مختارات
02/04/2015

قال الشَّيخ!

قال الشَّيخ!

يتعبّدُ أكثرُ الجمهورِ المتديّن بكلام "رجل الدّين". والتعبّدُ إحدى أخطر الكلمات على قيمة المعرفة، مَفادُها الالتزامُ التامّ دون طلب دليلٍ أو برهانٍ علميّ.

أمَّا مصطلح "رجل الدّين"، فهو الآخرُ ليس دينيّاً، ثمّة "علماء" أو "مبلّغون" أو "دعاة"، ولكن ليس ثمّة رجالٌ يتَّسمون بالدّين نفسه، والمصطلحُ هذا موروثٌ في الأصل من الحضارة اليونانيَّة، الَّتي ابتكرتهُ لتصنيف الأشخاص الَّذين يتمتَّعون برتبٍ لاهوتيّة معيّنة؛ لتُغاير طبقة "العوام"، وتوازي أو تنافس أحياناً طبقة "النبلاء". وبطبيعة المجتمع الملتزم، يتمتَّع من يلبس الزيّ الدّينيّ بحظوةٍ اجتماعيّةٍ بارزة، وقداسةٍ تحوط أقواله وأفعاله، يستمدّها من قداسة الدِّين ذاته، ويحكم من خلالها وعي الجمهور. (ولا يَخفى أنَّ هالة السّلطة هذه بدأت بالتّلاشي في الفترة الأخيرة، لأسبابٍ عدَّة ليس ثمّة مجال لمناقشتها في هذا السّياق).

ضمن البيئة المتديّنة، عندما يُقرّر "المنبر" صوابيّة فكرةٍ ما أو خطأ أخرى، يكون قولاً فصلاً لدى الشّريحة الأعرض من الجمهور، ويصبح الجواب ـ الأغرب معرفيّاً ـ أمام كلِّ الأسئلة والإشكالات: "الشّيخُ قالَ ذلك"! وهي عبارة أبعد ما تكون من الالتزام الدّينيّ النَّاضج، وظاهرة إنسانيَّة قديمة تشمل المنبر الدينيّ والسياسيّ وغيرهما. من البيّن أنَّ هذه العبارة العتيدة لا تغني دليلاً في موقف نقاشٍ محترم، لكنَّها باتت "منطقاً" بدائيّاً يُرهق السَّاحة، ويمتلك من القوَّة ما يكفي لرجم أكثر الأفكار حداثةً وإبداعاً... إنَّها مشكلةُ المنبر.

واقع المنبر

الكثير من الأسئلة الكبيرة تحوط المنبر المسلم اليوم؛ مستوى خطابه، أشخاصه، لغته، أولويّاته ومواضيعه... والكثير من النّقاط المُربِكة الأخرى.

كما أنَّ "جمهور اليوم" بدأ يلامس المنابر الأخرى ويتأثّر بها؛ فعالم الإعلام المنفتح على كلِّ المنابر، لا يرحمُ منظومةَ أفكارٍ فَشِلَ دُعاتُها في ترويجها بتقنيَّات الآن المعرفيّ. ومن نافل القول إنَّ تجاذب الرّأي العام بات معركةً أمميَّةً لا هوادة فيها. رغم ذلك كلِّه، يعيش المنبر الدينيّ اعتداداً مبالغاً فيه بمقدرته على اجتذاب الجمهور، في الوقت ذاته الّذي يُعاني فقراً مُدقعاً في دراسة توجّهات الرأي وتحدّيات الفكر الحديث، وميول الأجيال الصَّاعدة من الجمهور المستهدَف، بل ويسقطُ قسمٌ كبيرٌ من خطابه في الشعبويّةِ (حشد الجمهور وتجييشه عبر دغدغة عواطفه وانفعالاته فحسب)، أو الشموليَّة المعرفيّة (الّتي تدّعي السيطرة على كلِّ علوم الحياة دون احترام التخصّصات العلميّة). واقعُ هذا المنبرِ ليس مُبشِّراً في صورته العامَّة، والعمل على إصلاحه وتطويره يبدأ من لحظة فتح أبواب مؤسَّسات التعليم الدّينيّ، ومعايير قبول من يدخل ساحتها، وصولاً إلى ارتقاء منابرها، ويمتدّ لإنشاء مؤسَّساتٍ بحثيّة متخصِّصة، تمتلك كفاءات دراسة الجمهور ومواكبة أحدث آليّات تشكيل القناعات العامَّة وبناء الرأي والتوجّهات الاجتماعيّة، ومن ثمّ تأهيل "المنبريّين" وفقها (على أن لا تكون من نمط "المؤسَّسات الشّكليّة" المعتادة الّتي تعتبرُ أزمةً قائمةً بذاتها).

تعارض المنابر

لا يفوتُ المتابع أنَّ المنبر الدّينيّ مُنقسم على نفسه؛ الخطوط والتيّارات والتحزّبات الدينيّة والقادة الدينيّون... لا يكادون يتَّفقون على مشتركات دعويَّة واحدة. الاختلافُ سمة صحيَّة لو بقي اختلافاً علميّاً، وبما أنَّ "لو" هي حرفُ امتناعٍ، كما تفيد قواعد اللّغة، لا يقفُ اختلافُ المنابر عادةً عند حدود المعرفة، بل كثيراً ما يسقط في التَّشهير بالأشخاص وتكفيرهم أو تضليلهم، لادِّعاء احتكار "الحقّ" في منبرٍ دون سواه، وهي الآفة الأكثر خطراً على مصداقيَّة المنابر كلِّها.

ثمّة ظاهرةٌ لافتةٌ في الواقع، وهي أنَّ جمهور المنابر المتعارضة، غالباً ما يميلون إلى تشكيل إحساسٍ جمعيّ بالانتماء إلى منبرهم الخاصّ، فيُقدِّسون الشَّخص، ويعيشون ذهول خطابه حتّى عندما يكون عاديّاً، وتتراكم الحالة بالفعل لتشكيل رابطةٍ دينيَّةٍ افتراضيّةٍ خاصَّة، يكون مجرّد الانتساب إليها ميزةً معنويّة مهمَّة في وعيهم (وهذه ظاهرةٌ تفصيليَّة ضمن المذهب الواحد، تسترعي الدراسة).

في حين تنحو قلّة من الجمهور إلى السَّماحة المبالغ بها، ورفع شعار محبّة جميع المنابر وأربابها، بدعوى أنَّ اختلاف العلماء لا يُفسدُ للودِّ قضيَّة، حتى عندما تتعارض الآراء وتختلف حدّ التباين الكامل.

الحقُّ أنَّ هذه القلَّة هي أكثر نضجاً اجتماعيّاً، رغم كونها بعيدةً من الانضباط المعرفيّ، فالصَّواب العلميّ الّذي يَنشُدونه لا يحتملُ قبولَ الجميع، ولا بدَّ من تمييز الخطاب النَّاضج والموضوعيّ دون سواه واعتماده، في الآن ذاته الّذي نُبرّرُ للآخرين اجتهادَهم أحياناً، وينبغي أن نُشير إلى عدم أهليَّتهم أو كفاءتهم أحياناً أخرى.

المنبر غير المثقّف

لطالما اعتبرت الأدبيّاتُ الدينيَّة أنَّ من شروط القائد والموجِّه الدّينيّ، "معرفة شؤون زمانه"، وبالتّالي امتلاك أدوات ومعايير الثّقافة الحديثة التي تمكِّنهُ من ميزتين مهمّتين:

1ــ فهم جمهوره وإدراك واقعه الحياتيّ بشكلٍ صحيح.

2ــ إنتاج خطابٍ ومادّةٍ دينيّةٍ تتواءم مع معطيات هذه البيئة.

في الغالب، لم يتعدَّ هذا الشّرط جماليّة طرحه (مع وجود نماذج فارقة طبعاً)، فهو من الصّعوبة والدّقّة بمكانٍ أن يتواءم مع نمطيَّة العديد من بيئات المعرفة الدينيّة، الّتي تأبى أن تواكب العصر. وفي مراحل متقدِّمة من خلل الرؤية، تأبى حتى الاعتراف بمرحلةٍ زمنيّة غير الّتي تعيشها داخل جدران مؤسَّساتها ورفوف كتبها، وهذه المؤسَّسات العريضة تنتج ـ للأسف ـ أحد أخطر عوامل نمطيّة البيئة الدّينيّة؛ "المنبر غير المثقَّف".

لم يكن من الفراغ أن تزخر مواقع التّواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت بمقاطع شديدة الغرابة لأشخاصٍ يوسمون بأنّهم "رجال دين"، تثير الاستهجان والاستنكار وحتّى الضَّحك! وخصوصاً عندما يتكلَّم فارس المنبر بما لا يمتلك فيه أيَّ خبرة، في مجال العلوم الحديثة أو النظريّات والدّراسات المعقَّدة؛ والذي يُفترض به ـ كقائد رأيٍ مجتمعيّ ـ أن يطّلع عليها ويُلمّ بأفكارها الرّئيسة، باعتبارها ثقافةً عامَّة يمتلكها مجتمعه، أو عدم الخوض بها على أقلّ تقدير، إن لم يتمكَّن من متابعتها.

ثمّة الكثير مما لا يُنشَر أيضاً، كما يُعاني قسمٌ كبيرٌ آخر من الخطاب المنبريّ أزمةً جوهريّةً في مضمونه، ونمطيّة طرحه، وبدائيّة مسائله، وهو ـ وإن لم يُشهَّر به كتلك المقاطع المستهجنة ـ يُمثِّل ظاهرةً رتيبةً لا يقلّ خطرها عن فصل شرائح من المجتمع تدريجيّاً عن منبرها الدينيّ، وانجذابها إلى منابر أكثر معاصرةً وتشويقاً.

في مرحلةٍ مُشرقةٍ من التاريخ، كان المنبر الدينيّ منصّة معرفةٍ متكاملة، يحمل روّاده علوماً موسوعيّةً تبدأ بمعارف الشَّريعة، ولا تنتهي عند حدود الطبّ والفلك والفلسفة وحتى الرياضيّات.

الخطيبُ الدينيُّ يُعنى بمسؤوليّةٍ فريدةٍ في عرض الرسالة الأعظم، وتوجيه الرأي العامّ إليها، والمنبرُ منصَّةٌ استثنائيّةٌ يقتضي احترامُها أن نحظرها على من لا يمتلك المعرفة أو الوعي أو تقنيّات الخطاب المتقدّم.

مهمّة الخطيب تقتضي أن يستقي المعرفةَ من مواردها ويبذلها لجمهوره، ووظيفة الجمهور أن يستحضر وعيهُ وعقلهُ أمام كلّ خطابٍ يهدف إلى قيادة الحياة؛ فيُناقش ويُحلّل وينقد ويسأل... أمَّا "ما قاله الشيخ"، فيبقى في دائرة الأخذ والردّ حتى يحكم فيه الدّليل، تماماً كأيّ خطابٍ آخر، وربّما أكثر حذراً.

هكذا تُستكمَلُ دورة المعرفة، وبفقدان أحد عواملها، يُخشى على المنبر من شيخوخة الخطاب واختلاف الزّمن المعرفيّ؛ وهو ما يصعبُ حصرُ تداعياته، إن لم يحظ بالقدر الكافي من العناية والتَّنظيم.

جريدة الأخبار اللّبنانيَّة


يتعبّدُ أكثرُ الجمهورِ المتديّن بكلام "رجل الدّين". والتعبّدُ إحدى أخطر الكلمات على قيمة المعرفة، مَفادُها الالتزامُ التامّ دون طلب دليلٍ أو برهانٍ علميّ.

أمَّا مصطلح "رجل الدّين"، فهو الآخرُ ليس دينيّاً، ثمّة "علماء" أو "مبلّغون" أو "دعاة"، ولكن ليس ثمّة رجالٌ يتَّسمون بالدّين نفسه، والمصطلحُ هذا موروثٌ في الأصل من الحضارة اليونانيَّة، الَّتي ابتكرتهُ لتصنيف الأشخاص الَّذين يتمتَّعون برتبٍ لاهوتيّة معيّنة؛ لتُغاير طبقة "العوام"، وتوازي أو تنافس أحياناً طبقة "النبلاء". وبطبيعة المجتمع الملتزم، يتمتَّع من يلبس الزيّ الدّينيّ بحظوةٍ اجتماعيّةٍ بارزة، وقداسةٍ تحوط أقواله وأفعاله، يستمدّها من قداسة الدِّين ذاته، ويحكم من خلالها وعي الجمهور. (ولا يَخفى أنَّ هالة السّلطة هذه بدأت بالتّلاشي في الفترة الأخيرة، لأسبابٍ عدَّة ليس ثمّة مجال لمناقشتها في هذا السّياق).

ضمن البيئة المتديّنة، عندما يُقرّر "المنبر" صوابيّة فكرةٍ ما أو خطأ أخرى، يكون قولاً فصلاً لدى الشّريحة الأعرض من الجمهور، ويصبح الجواب ـ الأغرب معرفيّاً ـ أمام كلِّ الأسئلة والإشكالات: "الشّيخُ قالَ ذلك"! وهي عبارة أبعد ما تكون من الالتزام الدّينيّ النَّاضج، وظاهرة إنسانيَّة قديمة تشمل المنبر الدينيّ والسياسيّ وغيرهما. من البيّن أنَّ هذه العبارة العتيدة لا تغني دليلاً في موقف نقاشٍ محترم، لكنَّها باتت "منطقاً" بدائيّاً يُرهق السَّاحة، ويمتلك من القوَّة ما يكفي لرجم أكثر الأفكار حداثةً وإبداعاً... إنَّها مشكلةُ المنبر.

واقع المنبر

الكثير من الأسئلة الكبيرة تحوط المنبر المسلم اليوم؛ مستوى خطابه، أشخاصه، لغته، أولويّاته ومواضيعه... والكثير من النّقاط المُربِكة الأخرى.

كما أنَّ "جمهور اليوم" بدأ يلامس المنابر الأخرى ويتأثّر بها؛ فعالم الإعلام المنفتح على كلِّ المنابر، لا يرحمُ منظومةَ أفكارٍ فَشِلَ دُعاتُها في ترويجها بتقنيَّات الآن المعرفيّ. ومن نافل القول إنَّ تجاذب الرّأي العام بات معركةً أمميَّةً لا هوادة فيها. رغم ذلك كلِّه، يعيش المنبر الدينيّ اعتداداً مبالغاً فيه بمقدرته على اجتذاب الجمهور، في الوقت ذاته الّذي يُعاني فقراً مُدقعاً في دراسة توجّهات الرأي وتحدّيات الفكر الحديث، وميول الأجيال الصَّاعدة من الجمهور المستهدَف، بل ويسقطُ قسمٌ كبيرٌ من خطابه في الشعبويّةِ (حشد الجمهور وتجييشه عبر دغدغة عواطفه وانفعالاته فحسب)، أو الشموليَّة المعرفيّة (الّتي تدّعي السيطرة على كلِّ علوم الحياة دون احترام التخصّصات العلميّة). واقعُ هذا المنبرِ ليس مُبشِّراً في صورته العامَّة، والعمل على إصلاحه وتطويره يبدأ من لحظة فتح أبواب مؤسَّسات التعليم الدّينيّ، ومعايير قبول من يدخل ساحتها، وصولاً إلى ارتقاء منابرها، ويمتدّ لإنشاء مؤسَّساتٍ بحثيّة متخصِّصة، تمتلك كفاءات دراسة الجمهور ومواكبة أحدث آليّات تشكيل القناعات العامَّة وبناء الرأي والتوجّهات الاجتماعيّة، ومن ثمّ تأهيل "المنبريّين" وفقها (على أن لا تكون من نمط "المؤسَّسات الشّكليّة" المعتادة الّتي تعتبرُ أزمةً قائمةً بذاتها).

تعارض المنابر

لا يفوتُ المتابع أنَّ المنبر الدّينيّ مُنقسم على نفسه؛ الخطوط والتيّارات والتحزّبات الدينيّة والقادة الدينيّون... لا يكادون يتَّفقون على مشتركات دعويَّة واحدة. الاختلافُ سمة صحيَّة لو بقي اختلافاً علميّاً، وبما أنَّ "لو" هي حرفُ امتناعٍ، كما تفيد قواعد اللّغة، لا يقفُ اختلافُ المنابر عادةً عند حدود المعرفة، بل كثيراً ما يسقط في التَّشهير بالأشخاص وتكفيرهم أو تضليلهم، لادِّعاء احتكار "الحقّ" في منبرٍ دون سواه، وهي الآفة الأكثر خطراً على مصداقيَّة المنابر كلِّها.

ثمّة ظاهرةٌ لافتةٌ في الواقع، وهي أنَّ جمهور المنابر المتعارضة، غالباً ما يميلون إلى تشكيل إحساسٍ جمعيّ بالانتماء إلى منبرهم الخاصّ، فيُقدِّسون الشَّخص، ويعيشون ذهول خطابه حتّى عندما يكون عاديّاً، وتتراكم الحالة بالفعل لتشكيل رابطةٍ دينيَّةٍ افتراضيّةٍ خاصَّة، يكون مجرّد الانتساب إليها ميزةً معنويّة مهمَّة في وعيهم (وهذه ظاهرةٌ تفصيليَّة ضمن المذهب الواحد، تسترعي الدراسة).

في حين تنحو قلّة من الجمهور إلى السَّماحة المبالغ بها، ورفع شعار محبّة جميع المنابر وأربابها، بدعوى أنَّ اختلاف العلماء لا يُفسدُ للودِّ قضيَّة، حتى عندما تتعارض الآراء وتختلف حدّ التباين الكامل.

الحقُّ أنَّ هذه القلَّة هي أكثر نضجاً اجتماعيّاً، رغم كونها بعيدةً من الانضباط المعرفيّ، فالصَّواب العلميّ الّذي يَنشُدونه لا يحتملُ قبولَ الجميع، ولا بدَّ من تمييز الخطاب النَّاضج والموضوعيّ دون سواه واعتماده، في الآن ذاته الّذي نُبرّرُ للآخرين اجتهادَهم أحياناً، وينبغي أن نُشير إلى عدم أهليَّتهم أو كفاءتهم أحياناً أخرى.

المنبر غير المثقّف

لطالما اعتبرت الأدبيّاتُ الدينيَّة أنَّ من شروط القائد والموجِّه الدّينيّ، "معرفة شؤون زمانه"، وبالتّالي امتلاك أدوات ومعايير الثّقافة الحديثة التي تمكِّنهُ من ميزتين مهمّتين:

1ــ فهم جمهوره وإدراك واقعه الحياتيّ بشكلٍ صحيح.

2ــ إنتاج خطابٍ ومادّةٍ دينيّةٍ تتواءم مع معطيات هذه البيئة.

في الغالب، لم يتعدَّ هذا الشّرط جماليّة طرحه (مع وجود نماذج فارقة طبعاً)، فهو من الصّعوبة والدّقّة بمكانٍ أن يتواءم مع نمطيَّة العديد من بيئات المعرفة الدينيّة، الّتي تأبى أن تواكب العصر. وفي مراحل متقدِّمة من خلل الرؤية، تأبى حتى الاعتراف بمرحلةٍ زمنيّة غير الّتي تعيشها داخل جدران مؤسَّساتها ورفوف كتبها، وهذه المؤسَّسات العريضة تنتج ـ للأسف ـ أحد أخطر عوامل نمطيّة البيئة الدّينيّة؛ "المنبر غير المثقَّف".

لم يكن من الفراغ أن تزخر مواقع التّواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت بمقاطع شديدة الغرابة لأشخاصٍ يوسمون بأنّهم "رجال دين"، تثير الاستهجان والاستنكار وحتّى الضَّحك! وخصوصاً عندما يتكلَّم فارس المنبر بما لا يمتلك فيه أيَّ خبرة، في مجال العلوم الحديثة أو النظريّات والدّراسات المعقَّدة؛ والذي يُفترض به ـ كقائد رأيٍ مجتمعيّ ـ أن يطّلع عليها ويُلمّ بأفكارها الرّئيسة، باعتبارها ثقافةً عامَّة يمتلكها مجتمعه، أو عدم الخوض بها على أقلّ تقدير، إن لم يتمكَّن من متابعتها.

ثمّة الكثير مما لا يُنشَر أيضاً، كما يُعاني قسمٌ كبيرٌ آخر من الخطاب المنبريّ أزمةً جوهريّةً في مضمونه، ونمطيّة طرحه، وبدائيّة مسائله، وهو ـ وإن لم يُشهَّر به كتلك المقاطع المستهجنة ـ يُمثِّل ظاهرةً رتيبةً لا يقلّ خطرها عن فصل شرائح من المجتمع تدريجيّاً عن منبرها الدينيّ، وانجذابها إلى منابر أكثر معاصرةً وتشويقاً.

في مرحلةٍ مُشرقةٍ من التاريخ، كان المنبر الدينيّ منصّة معرفةٍ متكاملة، يحمل روّاده علوماً موسوعيّةً تبدأ بمعارف الشَّريعة، ولا تنتهي عند حدود الطبّ والفلك والفلسفة وحتى الرياضيّات.

الخطيبُ الدينيُّ يُعنى بمسؤوليّةٍ فريدةٍ في عرض الرسالة الأعظم، وتوجيه الرأي العامّ إليها، والمنبرُ منصَّةٌ استثنائيّةٌ يقتضي احترامُها أن نحظرها على من لا يمتلك المعرفة أو الوعي أو تقنيّات الخطاب المتقدّم.

مهمّة الخطيب تقتضي أن يستقي المعرفةَ من مواردها ويبذلها لجمهوره، ووظيفة الجمهور أن يستحضر وعيهُ وعقلهُ أمام كلّ خطابٍ يهدف إلى قيادة الحياة؛ فيُناقش ويُحلّل وينقد ويسأل... أمَّا "ما قاله الشيخ"، فيبقى في دائرة الأخذ والردّ حتى يحكم فيه الدّليل، تماماً كأيّ خطابٍ آخر، وربّما أكثر حذراً.

هكذا تُستكمَلُ دورة المعرفة، وبفقدان أحد عواملها، يُخشى على المنبر من شيخوخة الخطاب واختلاف الزّمن المعرفيّ؛ وهو ما يصعبُ حصرُ تداعياته، إن لم يحظ بالقدر الكافي من العناية والتَّنظيم.

جريدة الأخبار اللّبنانيَّة

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية