عاش السيّد محمّد حسين فضل الله في النَّجف الأشرف في بداياته قبل عودته إلى لبنان ليعيش بين الفقراء إلى يوم وفاته، حيث عاش ثنائيّةً غريبةً من حيث البيئة الحوزويّة الكلاسيكيَّة الجامدة، ومن حيث انطلاق الرّجل في فضاء الحريّة الفكري السَّاعي إلى التجدّد الدّينيّ، فهو الفقيه الكلاسيكيّ والحداثيّ العصريّ المتنوّر في الوقت نفسه، ما شكّل جمع الرّجل لتناقضٍ كان وما زال يتمّ تقديمه بالإعلام العربيّ والعالميّ بأنّه تناقض ما بين الإسلام والحداثة، وما بين الإسلام والحياة، وما بين الإسلام والعلم الحديث.
إنَّ المرحوم محمّد حسين فضل الله خرج من هذه الثّنائيّة المتناقضة الّتي كانت وما يزال يتمّ ترويجها في الإعلام والكتب والحوارات على مختلف أشكالها، والّتي تروِّج وتنشر أنَّ من هو متديِّن هو إنسان خارج نطاق الحداثة، وما قام به السيِّد محمد حسن فضل الله وما عاشه شعاراً وفكراً وحركة، هو أنَّه انطلق من إسلامٍ حركيٍّ ليصنع النّموذج الحضاريّ الحداثيّ، والمنطلق إلى فضاء التّطبيق لما يؤمن به.
إذا أردنا أن نفهم حركة السيِّد محمد حسين فضل الله، فعلينا أن نستوعب مبدأً رئيساً وأساسيّاً، وهو "إقامة العدل"؛ إنَّ هاتين الكلمتين تختصران كلّ ما تحرك به السيّد محمد حسين فضل الله على طول تاريخه الطّويل، ومن هنا، انطلق مشروع "الإسلام الحركيّ" في مقابل "الإسلام الجامد"، حيث ارتكزت أساسيّات الإسلام الحركيّ على عدّة عوامل مهمّة، وهي تنقية التّراث من الخرافة، محاربة الغلوّ، والتصدّي للبدع والخرافات، وإسقاط الموروث الاجتماعيّ المخالف للإسلام الحركي، وهذا كلّه يصبُّ ويتحرّك في خانة صناعة حالة موازية للإسلام الجامد.
في كلِّ هذا، كان مطلب الوعي مهمّاً وحيويّاً، ومن هنا نفهم دعواته المتكرِّرة للمجتمع لأن يفكّر معه، ومن ذلك كلّه، كانت كلمته المشهورة "فكّروا معي"، وهي دعوة تختزن معنى وقيمة أن تعيش "الأمَّة" ـ بمعنى النَّاس ـ معنى القيادة ودورها بكلِّ أبعاده.
من إقامة العدل عن طريق الإسلام الحركيّ، تحقَّق للسيِّد محمد حسين فضل الله عبوره كفكرٍ إلى باقي الأديان، لأنَّ العدل من ناحيةٍ هو مطلبٌ إنسانيّ، ومن ناحيةٍ أخرى، كان للسيِّد ضمن تطبيقاته وتنفيذه للإسلام الحركيّ على أرض الواقع، قاعدة أخرى مهمَّة ومحوريَّة، انطلق بها إلى كلّ الآخر من حوله، وهي الحوار.
والحوار يكون عند السيِّد فضل الله بالسَّعي إلى الوحدة مع الآخرين ضمن ما هو مشترك، لتأسيس علاقةٍ مع كلِّ الآخر، واعتبار أنَّ الحوار هو صيغة لحلِّ كلِّ الأزمات. وللحوار مع السيِّد أسس وقواعد، وقد قدَّم له نظريّةً، وهنا الميزة والتميّز، حيث انطلق الحوار ضمن أسسٍ مهمَّةٍ، منها:
ـ الجديّة: فليس الحوار هو حوار الاستهلاك الإعلاميّ، وليس خطاب المجاملة.
ـ إلغاء الذاتيَّة والشَّخصانيَّة في الحوار: حيث الفكر يواجه فكراً، وليس الأمر أن يواجه شخصٌ شخصاً آخر، حوار يبتعد عن إلغاء المساحات المشتركة، ويبدأ مما هو مشترك. فإذاً، البداية تكون بالمشترك فيه، وليس بالمختلف عليه، وهنا يكون إلغاء العقم الجدليّ في الحوارات الطائفيّة أو الدينيّة الاستعراضيّة المثيرة.. حوار يعيش مبدأ قبول الآخر، وعدم إلغائه، والتَّعايش معه.
إذاً، من كلِّ هذا، انطلق السيِّد محمد حسين فضل الله وأسَّس لمرجعيَّةٍ فقهيَّةٍ شاملةٍ كانت قادرةً على الخوض فيما هو ممنوع، حيث ألغى الخوف من نقاش المقدَّسات؛ حيث لا مقدَّس في الحوار، فالحقيقة بنت الحوار، فكانت المرجعيَّة المؤسَّسة هي البديلة من المرجعيَّة الفرديَّة، وهو ما تمَّ اعتباره كتطويرٍ للواقع المرجعيّ الفقهيّ القديم.
أسَّس السيِّد محمَّد حسين فضل الله لمبادئ المرجعيَّة المؤسَّسة على غرار الفاتيكان، حيث يكون للمرجع جهازٌ معاونٌ من مراكز دراسات، ويعمل معه مستشارون متخصِّصون ومؤسَّسات خدماتيَّة تنطلق مما هو دينٌ لتخدم الإنسان، وهنا تنفيذٌ لمبدأ أنَّ الدِّين يخدم الإنسان، وليس أنَّ الإنسان يخدم الدِّين.
تمَّ استغلال المال الشّرعيّ من أخماسٍ وزكواتٍ وصدقاتٍ وتبرّعات لتأسيس:
ـ واحد وثلاثين مركزاً ثقافيّاً.
ـ أربع عشرة مدرسةً ثانويّةً تخدم خمسة عشر ألف تلميذ.
ـ سبعة معاهد مهنيَّة.
ـ أربعة مراكز لذوي الاحتياجات الخاصَّة، من بينها اللّؤلؤة الرّائعة؛ مؤسَّسة الهادي، الّتي تقدِّم خدماتٍ راقيةً مميّزة لذوي الاحتياجات الخاصَّة.
ـ أربعة مراكز صحيَّة، منها مستشفى ضخم، هو مستشفى بهمن.
وأيضاً، تأسيس أكبر مكتبةٍ عامّة في لبنان، حيث تضمّ أكثر من مائة ألف كتاب.
ولعلَّ ما هو أهمّ في كلِّ الموضوع، هو تأسيسه لدورة مالٍ شرعيٍّ خادمة للمؤسَّسات، حيث التَّمويل الذاتيّ للمؤسَّسات، فتمّ إنشاء مؤسَّساتٍ اقتصاديّة تغطّي ما هو فراغ لم تملأه الدّولة الرسميّة في لبنان، وهذه المؤسَّسات تقدّم فائضها الربحيّ من الأموال للمؤسَّسات الخدماتيّة للمرجعيّة المؤسَّسة، وهنا تمّ تحقيق دائرة المال الشّرعيّ، وإنجاز الاستقلاليّة، وصناعة نموذجٍ واقعيٍّ حقيقيٍّ مملوس.
ضمن حركة السيّد محمد حسين فضل الله مع المرجعيّة المؤسَّسة، قدّم السيّد مرجعيّة فقهيّة لا تخاف من نقاش الممنوع، وأيضاً لا تنفصل عن النّاس، وتتواصل معهم بمختلف الوسائل والأساليب، حيث اللّقاءات المباشرة، وإقامة صلاة الجمعة، والنّدوات الحواريّة المفتوحة، والمقابلات التلفزيونيّة والإذاعيّة والصحافيّة، وأيضاً، السؤال المباشر المفتوح للمرجعيّة، ما شكَّل سابقةً في الأوساط الإسلاميّة الحوزويّة، حيث إنَّ ذلك كان خلاف ما تعارفت عليه الأوساط الحوزويّة الكلاسيكيّة.
رغم هذا كلّه، كان السيِّد فضل الله يجمع بين متناقضين؛ ثقافة الحوزة التقليديَّة، ومسألة التَّجديد الدِّيني.
الفقه والتّجديد الدينيّ
عاش السيِّد فضل الله مسألة قراءة المقدَّس، ورفع ما هو خرافة عنه، وربط تلك القراءة للمقدَّس بالواقع الفرديّ الاجتماعيّ السياسيّ، وهو أيضاً يأخذ بظروف الزّمان والمكان، والأهمّ إمكانيَّة التَّطبيق.
هنا، يتحرَّك السيِّد فضل الله بمسألة تطهير الفكر الدّيني، وليس إلغاءه.
من أهمِّ الأمور في مسألة تطهير الفكر الدّيني:
ـ تأكيده حاكميَّة القرآن الكريم على الرّوايات الضَّعيفة، واعتبار القرآن الكريم هو الأساس الأوّل في الاجتهاد.
ـ إلغاء شرط الذّكورة عن مرجعيّة التّقليد.
ـ إلغاء الأعلميَّة، والدّخول إلى مبدأ تعدّد المراجع، حيث اعتبر أنَّ الدّين أو الفقه اختصاص، كما هي اختصاصات الهندسة والطبّ والمحاماة.
ـ اعتماد قاعدة المساواة بين الرّجل والمرأة في الحقوق والواجبات.
ـ الإفتاء بطهارة كلّ إنسان.
ـ تحريم العادات المبتدعة في طقوس العزاء، وضرب الرّأس بالسّيوف والجسد بالسّلاسل.
ـ إعادة دور صلاة الجمعة في الواقع الإسلاميّ الشيعيّ الجعفريّ الاثني عشري.
ـ ربط الفتوى بالعلم، ومثالها الاعتماد على الرّؤية العلميَّة للهلال، وإدخاله علم الفلك في تحديد بدايات الشّهور الهجريَّة.
ـ مناقشة قضايا معاصرة تتعلَّق بالاختصاص الطّبيّ، حيث اعتبر أنَّ "الطبّ هو المرجع للدّين"، وهو من أصدر فتاوى مهمَّة مبنيَّة على هذا القاعدة، مثل ربط الموت بموت الدِّماغ ضمن نقاشاته لمسألة الموت الرَّحيم، وأيضاً فتوى حليَّة عمليَّات التَّجميل لما هو ضروريّ، وفتوى حليَّة استخدام وسائل منع الحمل.
ـ تحريم شتم الصّحابة والخلفاء، أو القول بكفرهم أو بخروجهم عن الإسلام، بمن فيهم جميع أمّهات المؤمنين، وكان السبّاق إلى ذلك من باب الإيمان، وليس من باب المداراة أو التزلّف أو التقيَّة.
السيِّد فضل الله والقرآن الكريم
ولعلَّ من أهمِّ الأمور الدينيَّة الّتي ميَّزته، انطلاقه من تقديم فقهٍ عصريٍّ قابلٍ للتَّطبيق، يعتمد القرآن الكريم ركناً أوَّل للاجتهاد، ما طوَّر مسألة اختصاصه بتقديم التَّفسير الحركيّ للقرآن، حيث انتقد حرفيَّة التّفسير، وكان يؤكِّد أنَّ القرآن لن يفهمه الحرفيّون، ولكن يفهمه الحركيّون الَّذين يعيشون الإسلام حركةً في الإنسان والواقع، والحركيّة تأتي أيضاً بمعني القدرة على التّطبيق.
ألغى السيِّد الفلسفة من التَّفسير، وربط الآيات بالمجتمع لحلِّ مشاكل الإنسان، ورفض كلَّ خروجٍ زائدٍ عن النّص، وركَّز الفلسفة فقط في الجانب الرّوحانيّ من تفسير القرآن، حيث العرفان وعلم حبّ الله، وجعل التّفسير القرآنيّ يعيش فكرة أنَّ الإسلام يعبِّر عن حركة الواقع، وأنّه يجيب عن تعقيدات الحياة.
الحوار الإسلامي المسيحي
كان السيِّد محمد حسين فضل الله يناقش حالتين؛ الأولى وطنيَّة قطريَّة مع المسيحيّين، حيث كان يؤمن بالتَّعايش، وكان يدعو المسيحيِّين إلى دراسة الإسلام كمشروعٍ فكريٍّ حركيّ، كما هي باقي المشاريع الأخرى، كالماركسيَّة والقوميَّة... وكان يرى أنَّ من حقِّ المسلمين أن يطرحوا قناعاتهم كما الآخرون، وأن يتجسَّد الإسلام في دولةٍ إسلاميَّةٍ يعيش في كنفها المسيحيّون، دون أن يكون ذلك بالإكراه، ووضع مسألة دولة الإنسان كحالةٍ وسطٍ ما بين الدّولتين الاستبداديّة الديكتاتوريّة، ودولة الإسلام كمشروعٍ نظريّ.
الحالة الثّانية مع الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، هي الحالة اللاهوتيّة، إذا صحَّ التَّعبير، حيث اعتبر المسيحيّين موحّدين بالخطّ العام ضمن فلسفةٍ خاصَّةٍ بهم.
الخطاب الإسلاميّ العام
قدَّم السيِّد محمد حسين فضل الله مصطلحاتٍ خاصَّةً ضمن خطابه الإسلاميّ، من مثل الإسلام الحركيّ، الحالة الإسلاميَّة، الواقع، الانطلاق، والانفتاح... وغيرها من مصطلحاتٍ ميَّزت الخطاب الَّذي قدَّمه، وكان ذلك من باب تمييز الإسلام كحالةٍ إيديولوجيَّةٍ منفصلةٍ مميَّزة، فكما يوجد للماركسيّين والقوميّين مصطلحاتهم، فأيضاً للإسلاميّين مصطلحاتهم.
وكذلك ضمن الخطاب الإسلاميِّ المعاصر الذي قدَّمه السيِّد محمد حسين فضل الله، ركَّز سماحته على بشريَّة الفكر الإسلاميّ، وعلى أنَّ كلَّ فكرٍ يمثِّل حقيقةً بمقدار اقتناع الفرد به.
وألغى السيِّد محمد حسين فضل الله عبوديَّة الإنسان للأشخاص، وألغى عبوديَّة القيادة، إذا صحَّ التّعبير، وتحرّك بمسألة نقد القيادات الإسلاميّة، وألغى ربط النَّقد بالعداوة الشخصيَّة.
العلاقة مع الغرب
كان المرحوم السيّد محمد حسين فضل الله يريد إعادة تقديم الجانب الحضاريّ والإصلاح الاجتماعيّ، ليكون الفرد والمجتمع والمؤسَّسة حالة حضاريّة تشكّل النّموذج للآخر.
وكان السيِّد محمَّد حسين فضل الله منفتحاً على كلِّ الشّعوب، ويعيش التّفريق بين نظامٍ سياسيٍّ غربيّ، وما هو شعوب غربيَّة، واعتبر الغرب مجالاً لحركة الإسلام، وليس موقعاً للتَّصادم.
في ذكرى السيِّد محمد حسين فضل الله المتجدِّدة، كانت هذه المقالة إحدى الإضاءات عليه كمشروعٍ نظريّ وحركةٍ على أرض التّطبيق.
*جريدة دنيا الوطن الفلسطينيَّة
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.