{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}.
وكأنّي بهم يقولون: {هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا}... هذا لسان حال العراقيّين والنّجفيّين بالخصوص؛ النّجف مدينة عليّ(ع)؛ باب مدينة علم رسول الله، النَّجف المرجعيّة الرّشيدة ومنبع الفقهاء، ومنهم محمّد حسين فضل الله، الّذي خسرته يوماً بخروجه منها، بعد أن نهل من فقهها، وبقر كلَّ علمها، وسبق عصره ومن عاصره بأشواط.
وفيما كتبنا سابقاً بعد عودة شيءٍ من فكر المرجع السيِّد فضل الله إليها، وإقامة مؤتمرٍ في ذكرى رحيله الرّابعة، أنّ النّجف لن تخسر السيّد فضل الله مرّتين! طُبعت صورةٌ في أذهان الكثيرين بالنّقل المزوَّر المكذوب عن واقع النّجف بوصفه بالمتخلّف، لا بل بالمعادي للسيِّد. كم ذرّوا من رماد كذبهم في عيوننا! وكم خانوا السيّد الّذي ائتمنهم بأن جعلهم عينَه التي يطلّ بها على النّجف! أجل يا سيّدنا، لقد كذبوا كثيراً وما صَدَقوك، فأخّروا فكرَك عن الحضور بقوّة أكثر من عقدٍ ونيّفٍ من السنوات، أيّ جريمة هي هذه، وأيّ جرأة على أولياء الله وعلى المؤمنين، أن منعوهم علم الإسلام والنّبيّ وآله (عليه وعليهم السّلام)؟!
نعم يا سيّدي، أيّها الحيّ بفكرك وعلمك وكلّ كلماتك، فلا تليقُ الحياةُ بغيرك أيّها الشّامخ دوماً، لقد أتينا إلى النّجف محمّلين بالكثير من التَّحذير والتَّخويف من أجوائها وواقعها، وأنّنا سنواجه الكثير من المشاكل والصّعاب، لا بل بأنّ الوضعَ خطير إذا عملنا على نشر فكرك. لكنّ كلماتك لم تغادرنا مُذ سكَنَتنا، فكأنّي بك تقول لنا كما عهدناك: ما كان لله ينمو، وإن كان هذا العمل لله، فالله كفيلٌ به، وإن لم يكن لله، فليذهب هباءً منثوراً... أتينا متوكِّلين على الله وحده، مطمئنِّين لما عنده، فجئنا ببضاعتنا المزجاة ليوفي لنا الكيل، فلم يخيّب ظنوننا.
وصلنا لنجد العقول قد ارتوت بفكرك، والنفوسَ امتلأت بحركيّتك، وهم على نهجك سائرون، ولخطّك حافظون، ولكلماتك مردّدون... من أين أبدأ يا مولاي!؟ أمن الكهول الَّذين كانوا يأتون ويمسكون بالكتب، فيرفعونها ويقبِّلون صورتك التي تزيّنها، ويبكون أسفاً عليك وعلى غيابك عنهم؟! أو من الرّجال الذين درجوا على الاستماع إليك من بعيد، وحفظوا كلماتك عن ظهر قلب، فتشرّبتها عقولهم، وكانت لهم نبراساً ومشعلاً يضيء لهم ما أظلم وغمَّ عليهم؟! أو من النّساء اللّواتي كنت لهنَّ المدافع الأوَّل، والّذي أعاد إليهنّ إنسانيتهن التي سَلَبَتها منهنّ الأفكارُ الجاهلية التي ألصقت بالإسلام زوراً، فكانت كُتُبك "دنيا المرأة"، و"تأمّلات إسلاميَّة حول المرأة"، و"مناهضة العنف ضدَّ المرأة"، من أوائل الكتب التي نفدت من المعرض، ونفذت في عقولهنّ؟! أو من جيل الشَّباب؛ هذا الجيل الّذي وجد فيك وبتراثك الفكريّ إجاباتٍ وإجاباتٍ وافيةً وكافيةً لأسئلتهم الحائرة، وملجأً وملاذاً وكهفاً حصيناً يقيهم أخطار الجهل والتخلّف، هذا الجيل الّذي حمل راية نشر فكرك في كلِّ أصقاع العراق من أقصاه إلى أقصاه، دون تكليفٍ أو متابعةٍ من أحد، فهم يعتقدون أنّهم أحقُّ بحمل هذا الفكر من سواهم، فهم أبناؤك الرّوحيّون، فقطعوا مئات الأميال ليحظوا ببعض كتبك، أو لنحدِّثهم بالقليل عنك، فكانوا يُبكرون بالحضور، فيسبقوننا ليكونوا قرب تراثك أطول مدّة ممكنة، يسرعون إلى تقليب الصفحات، ويبحثون عن مرادهم، فترى في أعينهم سعادةً وفرحاً ونشوة الانتصار، فكم حملوا من كتبٍ سينوؤون بثقلها في طريق عودتهم الطويل، ولكنهم فرحون بأنهم رووا ظمأهم الفكري والروحي؟!
لم أنسَ أن أحدِّثك عن الأطفال، أو أن أحدِّثهم عنك، فيأتي الواحد منهم ليقول: أنا من مقلّدي السيّد فضل الله، ويسرعون لالتقاط "دنيا الطّفل"، ويَشرعون في البحث عن بعض عباراتك الّتي حفظوها عن ظهر قلب، ويحدِّثون أقرانهم عنها، ثم يطلبون كميّةً من صورك الشخصيَّة لتكون معهم أينما ذهبوا.
أمّا غالبيَّة رجال الدّين وطلاب العلوم الدينيَّة الَّذين حضروا، فهولاء هم حَمَلة فكرك، وهم الّذين وجدوا فيك ما يليق بالعالِم أن يحمله ويبلّغه للنّاس، هذه الفئة من العلماء فاقت ما كنَّا نتوقّعه أو نرجوه، فوجدناهم قد سبقونا إليك بأشواطٍ رغم بعدهم، وحملوا مشعلَ حركيّتك المتوقّد في عقولهم، وجاهدوا في تبليغه، وإن كانت بعض الظّروف تمنعهم من التَّصريح والمجاهرة. وهذا ما يحتّم إنشاء مدرسة دينيَّة تحتضن كلّ هذه الطاقات، وتكون لهم مرتكزاً ومنطلقاً.
ولعلَّك تسألني عمّن يختلف معك، وعمّن حمل أفكاراً مغلوطة عنك. نعم؛ لقد حضر عدد منهم يطلب الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، وليناقش كلّ الإثارات والشّبهات حول فكرك، فكان لهم ما أرادوا من الحقيقة، ومنهم من ظلَّ يسأل أكثر وأكثر، فكانت كُتُبك خيرَ مجيب لهم، وإن بقي شيء من أثر ما حملوه سابقاً، لينجلي مع الأيّام بقراءتك من جديد.
أنت يا سيِّدي في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر، تنظر إلينا من عليائك، وترقُبنا بنظراتك الحانية، فعهدنا إليك أن نكمل المسيرة بالعمل والفعل، لا بالقول وترداد الشّعارات، فالسّاحة مفتوحة على العمل، ووصيّتك أن نملأها بالإسلام قبل أن يملأها الآخرون بغير الإسلام.
ومن باب {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}، لا بدَّ من التّنويه بدور المركز الإسلاميّ الثقافي، وبشخص مديره السيِّد شفيق الموسوي، في حمل همّ نشر هذا الفكر، والعمل جاهداً على رعاية كلّ الطاقات الّتي تحمل هذه الحركيّة الإسلاميّة، ودفع كلّ الشبهات التي يُلصِقها المغرضون بفكر السيّد فضل الله، وتقديمه للمؤمنين بصورته النّاصعة التي أرادها السيّد فضل الله (رضوان الله عليه).
هذه النَّجف الّتي خسرت السيِّد فضل الله يوماً، ها هي تستعيده من جديد، وعهدها أن لا تفرّط فيما عوّضها الله به، فالسُّنون العجاف انقضت، وبياض عينيها زال وانقشع، وارتدَّ إليها بصرُها، لترى فضلَ الله عليها بفضلِ الله من جديد.
* موقع تواصل أونلاين