في صراعات الأخوة، في احتراب أهل البيت الواحد، والوطن والواحد، والدّين الواحد، وفي تنازع أهل المصير الواحد...
لعلَّ أشدَّ ما يثقل على المرء يا سيّدي، أن يرى كلّ هذه المشاهد، ويعاين كلّ هذا التخبّط الديني والحضاري والسياسي، وهو يعرف تماماً أنّ آليّة الخروج منه موجودة، وأنَّ منهج الخلاص متوفِّر، لا بل إنَّ الطّريق كانت واضحةً لكي لا نصل إلى حيث وصلنا.. وأنّ كلّ ما كنت تقوله وتكتبه وتمليه على القريب والبعيد، كان يمثّل اختصاراً لكلِّ مسافات الضّيق هذه، وكلّ مساحات التعب التي أنهكتنا مسلمين وعرباً، وتركتنا مزقاً متناثرةً، وفرقاً متقاتلة، و"عصائب تهتدي بعصائب"..
ولعلَّ ما يشقّ أكثر سيّدي، أنّنا عندما نتحدّث عن الوحدة؛ الوحدة على كلّ المستويات، ترتفع الأصوات، وتنهال علينا لكمات الكلمات: أنتم تتحدّثون عن المستحيل، أنتم تخوضون في عالم المعجزات... هكذا وُضِعَتْ مشاريع الوحدة على الرّفوف، لا بل في "دائرة الممنوعات"، وتقدَّم المتعصّبون.. و"خشعت الأصوات" للمتمذهبين، "فلا تسمع إلا همساً"..
لقد كنت تتحسَّس مواقع الخطر، وكنت تشير بالإصبع على المواجع، وعملت على تعطيل كلّ هذه الألغام.. هجمت بالعلم على مواضع الجهل، وأخذت بيدهم إلى القمّة الّتي يمكن من خلالها رصد كلّ الاهتزازات ورؤية كلّ الحرائق.. فأرادوا للقمّة أن تكون موضعاً للكمائن.. السياسيّة والذاتيّة والمذهبيّة.. وقالوا بأنَّك مثاليّ.. تماماً كجدّك عليّ(ع).. والمثاليّة لا تبني صروحاً للطامحين.. وحدها العصبيّة تصنع العجائب في زمن الانهيارات.!!
كم كنت صادقاً يا سيّدي، وأنت تؤكِّد لكلّ هؤلاء الذين يلبسون لبوس الوحدة، ويختزنون كلّ العصبيّات القاتلة، أنّنا لا يمكن أن ننجح في مشاريعنا الوحدويّة من خلال تظهير الصورة الإعلاميّة الخارجيّة فحسب، وأنَّ العمل الوحدويّ يحتاج إلى بناءٍ فكريّ وحدويّ، وإلى ذهنيّة منفتحة على الآخر، وأنّنا بحاجة دائماً مصارحة القاعدة، حتى لا تكون ضحية هذه الازدواجية القاتلة بين ما نقوله في السرّ وما نطلقه في العلن، وحتى لا نظهر الانفتاح الخارجيّ على الشّاشات، ونحن نعيش في ظلمة الذهنيّة المغرقة في اتهام الآخر، أو ننكمش على ذاتنا في ظلمة الخوف من الآخر.
وكم كنت دقيقاً وأنت تتحدّث عن واقعيّة الطرح الوحدويّ، وخصوصاً على المستوى الإسلامي، ولعلَّ ما يؤكِّد أحقيّة ما كنت تذهب إليه، هو أن معظم هؤلاء المهتمين ــ المتّهمين، يعودون إلى كلماتك، وإلى منهجك في مقاربة هذا الأمر، وتجدهم مضطرّين لسلوك هذا النهج، ليظهر الفارق بين حتميّة الفشل المدَّعاة، وذهنيّة الإفشال المتعمّدة، والقائمة على تراكماتٍ ظلَّ يختزنها كلُّ أولئك الّذين يحملون عنواناً وحدويّاً، فيما تضجُّ دواخلهم بكلِّ عناوين الغربة مع الآخر.
لقد كنت للوحدة بنيويّاً، فيما عمل الكثيرون لها مصلحيّاً، وكنت تتطلَّع إلى عالمٍ تمحو فيه صراحةُ الحوارِ كلَّ هذا الرّكام من التّزييف والمجاملات، وسعيت للعلاج الدّائم، بينما اختاروا "المصلحة"، لتقودهم إلى الخطاب الجامع حيناً، والمثير للعصبيّة أخرى...
داويت متّئداً وداووا طَفرةً |
وأخفُّ من بعض الدّواءِ الدّاء |
ولكنّني أدرك ويدرك الكثيرون، أنّ عمليّة المراجعة الذاتيّة قد بدأت، وإن كان مسارها بطيئاً، وإن انطلقت فوق كلّ هذا البحر من الدّماء، وكلّ هذه الجبال من الهموم، وإن عمل العاملون ونشط النّاشطون قبل ذلك ليحرقوا مرحلةً بكاملها، وليحاولوا "إطفاء شمس ضوؤها متطاول".
إننا نستذكرك سيّدي في هذه الأيّام الصّعبة الخطيرة ونحن نعضُّ على الجراح.. نستذكر تاريخاً صنعته، ومرحلةً كنت "تلهب روحها بالنّور يُشرف من هداك فيصعد"، وإن حاول الكثيرون أن يضبِّبوا عليها، وأن يؤرّخوا لها على طريقتهم، بعيداً من معايير الحقّ، ومن كلّ الحقائق الدّامغة التي لا يمكن لمنصفٍ أن يتنكَّر لها أو أن يحاول التعمية عليها..
أنا أعلم يا سيّدي رقّة قلبك، فقد خلقت "رقيقاً كأنَّ الإله براك من نسمة نادية".. وقد كنت تناجي ربّك:
وأَنا راجعٌ إليك بقلبي |
إنَّ قلبي صحيفة بيضاء |
وأعلم أنَّ هذه الصَّحيفة البيضاء الطّاهرة النديَّة، هي التي جعلت منك "خصماً مثاليّاً" في أيام الخصومة، واسماً قابلاً للتّغييب في زمنٍ تكتب المراحل بغير حبر الحقيقة.. ولكنَّني أعلم أيضاً، أنَّ الله تعهَّد هذا القلب وهذا الفكر وهذا العقل بالامتداد والرّعاية، فهو لا يخصّ الشَّخص ولا الذّات، ولكنّه ينفتح على كلّ آفاق النّور في مستقبل الأمّة.
لقد حَسُنتْ بكَ الأوقاتُ حتَّى |
كأنّكَ في فَمِ الزّمَنِ ابتِسامُ |
وأُعطيْتَ الّذي لم يُعْطَ خَلْقٌ |
عَلَيكَ صَلاةُ رَبّكَ والسّلامُ |