مختارات
01/02/2015

الشتّامون الشامتون

الشتّامون الشامتون

اللبنانيّون في أسفل سافلين. مستقبلهم مجهول، وحاضرهم مهدَّد بالانفجار، بين محاولات "داعشيّة" بإعلان إمارة إسلاميّة في منطقة عرسال وجرودها، وما كشفته مصادر ديبلوماسيّة غربيّة ودوليّة، من أنَّ إسرائيل بعثت بتحذيرٍ شديد اللّهجة بالردّ في لبنان على كلّ هجومٍ يستهدف مؤسَّسات إسرائيليَّة في خارج إسرائيل أو في داخلها.

اللبنانيّون، إضافةً إلى هذا الهمّ، مهدَّدون، سواء بسبب التردّي الاقتصاديّ، أو الفوضى الأمنيّة الضّاربة أطنابها في الشَّوارع والحارات، فهم إذا تمكّنوا من تأمين لقمة عيشهم، لا يأمنون الاحتفاظ بها، وعدم تعرّضها للسّرقة، كما أنهم لدى تناولها، يغصّون ألف غصّة خوفاً من التلوّث والفساد.

واللّبنانيّون غافلون عن المصائب السّوداء الّتي يرزحون تحتها، مستغرقون في لذّة الشّتم والشّماتة بعضهم بالبعض الآخر، أو بغيرهم، كأنهم بذلك يهربون من خيباتهم وهواجسهم، ويفشّون خلقهم في من لا علاقة له بمصدر خوفهم ومصائبهم.

الكلّ يعلم أنَّ اسرائيل هي المسؤولة عن اغتيال عناصر من الحزب والحرس الثّوري الإيرانيّ، وكلّنا نتبجّح بأنّنا ندين إسرائيل، لكنَّ البواطن العاطلة الّتي انطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، تبيّن أنَّ نسبة الشّتم والشّماتة والانحدار الأخلاقيّ، تكذب الإدانة اللّفظيّة والتّهديدات الجوفاء، ليأتي الردّ على العمليّة الإسرائيليّة بنهش من لا يطابق موقفه مواقفنا، فينطبق علينا قول الإمام الشّافعي:

نعيب زماننا والعيب فينا         وما لزماننا عيبٌ سوانا

ونهجو ذا الزّمان بغير ذنبٍ         ولو نطق الزّمان لنا هجانا

وليس الذّئب يأكل لحم ذئبٍ      ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

يقول السيّد محمد حسين فضل الله(رحمه الله) عن هذه الحال، إنّه عندما يملأ الحقد قلب الإنسان ضدَّ الآخر، يحاول أن يعبّر عن نفسه بكلّ الكلمات الّتي توحي بالحالة النفسيّة المعقَّدة، لأنّ الإنسان في عصبيّته الشّخصيّة أو الدينيّة أو القوميّة أو العرقيّة أو المذهبيّة أو الحزبيّة، هو إنسان يعيش حال طوارئ شعوريّة مضادّة، بحيث تتحرك الغريزة، ويأخذ العقل خلال ذلك إجازة، فيبدو كأنه تعطّل من العمل، ونحن نعلم أنّ الغرائز لا ضوابط لها، والأسلوب الّذي يتبعه الناس غالباً في التنفيس عن هذه العقدة، سواء في داخل المجتمع المؤمن الصغير، أو في المجتمع المؤمن الكبير، أو في داخل المجتمعات المتمايزة في خطوطها الحزبيّة والطائفيّة والقوميّة والإقليميّة، هو السبّ.

فالسبّ، في رأيه، هو الوسيلة التعبيريّة عن النفسيّة التي ترفض الآخر، وعن الحالة العصبيَّة الّتي تتحرّك بذهنيّة تدمير الآخر. يمثّل السبّ وسيلةً تدميريّةً للذّات في المعنى، تماماً كما أنّ الضّرب يمثّل وسيلةً تدميريّةً للإنسان في الجسم، وربما يكون السبّ هو المقدّمة للضَّرب والقتل وما إلى ذلك، عندما يوحي بالتشنّج الّذي فيه ينتهي إلى حالة حادَّة.

أمَّا الخط الإسلاميّ في التَّعامل مع هذه الحالة، أي في الكلمات الّتي ينبغي للإنسان المسلم أن يخاطب بها الآخر، أيّاً كان، فهو الكلمة الأحسن: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

يضيف فضل الله: "حول السبّ في داخل المجتمع المسلم المؤمن، نقرأ عن الرسول: "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر"، و"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، فمن لم يسلم المسلمون من يده ولسانه، فليس بمسلم في المعنى، وإن كان مسلماً في الشّكل.

فقد سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام، عندما كان يعدّ العدّة للحرب في صفّين مع معاوية، ونحن نعرف أنَّ القيادات العسكريّة ترتاح لما يقوم به جنودها بالسبّ والشّتم، لأنَّ ذلك يقوّي إحساسهم بالعداوة، بالمستوى الّذي يجعلهم أقوى في المواجهة، ولكنَّ عليّاً لم يكن محارباً يريد أن ينتصر في الحرب، بل كان رساليّاً يريد أن ينتصر على صعيد الرّسالة، حتى لو كان ذلك على حساب النتيجة في الحرب.

فالشّتيمة عندما تصدر عن شخص، فإنها تهين صاحبها، فهي أسلوب غير إنسانيّ، بل أسلوب حقير ووضيع، فإذا تركت شاتمك وشتيمته، فإنّك ترضي الرّحمن، وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوّك، لأنَّ عدوَّك يريد أن يثيرك لتكون مثله، تردّ الشّتيمة بشتيمة، ويريد أن يفرض عليك معركةً ليس من المفروض أن تدخلها، ولكنَّك عندما تسكت، وهو يعرف أنك قادر على أن تردّ الشتيمة بمثلها، عند ذلك، سوف تشعر بأنّك عاقبته".

ويتحدَّث فضل الله عن أسلوب السبّ في الواقع الاجتماعيّ، وذلك من أجل السَّلامة الاجتماعيَّة، وأن تنفتح على الأسلوب الأفضل الّذي يمكن أن يفتح لك قلوب النّاس بدلاً من أن يغلقها، لأنّك لو سببت إنساناً من الصَّباح إلى المساء، فإنَّك لا تستطيع أن تقنعه بخطئه وبصوابك، بل إنّك بذلك تزيده تعصّباً، وتزيده حقداً، وتمنعه من الاستماع إليك مستقبلاً، عندما تريد أن تناقشه في ذلك، وهذا ما نعيشه في واقعنا الإسلاميّ.

يعود كلام فضل الله هذا إلى العام 2000. ولعلَّه سمع في حلقات اجتماعيَّة منذ ذلك الحين، ما نقرأه اليوم عبر وسائل الاتصال الاجتماعيّ. خطورة هذا التحذير، أنَّ البيئة الحاضنة لم تنشأ بين ليلةٍ وضحاها، بل تربَّت وتغذَّت وتعلَّمت فنون الباطنيّة الاجتماعيّة والفكريّة، لتطلق غرائزيتها الموجَّهة عندما يصبح الاستثمار المذهبيّ مطلوباً.

كلّنا نعرف أنَّ ردود الفعل على هذه البيئة الحاضنة الّتي تصاعدت بالتّدريج، وصولاً إلى التّدهور الأخلاقيّ الحاليّ الشّامل كلّ أطياف المجتمع اللّبناني، لم تعد تراعي لياقات أو حسابات، فانفلت الحقد بين النّاس على غاربه، وأصبحت المزايدات لدى الشَّامتين والشتّامين علامة عافية على مدى الالتزام لهذا الفريق أو ذاك.

جريدة النّهار اللبنانيّة


اللبنانيّون في أسفل سافلين. مستقبلهم مجهول، وحاضرهم مهدَّد بالانفجار، بين محاولات "داعشيّة" بإعلان إمارة إسلاميّة في منطقة عرسال وجرودها، وما كشفته مصادر ديبلوماسيّة غربيّة ودوليّة، من أنَّ إسرائيل بعثت بتحذيرٍ شديد اللّهجة بالردّ في لبنان على كلّ هجومٍ يستهدف مؤسَّسات إسرائيليَّة في خارج إسرائيل أو في داخلها.

اللبنانيّون، إضافةً إلى هذا الهمّ، مهدَّدون، سواء بسبب التردّي الاقتصاديّ، أو الفوضى الأمنيّة الضّاربة أطنابها في الشَّوارع والحارات، فهم إذا تمكّنوا من تأمين لقمة عيشهم، لا يأمنون الاحتفاظ بها، وعدم تعرّضها للسّرقة، كما أنهم لدى تناولها، يغصّون ألف غصّة خوفاً من التلوّث والفساد.

واللّبنانيّون غافلون عن المصائب السّوداء الّتي يرزحون تحتها، مستغرقون في لذّة الشّتم والشّماتة بعضهم بالبعض الآخر، أو بغيرهم، كأنهم بذلك يهربون من خيباتهم وهواجسهم، ويفشّون خلقهم في من لا علاقة له بمصدر خوفهم ومصائبهم.

الكلّ يعلم أنَّ اسرائيل هي المسؤولة عن اغتيال عناصر من الحزب والحرس الثّوري الإيرانيّ، وكلّنا نتبجّح بأنّنا ندين إسرائيل، لكنَّ البواطن العاطلة الّتي انطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، تبيّن أنَّ نسبة الشّتم والشّماتة والانحدار الأخلاقيّ، تكذب الإدانة اللّفظيّة والتّهديدات الجوفاء، ليأتي الردّ على العمليّة الإسرائيليّة بنهش من لا يطابق موقفه مواقفنا، فينطبق علينا قول الإمام الشّافعي:

نعيب زماننا والعيب فينا         وما لزماننا عيبٌ سوانا

ونهجو ذا الزّمان بغير ذنبٍ         ولو نطق الزّمان لنا هجانا

وليس الذّئب يأكل لحم ذئبٍ      ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

يقول السيّد محمد حسين فضل الله(رحمه الله) عن هذه الحال، إنّه عندما يملأ الحقد قلب الإنسان ضدَّ الآخر، يحاول أن يعبّر عن نفسه بكلّ الكلمات الّتي توحي بالحالة النفسيّة المعقَّدة، لأنّ الإنسان في عصبيّته الشّخصيّة أو الدينيّة أو القوميّة أو العرقيّة أو المذهبيّة أو الحزبيّة، هو إنسان يعيش حال طوارئ شعوريّة مضادّة، بحيث تتحرك الغريزة، ويأخذ العقل خلال ذلك إجازة، فيبدو كأنه تعطّل من العمل، ونحن نعلم أنّ الغرائز لا ضوابط لها، والأسلوب الّذي يتبعه الناس غالباً في التنفيس عن هذه العقدة، سواء في داخل المجتمع المؤمن الصغير، أو في المجتمع المؤمن الكبير، أو في داخل المجتمعات المتمايزة في خطوطها الحزبيّة والطائفيّة والقوميّة والإقليميّة، هو السبّ.

فالسبّ، في رأيه، هو الوسيلة التعبيريّة عن النفسيّة التي ترفض الآخر، وعن الحالة العصبيَّة الّتي تتحرّك بذهنيّة تدمير الآخر. يمثّل السبّ وسيلةً تدميريّةً للذّات في المعنى، تماماً كما أنّ الضّرب يمثّل وسيلةً تدميريّةً للإنسان في الجسم، وربما يكون السبّ هو المقدّمة للضَّرب والقتل وما إلى ذلك، عندما يوحي بالتشنّج الّذي فيه ينتهي إلى حالة حادَّة.

أمَّا الخط الإسلاميّ في التَّعامل مع هذه الحالة، أي في الكلمات الّتي ينبغي للإنسان المسلم أن يخاطب بها الآخر، أيّاً كان، فهو الكلمة الأحسن: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

يضيف فضل الله: "حول السبّ في داخل المجتمع المسلم المؤمن، نقرأ عن الرسول: "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر"، و"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، فمن لم يسلم المسلمون من يده ولسانه، فليس بمسلم في المعنى، وإن كان مسلماً في الشّكل.

فقد سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام، عندما كان يعدّ العدّة للحرب في صفّين مع معاوية، ونحن نعرف أنَّ القيادات العسكريّة ترتاح لما يقوم به جنودها بالسبّ والشّتم، لأنَّ ذلك يقوّي إحساسهم بالعداوة، بالمستوى الّذي يجعلهم أقوى في المواجهة، ولكنَّ عليّاً لم يكن محارباً يريد أن ينتصر في الحرب، بل كان رساليّاً يريد أن ينتصر على صعيد الرّسالة، حتى لو كان ذلك على حساب النتيجة في الحرب.

فالشّتيمة عندما تصدر عن شخص، فإنها تهين صاحبها، فهي أسلوب غير إنسانيّ، بل أسلوب حقير ووضيع، فإذا تركت شاتمك وشتيمته، فإنّك ترضي الرّحمن، وتسخط الشيطان، وتعاقب عدوّك، لأنَّ عدوَّك يريد أن يثيرك لتكون مثله، تردّ الشّتيمة بشتيمة، ويريد أن يفرض عليك معركةً ليس من المفروض أن تدخلها، ولكنَّك عندما تسكت، وهو يعرف أنك قادر على أن تردّ الشتيمة بمثلها، عند ذلك، سوف تشعر بأنّك عاقبته".

ويتحدَّث فضل الله عن أسلوب السبّ في الواقع الاجتماعيّ، وذلك من أجل السَّلامة الاجتماعيَّة، وأن تنفتح على الأسلوب الأفضل الّذي يمكن أن يفتح لك قلوب النّاس بدلاً من أن يغلقها، لأنّك لو سببت إنساناً من الصَّباح إلى المساء، فإنَّك لا تستطيع أن تقنعه بخطئه وبصوابك، بل إنّك بذلك تزيده تعصّباً، وتزيده حقداً، وتمنعه من الاستماع إليك مستقبلاً، عندما تريد أن تناقشه في ذلك، وهذا ما نعيشه في واقعنا الإسلاميّ.

يعود كلام فضل الله هذا إلى العام 2000. ولعلَّه سمع في حلقات اجتماعيَّة منذ ذلك الحين، ما نقرأه اليوم عبر وسائل الاتصال الاجتماعيّ. خطورة هذا التحذير، أنَّ البيئة الحاضنة لم تنشأ بين ليلةٍ وضحاها، بل تربَّت وتغذَّت وتعلَّمت فنون الباطنيّة الاجتماعيّة والفكريّة، لتطلق غرائزيتها الموجَّهة عندما يصبح الاستثمار المذهبيّ مطلوباً.

كلّنا نعرف أنَّ ردود الفعل على هذه البيئة الحاضنة الّتي تصاعدت بالتّدريج، وصولاً إلى التّدهور الأخلاقيّ الحاليّ الشّامل كلّ أطياف المجتمع اللّبناني، لم تعد تراعي لياقات أو حسابات، فانفلت الحقد بين النّاس على غاربه، وأصبحت المزايدات لدى الشَّامتين والشتّامين علامة عافية على مدى الالتزام لهذا الفريق أو ذاك.

جريدة النّهار اللبنانيّة

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية