مختارات
19/01/2015

مرتكزات تربية الطّفل

مرتكزات تربية الطّفل

تقوم العمليَّة التربويَّة على جملةٍ من المرتكزات الأساسيَّة الَّتي تمثِّل جوهر هذه العمليَّة وروحها، كما ترسم لها الإطار الّذي لا بدَّ من أن تتحرَّك فيه. وفيما يلي، نشير إلى اثنين من هذه المرتكزات، تحت عنوان "ثالوث الشَّخصيَّة الإنسانيَّة"، و"بين المبادئ والوسائل".

عوامل التّربية

ثمّة عوامل وعناصر عديدة تصقل شخصيَّة الطّفل، وتترك بصماتها على تفكيره وعاطفته وسلوكه، فيجدر، بل يفترض بالعمليَّة التربويَّة أن تعي هذه العناصر جيّداً، وأهمّ هذه العوامل ثلاثة:

1 ـ العامل الوراثيّ.

2 ـ العامل الاجتماعيّ.

3 ـ العامل التّربويّ الثّقافيّ.

وقد اعتنى الإسلام بهذه العناصر، ونبَّه إلى أهمّيّتها ودورها في تحديد مصير الإنسان، وقدَّم توجيهاته بصدد كلِّ واحدٍ منها.

فعلى مستوى العنصر الوراثيّ، لم يعد خافياً أنَّ الخصائص التكوينيَّة، سواء الذهنيَّة، أو العقليَّة، أو الجسديَّة، لدى الأبوين، مرشَّحة للانتقال إلى ولدهما، ما يدعو إلى ضرورة أخذ ذلك بعين الاعتبار، إذ ربما يؤدِّي تجاهل هذا الأمر إلى نتائج غير محمودة فيما يرتبط بصحَّة الطفل الجسديّة أو النفسيّة. وفي هذا الصَّدد، يؤكِّد الإسلام أهميَّة اختيار الشَّريك الآخر، والاعتناء بخصاله الخُلقيّة والخَلقيّة والعقليَّة، لأنّ العرق دسّاس، كما ورد في الحديث عن النبيّ(ص)[1]، وفي حديثٍ آخر عنه(ص): "اختاروا لنطفكم، فإنَّ الخال أحد الضّجيعين"[2].

وإدراكاً منه لدور العامل الوراثيّ، وتأثيره المباشر في تكوين الطّفل، فقد اهتمّ الإسلام أيضاً بالمرضعة التي تغذّيه باللّبن، فإنَّ حليب المرأة، كما يؤكِّد المختصّون، يترك أثراً بيّناً في الطّفل وفي بنائه الجسديّ والرّوحيّ والعقليّ، ولذا جاء في الحديث الشّريف: "انظروامن تُرْضِعُ أولادكم، فإنَّ الولد يشبّ عليه"[3]، وعنه(ص): "لا تسترضعوا الحمقاء، فإنَّ اللّبن يغلب الطّباع"[4]، ولنا عودة إلى موضوع الرِّضاع لاحقاً.

وأمَّا فيما خصَّ العنصر الثّاني، فمن الواضح أنَّ للبيئة الاجتماعيّة الّتي يعيش فيها الإنسان، دوراً كبيراً في صياغة شخصيَّته وبنائه الفكريّ والروحيّ. واهتمام الإسلام بالعامل الاجتماعيّ، لا يقصر عن اهتمامه بالعامل الوراثيّ، بل يزيد عليه، لأنَّ تأثير المحيط الاجتماعيّ ـ ابتداءً من الأسرة إلى الرّفقة ـ في الإنسان، بيِّن وبالغ، وهو يسهم إلى حدٍّ كبير في تحديد مصيره، ورسم مستقبله، إنْ خيراً أو شرّاً.

وهكذا، وبوتيرةٍ أعلى، يزداد اهتمام الإسلام بالعامل الثّالث، وهو العامل التّربويّ، ولذا، تكثر التعاليم الدّاعية إلى ضرورة تأمين الفضاء التربويّ الملائم لإعداد الطّفل تربويّاً وروحيّاً.

دور الأسرة في رعاية الطّفل

بالعودة إلى العامل الثّاني، فإنَّنا لا نبالغ بالقول: إنَّ المسؤوليّة الأساس عن توفير البيئة الصّالحة والفضاء الاجتماعي الملائم لتربية الطفل، تقع على عاتق الأسرة، التي عليها أن تبقى في حالة استنفار مستمرّة، في سبيل توفير أفضل شروط التربية والرّعاية، ويأتي على رأس ذلك: الاهتمام بأصدقائه وصحابته، لا ليفرض الأهل عليه الأصدقاء فرضاً، أو يختاروا له الرفقاء، بل ليقوموا بدور النّاصح الأمين في هذا المجال، فيحذّروه  من أصدقاء السّوء، ويوجّهوه ويرشدوه إلى اختيار من تنفعه صداقته، لأنَّ رفيق السّوء يعدي، كما أنَّ مرافقة الطيّبين تكسب المرء طيبةً، وهكذا، يجدر بهم الاهتمام بمدرسة الطّفل وأساتذته، وكلّ من يتعهَّدون تربيته وتعليمه، لأنَّ المدرسة قد تترك بصماتها على عقل الطّفل وعواطفه وسلوكه، أكثر ممّا تتركه الأسرة.

إنَّ الإسلام يعتبر أنَّ دور الأسرة في رعاية الطّفل أساسيّ في العملية التربويَّة، خلافاً لبعض الأفكار أو الممارسات الغربيّة، الّتي قد تتعامل مع الطفل وكأنّه فرد مستقلّ عن الأسرة، الأمر الَّذي يلغي دور الأبوين في حياة الأطفال أو يهمّشه. إنّ هذه الأفكار هدّامة ومدمّرة للإنسان والإنسانيّة، ولذا، غدونا نشهد تنامياً في الغرب نفسه، للأصوات المنادية بتفعيل دور الأسرة، والعودة إلى حضن الأبوين الدّافئ، بعد أن ذاق النّاس هناك الويلات من موجة التفلّت من الأسرة والخروج عليها.

التّربية بين المبادئ والوسائل

إنّ الإسلام يؤكّد أنَّ خير ميراثٍ يمكن أن يتركه الأهل لأبنائهم، هو ميراث الأدب، لا المال أو القصور والعقارات. ففي الحديث عن الإمام الصَّادق(ع): "إنَّ خير ما ورَّث الآباء لأبنائهم، الأدب لا المال، فإنَّ المال يذهب، والأدب يبقى"[5].

لكنَّ السّؤال الجوهريّ في هذا المقام، يرتبط بتحديد المقصود من الآداب، وهل هي ثابتة ومطلقة، أو متحرِّكة ونسبيّة!؟

يبدو أنّ مصطلح الآداب لا يرادف مصطلح الأخلاق، ولكنَّه يتَّسع له، وذلك أنّه ـ أي مصطلح الآداب ـ في جانب منه، يمثّل الثّبات والإطلاق، وذلك بلحاظ ما يختزنه من معنى الأخلاق الَّتي تتّسم بالثّبات، ولكنّه في جانبه الآخر، يمثّل المرونة والحركيَّة، بلحاظ أنَّ الآداب تختزن وتمثِّل مرونة الأسلوب في تجسيد القيم الأخلاقيّة وتطبيقها.

ولذا، فإنَّنا نجد في النّصوص الإسلاميَّة ما يشير إلى عنصري الثبات والمرونة في الآداب، فبينما نجد أنَّ رسول الله(ص) ـ فيما روي عنه ـ يأمر صاحبه معاذ عند إرساله إلى اليمن، بأنْ يؤدِّب النّاس على الأخلاق كقيمٍ مطلقة، قائلاً له: "يا معاذ، علِّمهم كتاب الله، وأحسن أدبهم على الأخلاق الفاضلة"[6]، نجد في المقابل، أنَّ عليّاً(ع) يشير إلى مرونة الآداب وحركيّتها في قوله(ع): "لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنّهم مخلوقون لزمان غيرزمانكم"[7]، وهذه الجملة من كلام عليّ(ع)، تمثّل قاعدةً هامّةً تحتاج إلى مزيدٍ من البيان والتَّوضيح، لأنّها تركِّز على ضرورة مراعاة الزَّمان والمكان، كعنصرٍ هامّ وشرطٍ لازم لنجاح العمليَّة التربويَّة، ووصولها إلى أهدافها، والسّؤال: كيف نفهم ذلك؟ وهل إنّ لتغيّر الزّمان، وتبدّل المكان، تأثيراً في الفكر التربويّ، أم في وسائل التربية وآليّاتها؟

يمكن القول: إنَّ المسألة التربويّة تتَّسم بالثبات والمرونة في الآن نفسه، فهي على مستوى الوسائل، تعتبر عمليّةً متحرّكةً متجدِّدة، لا تحكمها الكثير من القوالب الثّابتة والأطر الجامدة، وأمَّا على مستوى المبادئ، فإنّها ثابتة ومطلقة، ولا تخضع لتغيّر الزّمان واختلاف المكان.

إنَّ ما نقصده بالمبادئ: الضَّوابط والأُسس الَّتي تهدف إلى صناعة الإنسان وبنائه معرفيّاً وروحيّاً وجسديّاً، ليتمكّن من النهوض بمسؤوليّاته تجاه ربّه ونفسه ومجتمعه. ويدخل في هذا الإطار، المنظومة الأخلاقيّة والأصول العقائديّة، مع ما يستتبع ذلك من التزام واستقامة عمليّة على جادة الشَّريعة. أمّا الوسائل، فهي الأمور المتحرّكة، ممّا يتّصل بالعادات والتقاليد الاجتماعيّة التي قد تختلف من مجتمعٍ إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، وتتبع ثقافة المجتمع وبيئته وتراثه، وهكذا كلّ ما يتَّصل بالآليّات العملانيّة الّتي تستهدف تحريك تلك المبادئ الثّابتة، وإنزالها إلى أرض الواقع، والاستعانة بكلِّ الأساليب الحديثة في مجال التّخاطب والتّفاهم ونقل الأفكار.

والأمر الفارق بين المبادئ والوسائل، يكمن في أنَّ كلَّ ما تستدعيه وتفرضه الميول الفطريّة والنزعات المتأصّلة في النفس الإنسانيّة، أو على الأقلّ، ما يحاكي تلك الميول والنزعات، هو من سنخ المبادئ الثابتة، وأمّا ما تستدعيه الميول غير المتأصِّلة، أو ما يرتبط بها، فهو من سنخ الوسائل. باختصار: إنّ المبادئ تلامس الجوهر والعمق، ولذا كانت ثابتةً بثباته، بينما الوسائل تلامس الشّكل والظّاهر، ولذا كانت متغيّرةً بتغيّره ونسبيّته.

باتّضاح ذلك، يغدو من البديهيّ أن تُميِّز العمليّة التربويّة بين المبادئ والوسائل، وأن تبني برامجها وخططها التربويّة على هذا الأساس، ففي الوقت الَّذي يكون التشدُّد النّسبيّ في مجال تربية الأطفال على المبادئ، وحملهم عليها، أمراً مبرّراً ومفهوماً، شريطة مراعاة أسلوب الحكمة والمرونة في التّطبيق، فإنّ المجال واسع ورحب بالنّسبة إلى الوسائل، والتساهل والمرونة هما سيِّدا الموقف فيها، بل إنَّ التشدُّد في هذا المجال، لا مبرِّر له في كثيرٍ من الحالات، وربّما لامس حدَّ الخطيئة التربوية، فعلى سبيل المثال: إنَّ ما يفعله الكثير من الآباء أو الأمّهات، من محاولات فرض عاداتهم وتقاليدهم، ونقلها إلى الأبناء، ليكون الولد نسخةً عن جدّه وأبيه، أو جدّته وأُمّه، فيما يرتبط بتقاليد اللّباس والأزياء، وطريقة السكن، أو الأكل والشرب، أو غيرها من العادات، أمرٌ خاطئ، ولا مبرّر له شرعاً وعقلاً، ولن يكلّل بالنّجاح، ومن يفعل ذلك، فكأنما يريد لعجلة الحياة أن تتوقَّف عن الحركة، الأمر الَّذي لن يحصل أبداً.

ويبلغ الخطأ التربويّ مداه عند بعض الناس ـ آباءً وأُمّهات ـ ممّن يسعى إلى استنساخ نفسه عبر ابنه، كأنّما يريد لابنه أن يتقمَّص شخصيّته، فيطلب منه أن يختار تخصّصه العلمي نفسه، أو يمارس هواياته نفسها، وأن يفكِّر كما يفكّر، أو أن يضاهيه ويماثله في كلِّ تصرّفاته، بما في ذلك تسريحة شعره وطريقة مشيه! ومع الأسف، فإنَّ الحرص المذكور يقتصر على الجوانب الشّكليّة، ولا يلامس المبادئ الجوهريّة، ويكون باعثه الأساسيّ حفظ سمعة الأبوين، خشية الاتهام بتجاوز التّقليد الاجتماعيّ، وليس باعثه أبداً مراعاة مصلحة الولد.

إنَّ القاعدة الآنفة، أعني ضرورة التَّمييز بين المبادئ والوسائل، ومراعاة الزّمان والمكان، تنسجم كامل الانسجام مع طبيعة الشَّريعة الإسلاميَّة وخاتميَّتها ووسطيَّتها، وهي تستفاد بصراحة ووضوح من كلام أمير المؤمنين(ع) المتقدِّم: "لا تقسروا أولادكم علىآدابكم، فإنَّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم"[8]، فإنَّ مصطلح الآداب في كلامه(ع)، يراد به ما يدخل في إطار العادات والتّقاليد المتحركة والمتغيّرة، ولا يراد به ما يرادف الأخلاق، كما أسلفنا.


[1]  كنز العمال: 15/885.

[2]  مكارم الأخلاق: 297، الكافي: 5/332.

[3]  الكافي: 6/43.

[4]  المصدر نفسه: 6/43.

[5]  الكافي: 8/232.

[6]  تحف العقول: ص 25.

[7]  شرح نهج البلاغة: 20/267.

[8] المصدر نفسه، 2/276.


تقوم العمليَّة التربويَّة على جملةٍ من المرتكزات الأساسيَّة الَّتي تمثِّل جوهر هذه العمليَّة وروحها، كما ترسم لها الإطار الّذي لا بدَّ من أن تتحرَّك فيه. وفيما يلي، نشير إلى اثنين من هذه المرتكزات، تحت عنوان "ثالوث الشَّخصيَّة الإنسانيَّة"، و"بين المبادئ والوسائل".

عوامل التّربية

ثمّة عوامل وعناصر عديدة تصقل شخصيَّة الطّفل، وتترك بصماتها على تفكيره وعاطفته وسلوكه، فيجدر، بل يفترض بالعمليَّة التربويَّة أن تعي هذه العناصر جيّداً، وأهمّ هذه العوامل ثلاثة:

1 ـ العامل الوراثيّ.

2 ـ العامل الاجتماعيّ.

3 ـ العامل التّربويّ الثّقافيّ.

وقد اعتنى الإسلام بهذه العناصر، ونبَّه إلى أهمّيّتها ودورها في تحديد مصير الإنسان، وقدَّم توجيهاته بصدد كلِّ واحدٍ منها.

فعلى مستوى العنصر الوراثيّ، لم يعد خافياً أنَّ الخصائص التكوينيَّة، سواء الذهنيَّة، أو العقليَّة، أو الجسديَّة، لدى الأبوين، مرشَّحة للانتقال إلى ولدهما، ما يدعو إلى ضرورة أخذ ذلك بعين الاعتبار، إذ ربما يؤدِّي تجاهل هذا الأمر إلى نتائج غير محمودة فيما يرتبط بصحَّة الطفل الجسديّة أو النفسيّة. وفي هذا الصَّدد، يؤكِّد الإسلام أهميَّة اختيار الشَّريك الآخر، والاعتناء بخصاله الخُلقيّة والخَلقيّة والعقليَّة، لأنّ العرق دسّاس، كما ورد في الحديث عن النبيّ(ص)[1]، وفي حديثٍ آخر عنه(ص): "اختاروا لنطفكم، فإنَّ الخال أحد الضّجيعين"[2].

وإدراكاً منه لدور العامل الوراثيّ، وتأثيره المباشر في تكوين الطّفل، فقد اهتمّ الإسلام أيضاً بالمرضعة التي تغذّيه باللّبن، فإنَّ حليب المرأة، كما يؤكِّد المختصّون، يترك أثراً بيّناً في الطّفل وفي بنائه الجسديّ والرّوحيّ والعقليّ، ولذا جاء في الحديث الشّريف: "انظروامن تُرْضِعُ أولادكم، فإنَّ الولد يشبّ عليه"[3]، وعنه(ص): "لا تسترضعوا الحمقاء، فإنَّ اللّبن يغلب الطّباع"[4]، ولنا عودة إلى موضوع الرِّضاع لاحقاً.

وأمَّا فيما خصَّ العنصر الثّاني، فمن الواضح أنَّ للبيئة الاجتماعيّة الّتي يعيش فيها الإنسان، دوراً كبيراً في صياغة شخصيَّته وبنائه الفكريّ والروحيّ. واهتمام الإسلام بالعامل الاجتماعيّ، لا يقصر عن اهتمامه بالعامل الوراثيّ، بل يزيد عليه، لأنَّ تأثير المحيط الاجتماعيّ ـ ابتداءً من الأسرة إلى الرّفقة ـ في الإنسان، بيِّن وبالغ، وهو يسهم إلى حدٍّ كبير في تحديد مصيره، ورسم مستقبله، إنْ خيراً أو شرّاً.

وهكذا، وبوتيرةٍ أعلى، يزداد اهتمام الإسلام بالعامل الثّالث، وهو العامل التّربويّ، ولذا، تكثر التعاليم الدّاعية إلى ضرورة تأمين الفضاء التربويّ الملائم لإعداد الطّفل تربويّاً وروحيّاً.

دور الأسرة في رعاية الطّفل

بالعودة إلى العامل الثّاني، فإنَّنا لا نبالغ بالقول: إنَّ المسؤوليّة الأساس عن توفير البيئة الصّالحة والفضاء الاجتماعي الملائم لتربية الطفل، تقع على عاتق الأسرة، التي عليها أن تبقى في حالة استنفار مستمرّة، في سبيل توفير أفضل شروط التربية والرّعاية، ويأتي على رأس ذلك: الاهتمام بأصدقائه وصحابته، لا ليفرض الأهل عليه الأصدقاء فرضاً، أو يختاروا له الرفقاء، بل ليقوموا بدور النّاصح الأمين في هذا المجال، فيحذّروه  من أصدقاء السّوء، ويوجّهوه ويرشدوه إلى اختيار من تنفعه صداقته، لأنَّ رفيق السّوء يعدي، كما أنَّ مرافقة الطيّبين تكسب المرء طيبةً، وهكذا، يجدر بهم الاهتمام بمدرسة الطّفل وأساتذته، وكلّ من يتعهَّدون تربيته وتعليمه، لأنَّ المدرسة قد تترك بصماتها على عقل الطّفل وعواطفه وسلوكه، أكثر ممّا تتركه الأسرة.

إنَّ الإسلام يعتبر أنَّ دور الأسرة في رعاية الطّفل أساسيّ في العملية التربويَّة، خلافاً لبعض الأفكار أو الممارسات الغربيّة، الّتي قد تتعامل مع الطفل وكأنّه فرد مستقلّ عن الأسرة، الأمر الَّذي يلغي دور الأبوين في حياة الأطفال أو يهمّشه. إنّ هذه الأفكار هدّامة ومدمّرة للإنسان والإنسانيّة، ولذا، غدونا نشهد تنامياً في الغرب نفسه، للأصوات المنادية بتفعيل دور الأسرة، والعودة إلى حضن الأبوين الدّافئ، بعد أن ذاق النّاس هناك الويلات من موجة التفلّت من الأسرة والخروج عليها.

التّربية بين المبادئ والوسائل

إنّ الإسلام يؤكّد أنَّ خير ميراثٍ يمكن أن يتركه الأهل لأبنائهم، هو ميراث الأدب، لا المال أو القصور والعقارات. ففي الحديث عن الإمام الصَّادق(ع): "إنَّ خير ما ورَّث الآباء لأبنائهم، الأدب لا المال، فإنَّ المال يذهب، والأدب يبقى"[5].

لكنَّ السّؤال الجوهريّ في هذا المقام، يرتبط بتحديد المقصود من الآداب، وهل هي ثابتة ومطلقة، أو متحرِّكة ونسبيّة!؟

يبدو أنّ مصطلح الآداب لا يرادف مصطلح الأخلاق، ولكنَّه يتَّسع له، وذلك أنّه ـ أي مصطلح الآداب ـ في جانب منه، يمثّل الثّبات والإطلاق، وذلك بلحاظ ما يختزنه من معنى الأخلاق الَّتي تتّسم بالثّبات، ولكنّه في جانبه الآخر، يمثّل المرونة والحركيَّة، بلحاظ أنَّ الآداب تختزن وتمثِّل مرونة الأسلوب في تجسيد القيم الأخلاقيّة وتطبيقها.

ولذا، فإنَّنا نجد في النّصوص الإسلاميَّة ما يشير إلى عنصري الثبات والمرونة في الآداب، فبينما نجد أنَّ رسول الله(ص) ـ فيما روي عنه ـ يأمر صاحبه معاذ عند إرساله إلى اليمن، بأنْ يؤدِّب النّاس على الأخلاق كقيمٍ مطلقة، قائلاً له: "يا معاذ، علِّمهم كتاب الله، وأحسن أدبهم على الأخلاق الفاضلة"[6]، نجد في المقابل، أنَّ عليّاً(ع) يشير إلى مرونة الآداب وحركيّتها في قوله(ع): "لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنّهم مخلوقون لزمان غيرزمانكم"[7]، وهذه الجملة من كلام عليّ(ع)، تمثّل قاعدةً هامّةً تحتاج إلى مزيدٍ من البيان والتَّوضيح، لأنّها تركِّز على ضرورة مراعاة الزَّمان والمكان، كعنصرٍ هامّ وشرطٍ لازم لنجاح العمليَّة التربويَّة، ووصولها إلى أهدافها، والسّؤال: كيف نفهم ذلك؟ وهل إنّ لتغيّر الزّمان، وتبدّل المكان، تأثيراً في الفكر التربويّ، أم في وسائل التربية وآليّاتها؟

يمكن القول: إنَّ المسألة التربويّة تتَّسم بالثبات والمرونة في الآن نفسه، فهي على مستوى الوسائل، تعتبر عمليّةً متحرّكةً متجدِّدة، لا تحكمها الكثير من القوالب الثّابتة والأطر الجامدة، وأمَّا على مستوى المبادئ، فإنّها ثابتة ومطلقة، ولا تخضع لتغيّر الزّمان واختلاف المكان.

إنَّ ما نقصده بالمبادئ: الضَّوابط والأُسس الَّتي تهدف إلى صناعة الإنسان وبنائه معرفيّاً وروحيّاً وجسديّاً، ليتمكّن من النهوض بمسؤوليّاته تجاه ربّه ونفسه ومجتمعه. ويدخل في هذا الإطار، المنظومة الأخلاقيّة والأصول العقائديّة، مع ما يستتبع ذلك من التزام واستقامة عمليّة على جادة الشَّريعة. أمّا الوسائل، فهي الأمور المتحرّكة، ممّا يتّصل بالعادات والتقاليد الاجتماعيّة التي قد تختلف من مجتمعٍ إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، وتتبع ثقافة المجتمع وبيئته وتراثه، وهكذا كلّ ما يتَّصل بالآليّات العملانيّة الّتي تستهدف تحريك تلك المبادئ الثّابتة، وإنزالها إلى أرض الواقع، والاستعانة بكلِّ الأساليب الحديثة في مجال التّخاطب والتّفاهم ونقل الأفكار.

والأمر الفارق بين المبادئ والوسائل، يكمن في أنَّ كلَّ ما تستدعيه وتفرضه الميول الفطريّة والنزعات المتأصّلة في النفس الإنسانيّة، أو على الأقلّ، ما يحاكي تلك الميول والنزعات، هو من سنخ المبادئ الثابتة، وأمّا ما تستدعيه الميول غير المتأصِّلة، أو ما يرتبط بها، فهو من سنخ الوسائل. باختصار: إنّ المبادئ تلامس الجوهر والعمق، ولذا كانت ثابتةً بثباته، بينما الوسائل تلامس الشّكل والظّاهر، ولذا كانت متغيّرةً بتغيّره ونسبيّته.

باتّضاح ذلك، يغدو من البديهيّ أن تُميِّز العمليّة التربويّة بين المبادئ والوسائل، وأن تبني برامجها وخططها التربويّة على هذا الأساس، ففي الوقت الَّذي يكون التشدُّد النّسبيّ في مجال تربية الأطفال على المبادئ، وحملهم عليها، أمراً مبرّراً ومفهوماً، شريطة مراعاة أسلوب الحكمة والمرونة في التّطبيق، فإنّ المجال واسع ورحب بالنّسبة إلى الوسائل، والتساهل والمرونة هما سيِّدا الموقف فيها، بل إنَّ التشدُّد في هذا المجال، لا مبرِّر له في كثيرٍ من الحالات، وربّما لامس حدَّ الخطيئة التربوية، فعلى سبيل المثال: إنَّ ما يفعله الكثير من الآباء أو الأمّهات، من محاولات فرض عاداتهم وتقاليدهم، ونقلها إلى الأبناء، ليكون الولد نسخةً عن جدّه وأبيه، أو جدّته وأُمّه، فيما يرتبط بتقاليد اللّباس والأزياء، وطريقة السكن، أو الأكل والشرب، أو غيرها من العادات، أمرٌ خاطئ، ولا مبرّر له شرعاً وعقلاً، ولن يكلّل بالنّجاح، ومن يفعل ذلك، فكأنما يريد لعجلة الحياة أن تتوقَّف عن الحركة، الأمر الَّذي لن يحصل أبداً.

ويبلغ الخطأ التربويّ مداه عند بعض الناس ـ آباءً وأُمّهات ـ ممّن يسعى إلى استنساخ نفسه عبر ابنه، كأنّما يريد لابنه أن يتقمَّص شخصيّته، فيطلب منه أن يختار تخصّصه العلمي نفسه، أو يمارس هواياته نفسها، وأن يفكِّر كما يفكّر، أو أن يضاهيه ويماثله في كلِّ تصرّفاته، بما في ذلك تسريحة شعره وطريقة مشيه! ومع الأسف، فإنَّ الحرص المذكور يقتصر على الجوانب الشّكليّة، ولا يلامس المبادئ الجوهريّة، ويكون باعثه الأساسيّ حفظ سمعة الأبوين، خشية الاتهام بتجاوز التّقليد الاجتماعيّ، وليس باعثه أبداً مراعاة مصلحة الولد.

إنَّ القاعدة الآنفة، أعني ضرورة التَّمييز بين المبادئ والوسائل، ومراعاة الزّمان والمكان، تنسجم كامل الانسجام مع طبيعة الشَّريعة الإسلاميَّة وخاتميَّتها ووسطيَّتها، وهي تستفاد بصراحة ووضوح من كلام أمير المؤمنين(ع) المتقدِّم: "لا تقسروا أولادكم علىآدابكم، فإنَّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم"[8]، فإنَّ مصطلح الآداب في كلامه(ع)، يراد به ما يدخل في إطار العادات والتّقاليد المتحركة والمتغيّرة، ولا يراد به ما يرادف الأخلاق، كما أسلفنا.


[1]  كنز العمال: 15/885.

[2]  مكارم الأخلاق: 297، الكافي: 5/332.

[3]  الكافي: 6/43.

[4]  المصدر نفسه: 6/43.

[5]  الكافي: 8/232.

[6]  تحف العقول: ص 25.

[7]  شرح نهج البلاغة: 20/267.

[8] المصدر نفسه، 2/276.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية