في ذكرى مولد الرّسول(ص)، يطيب لي أن أطلّ على ما أعتقد أنّه جوهر رسالته(ص)، ألا وهو القيم الأخلاقيّة السّامية، الّتي دعا إلى إرسائها في المجتمع البشريّ، باعتبارها سفينة النّجاة للإنسان الغارق في الوحول، والبعيد عن القيم.
1 ـ الأزمة الأخلاقيّة
ولا نبالغ إذا قلنا، إنَّ مشكلة الإنسانيّة في جوهرها، كانت ولا تزال مشكلة أخلاق، لأنّه، وفي نظرة بسيطة إلى الأزمات والمشاكل الإنسانيّة المتنوّعة، السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، نجد أنّها ـ في العمق ـ تنطلق من اختلال الضَّوابط الأخلاقيّة أو فقدانها، فالوحشيّة غير المسبوقة التي نشهدها في أيامنا، والّتي تدفع الإنسان إلى افتراس أخيه الإنسان وذبحه، دون أن يرفَّ له جفن، هي تعبير عن هذه الأزمة الأخلاقيَّة، وكذلك التهتّك الّذي وصل إلى حدّ الفجور وشرعنة الشّذوذ، يعبّر هو الآخر عن أزمة أخلاق، وكذلك هو الحال في الأزمة الاقتصاديّة المتمثّلة بكلّ أشكال الجشع والطّمع والإثراء غير المشروع، هو في جوهره تعبير عن انعدام الإحساس لدى الإنسان... وهذه الأزمات الأخلاقيّة آخذة في التصاعد من زمنٍ إلى آخر.
ولا يخطئ من يطلق على زماننا هذا، أنّه زمان التلوّث الأخلاقي. وهذا النّوع من التلوّث أخطر بكثير من التلوّث الماديّ، فالتلوّث المادّيّ ـ على خطورته ـ يبقى أقلّ خطورةً من التلوّث الأخلاقيّ والرّوحيّ والفكريّ، لأنّه عندما تنعدم الأخلاق، فعلى الإنسانيّة السّلام. ولذا، أعتقد أنّه كما لدينا وزارة تعنى برصد التلوّث المادّيّ، ووضع البرامج والحلول والعلاجات المناسبة له، فإننا بحاجة ماسّة إلى وزارات تعنى برصد التلوّث الروحيّ والأخلاقيّ.
ومن هنا، ولأهميّة الأخلاق، ولأنها تمثّل الحجر الأساس في بناء الحياة الإنسانيّة، كان جوهر كلّ الرسالات السماويّة في بعدها الاجتماعيّ والإنسانيّ، هو الأخلاق، ولم يكن عبثاً أنّ الرسول الأكرم(ص) يختصر هدف بعثته ونبوّته بالقول: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق". وتستوقفنا هنا عبارة "أتمّم"، فهو لا يلغي ولا يهدم ما قبله، بل يتكامل معه.. وهكذا كانت التزّكية إحدى مهام النبيّ(ص)، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[1].
2- الأخلاق روح الدِّين
وقد رأى الإسلام أنَّ المشكلة الأخلاقيَّة هذه، لا حلَّ لها إلا بمنهج متكامل يرتكز على قاعدة أساسيّة، وهي قاعدة الإيمان بالله تعالى، فالإيمان بالله هو الركيزة والمرجعيّة الّتي ستضفي على الأخلاق فاعليّتها، وذلك من خلال هذا البعد الربّاني الّذي تضفيه عليها، حيث تغدو ممارسة الأخلاق عبادةً يتقرّب بها الإنسان إلى الله تعالى. وفي عقيدتنا، فإنّه لن يتسنّى لأيّ منظومة أخلاقيَّة أن تمنح الإنسان الاستقرار التامّ والشّامل، إلا بالارتكاز على قاعدة الإيمان بالله، ولذا، تكون عودة الإنسان ـ اليوم ـ إلى الله تعالى، شرطاً ضرورياً لاستقراره الاجتماعيّ والنّفسيّ والروحيّ.. والعلاقة السويّة بالله تعالى هي الّتي ستمنح هذا الإنسان الذي يعيش القلق والتوتر والتّشرذم، سلاماً داخليّاً، وسلاماً اجتماعيّاً.
هذا على مستوى النظريّة، وأمّا على مستوى الواقع الخارجيّ، فإنَّ ما يؤسف له، أنّ الدّين قد غدا عنصر توتّر وعامل خوف وقلق لدى كثيرين، بسبب تصرّفات بعض الجماعات المنتسبة إليه وممارساتها، والتي تحمل اسمه، ولكنَّها جاهلة بمقاصد الدّين، ومتشدّدة في تطبيقه، والحقيقة أنَّ هذا الواقع يؤكّد حاجتنا إلى منهج أخلاقيّ يعمل على أنسنة "الدّين" الذي صنعته هذه الجماعات لنفسها.
وفي ضوء هذا، وضع الإسلام منهجاً تربويّاً أخلاقيّاً متكاملاً، لا يقتصر على الوصايا والإرشادات الأخلاقيّة، بل إنَّ الرّوح الأخلاقيّة ـ طبقاً لهذا المنهج ـ سارية في كلّ المنظومة العقديّة والفقهيّة الّتي بني عليها الإسلام، وتوضيح ذلك:
إنَّ المعروف لدى علماء المسلمين، أنَّ المعارف الإسلاميّة، منها ما يتصل بالجانب النظريّ، وهو العقيدة، ومنها ما يتّصل بالجانب السلوكيّ، وهو الفقه والأخلاق، والّذي أراه أنّ الأخلاق ليست صنفاً مغايراً للعقيدة والشّريعة، بل لا تنفصل عن المعارف الإسلاميّة برمّتها، بما في ذلك المنظومتان العقديّة والفقهيّة، فالمنظومة الاعتقادية ترمي ـ في بعدٍ أساسيّ من أبعادها ـ إلى تزكية النفس وإصلاحها، فالإيمان بالله لا بدَّ من أن ينعكس على سلوكنا العملي، ومن هنا، ورد في الأحاديث الشّريفة: "لا إيمان لمن لا حياء له"[2]، أو "لا إيمان لمن لا أمانة له"[3]، أو "لا يؤمن بالله واليوم الآخر من لا يأمن جاره بوائقه"[4]، وورد أيضاً: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع"[5]، إلى غير ذلك من أمثال هذه التعبيرات الرائعة، الَّتي تعبّر عن واقعيّة الإيمان بالله تعالى، وتفاعليّة المؤمن مع الآخرين من بني الإنسان.
والإيمان في محكمة العدل الإلهيّ يوم القيامة، لا بدَّ من أن ينعكس ـ هو الآخر ـ على أخلاق الفرد المؤمن وتعامله مع الآخرين، بما يساهم في تشكيل محكمة داخليّة لديه، تمارس دور الرقابة والتنبيه والتوجيه، بما يسهِّل عليه الوقوف في محكمة العدل الإلهيّ يوم القيامة.
وكذلك الإيمان بالنّبيّ الأكرم(ص)، فإنّه ليس مجرّد عقيدة تجريديّة لا تمتّ إلى حياة الإنسان بصلة. كلاّ، فمحمّد(ص) ليس مجرّد طوباويّ ندّخره ليوم الخلاص الأخروي، بل هو مثل أعلى للإنسانيّة جمعاء، لا بدَّ من أن نتمثّله في أخلاقه وهديه، ونجسّد ذلك كلّه في حياتنا وسلوكنا.
باختصار، إنّ الربّانيّة هي أهمّ ميزة في الأخلاق الإسلاميّة، فالأخلاق لا يمكن فصلها عن الإيمان، والإيمان لا صدقيّة له بدون أخلاق، إنَّ بينهما رابطاً وثيقاً، ولا إيمان لمن لا أخلاق له، وقد ورد في الحديث عنه(ص): "الدّين النّصيحة"[6]، وعن عليّ(ع): "الإيمان أن تؤثر الصّدق حيث يضرّك، على الكذب حيث ينفعك"[7].
الفقه والأخلاق
وبالانتقال إلى المنظومة الفقهيّة، فإنّنا نعتقد أنّ الفقه أيضاً لا يمكن إبعاده عن الأخلاق، بل إنَّ الأخلاق هي روح الفقه وجوهره، كما هي روح العقيدة، ويفترض بالفقيه أن يأخذ البعد التربويّ والأخلاقيّ بنظر الاعتبار في عمله الفقهيّ الاجتهاديّ، حتى لا نكون ـ أحياناً ـ أمام فتاوى يغيب عنها البعد التربوي، وقد يستغرب الإنسان من النّمط الفقهيّ السائد، والذي يعمل على التفكيك بين الفقه والأخلاق، وهذا ما تعبّر عنه الكلمة التالية الَّتي تتردّد في ثنايا بعض البحوث الفقهيَّة: "إنَّ هذه المسألة أخلاقيّة، وليست فقهيّة!"، ما قد يعطيك انطباعاً مخادعاً، بأنّ الفقه هو مجرّد تعاليم جامدة لا تمتّ إلى الأخلاق بصلة. والحال أنَّ الأخلاق هي روح الفقه، كما قلنا، ولا سيَّما فيما يتصل منه بالعبادات، كالصَّلاة والصّوم.. فإنّها تهدف ـ فيما تهدف إليه ـ إلى تهذيب النّفوس وتزكيتها، بل إنَّ الأخلاق تدخل في فقه القتال، فالحرب على قساوتها وعنفها، لها في الإسلام أخلاقيّاتها، ولا يمكن تجريدها من القيم، وإلا لم تعد جهاداً في سبيل الله تعالى، بل عدواناً وإرهاباً. ومن هنا، كانت إحدى وصايا رسول الله(ص) للمقاتلين وقادة الجيش: "سيروا باسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله، لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبيّاً، ولا امرأةً، ولا تقطعوا شجرةً، إلاّ أن تضطرّوا إليها..."[8].
3- شموليّة الأخلاق
والحديث عن الميزة أو الخصوصيّة الربانيّة للأخلاق الإسلاميّة، يجرّني إلى الحديث عن خصوصيّة وميزة أخرى لها، وهي الشّموليّة، وشموليّة الأخلاق تعني:
أوّلاً: أن لا نجعل للأخلاق هويَّة دينيّة أو حزبيّة أو عشائريّة، فلا دين للأخلاق في الإسلام، بمعنى أنَّ على المسلم أن تكون الأخلاق صفةً ثابتةً وملازمةً له في تعامله مع الآخرين، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبيّة أو الدينيّة أو غيرها، فليس لدينا صدق إسلاميّ وآخر مسيحيّ.
باختصار، إنَّ الأخلاق لا تقبل التجزئة، ولذا، ندَّد القرآن الكريم ببني إسرائيل، لأنهم كانوا يرون أنَّ الأمانة، إنّما يجب حفظها ورعايتها، فيما لو كان صاحبها يهوديّاً، أمّا غير اليهود، فلا حرمة لأموالهم، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}[9]، والغريب أن ترى بعض من ينتسب إلى الإسلام في الظاهر، هو يهوديّ في سلوكه وأخلاقه، حيث يتعامل مع غير المسلمين، كتعامل اليهود مع سواهم!
إنَّ الحسن حسن مع كلّ النّاس، والقبيح قبيح مع جميع النّاس، وإنَّ الغشّ مذموم مع المسلم وغيره، وحسن الجوار مستحبّ مع الجميع، وقد ورد في سيرته(ص) أنّه كان يزور جاره اليهوديّ، كما يزور جاره المسلم، وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[10].
ثانياً: وشموليّة الأخلاق تعني من جهةٍ أخرى، أن نعمل على إدخال الأخلاق في كلّ شيء، فعلينا أن ندخلها في السياسة، حتى لا تبنى السّياسات على أساس الكذب والخداع والدّجل.. قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[11]، فلا مصانعة ولا مداهنة في العمل السّياسيّ، وكما قال عليّ(ع): "قد يرى الحوَّل القلَّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عينٍ بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين"[12].
وهكذا، لا بدَّ من أن تدخل الأخلاق في الحقل الاقتصاديّ والمعاملات التجاريّة على اختلافها، ومن هنا، نجد هذا التشدّد الإسلاميّ في تحريم الغشّ، والاحتكار، والرّبا، والاستغلال، وأكل أموال النّاس بالباطل. إنَّ الّذين يمارسون العمل التجاريّ والاقتصاديّ، إن لم يكن لديهم حسّ أخلاقيّ، فقد يتحوّلون إلى ما يشبه الحيتان الّتي لا يشبعها شيء، أو الوحوش الكاسرة الّتي لا تعرف الرّحمة إلى قلوبها سبيلاً.
وهكذا الحال في العلاقات الاجتماعيّة، فلا بدَّ من أن تبنى على أساس القيم الأخلاقيّة؛ قيم المحبّة والرّحمة والرّفق، والابتعاد عن التجسّس والغيبة وسوء الظنّ بالآخرين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}[13].
4- الأخلاق بين الثّبات والمرونة
وثمة خصوصيّة ثالثة تميّز الأخلاق من منظار القرآن الكريم، وهي خصوصيّة الثّبات، فالقيم الأخلاقيّة ثابتة، وليست عرضةً للتبدّل والتغيّر تبعاً لتغير الظروف وتبدّل المصالح والأهواء. إذاً، فالأخلاق في الإسلام مطلقة، وليست متغيّرة أو نسبيّة، وأزمة الإنسانيّة على الدّوام كانت في محاولة مسخ الأخلاق، وإضفاء طابع سوقيّ تجاريّ عليها، فهي ـ طبقاً لهذا الطّابع ـ تتغيّر كما تتغيّر الأسعار، وبإمكان الإنسان ـ وفقها ـ أن يغيّر أخلاقه كما يغيّر ملابسه، أو يبدّلها كما يبدّل فرش منزله. وفي ضوء هذا المنطق، يسوّغ لك القول: إنَّ لدينا أخلاقاً قديمةً باليةً وأخرى جديدة ومعاصرة، تماماً كما لدينا ثياب جديدة وأخرى بالية!
إنَّنا نرفض هذا المنطق، فالأخلاق ثابتة في مبادئها وأصولها. والوجه في ثباتها: أنّها جاءت لمحاكاة نوازع الإنسان وضبطها، والنّوازع والميول الفطريّة لدى الإنسان لا تتغيَّر بتغيّر الزمان والمكان، فالإنسان القديم كالإنسان الجديد، مفطورٌ على حبّ الخير والكمال والجمال، والإنسان القديم والجديد لديه نوازع الأنانيّة والغريزة والشّهوة... وهذه الميول في جانبها الإيجابي، كما في جانبها السلبي، تحتاج إلى أصولٍ تربويّةٍ وأخلاقيّةٍ تكون وظيفتها أن تعزّز الإيجابيّات وتنمّيها، وتكبح جماح النفس في أن لا تنساق مع الجانب السّلبيّ منها.
أجل، إنَّ الأخلاق ثابتة في مبادئها، إلا أنّها متحركة في وسائلها، ودعني ـ بعبارة أخرى ـ أقل: إنَّ حديثنا هو عن الأخلاق، وليس عن الآداب والرّسوم، فالأخلاق هي الّتي تتَّسم بالثّبات، دون الرّسوم والآداب. ومن هنا، فإنَّ ما روي عن أمير المؤمنين(ع): "لا تقسروا أولادكم على آدابكم، فإنّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم"[14]. إنما هو ناظر إلى الرسوم، والَّتي تتأثّر باختلاف الزّمان والمكان.
إذاً، المنهج الأخلاقيّ في الإسلام ينطلق من قاعدة أساسيّة، وهي أنَّ الأخلاق ليست نسبيّة، ولا تقبل التّجزئة.
5- "كان خلقه القرآن"
والأخلاق لا تعتمد على مجرّد التّعاليم النظريّة والمواعظ التجريديّة، وإنّما تعتمد على التعليم بالنّمذجة والتربية بالسّلوك، وهذا ما جسّده الأنبياء(ع)، وعلى رأسهم نبيّنا محمّد(ص)، فرسول الله(ص) كان قمّةً في الأخلاق، وقد قال الله تعالى في مدحه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[15]، ولكنّه لم يكن يوجّه المواعظ الأخلاقيّة فحسب، ولا يكتفي بمجرّد الكلمات، وإنّما كان يجسّد الأخلاق في سلوكه، ولعلّ أروع وأبلغ تعبيرٍ في الدّلالة على تجسيده للخُلق الرفيع، هو ما وصفته به بعض نسائه، عندما سئلت عن أخلاقه؟ فقالت: "كان خلقه القرآن".
وإليك بعض المشاهد الرّائعة التي تجسّد هذا الخلق الرّفيع:
1- روي عنه(ص)، أنه أمر أصحابه بذبح شاةٍ في سفر، فقال رجل من القوم: عليَّ ذبحها، وقال الآخر: عليَّ سلخها، وقال الآخر: عليَّ قطعها، وقال الآخر: عليَّ طبخها، فقال رسول الله(ص): "عليَّ أن ألتقط لكم الحطب"، فقالوا: يا رسول الله: لا تتعبن ـ بآبائنا وأمّهاتنا ـ نحن نكفيك، قال(ص): "عرفت أنّكم تكفوني، ولكنَّ الله عزّ وجلّ يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم"، فقام(ص) يلقط الحطب لهم[16].
2- وفي حديثٍ عن بعض الصّحابة، قال إنّه في يوم بدر، كان لكلّ ثلاثة من الصّحابة بعير واحد، يتناوبون في الركوب عليه، وكان صاحبا رسول الله على البعير هما: عليّ(ع)، وأبو لبابة، فإذا جاء دور النبيّ(ص) في المشي، قالا له: اركب ونحن نمشي، فيقول(ص): "ما أنتما بأقوى منّي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما"[17].
لقد جسَّد رسول الله(ص) المثُل العليا للإنسانيَّة في العفو والرَّحمة والصّفح، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}[18]، وفي التّفاني في خدمة النّاس، والتألّم لآلامهم، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[19].
لقد كان إنقاذ الناس من براثن الشّرك والجهل كلّ همّه وشغله الشّاغل، كان يعرض نفسه على الناس وأهل القبائل، ويقول لهم: إني رسول الله إليكم جميعاً، فآمنوا تفلحوا، ومن شدَّة حرصه، نجد أنَّ الله سبحانه خفّف عنه، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}[20].
كان(ص) يتألم لأعدائه وخصومه، ويرأف بحالهم، ويطلب لهم من الله المغفرة والهداية، "اللّهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"[21].
كان خلقه مفعماً بالحياء والصّدق والأمانة والطّهارة. والسؤال: كيف نستلهم أخلاقه في حياتنا؟ فليست القضيّة أن نتغنّى بصفات نبيّنا وخصاله(ص)، ونمجِّد سيرته، وإنّما القضيَّة، كلّ القضيّة، كيف نترجم هذه الصّفات في سلوكنا؟ لأنَّ محبّتنا للنّبيّ(ص) ومعرفتنا به، إن لم تنعكس على أعمالنا، فهي محبّة كاذبة، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[22].
* محاضرة
[1] [الجمعة: 2].
[2] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 106.
[3] انظر: عيون الحكم والمواعظ، ص77.
[4] مشكاة الأنوار للطبرسي، ص 373.
[5] الكافي، ج 2، ص 668.
[6] دعائم الإسلام، ج 2، ص47.
[7] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 105.
[8] الكافي، ج 5، ص 27.
[9] [آل عمران: 75].
[10] [الممتحنة 8].
[11] [القلم: 8، 9].
[12] نهج البلاغة، ج 1، ص 92.
[13] [الحجرات: 12].
[14] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 20، ص 268.
[15] [القلم: 4].
[16] مكارم الأخلاق، ص 252.
[17] صحيح ابن حبان، ج 11، ص 35.
[18] [آل عمران: 159].
[19] [التوبة: 128].
[20] [الكهف: 6].
[21] صحيح البخاري، ج 4، ص 151.
[22] [آل عمران: 31].