مختارات
15/10/2014

كيف نواجه التّطرّف؟

كيف نواجه التّطرّف؟

كيف نواجه حركات التطرّف والجماعات التكفيرية المنتشرة في شرق عالمنا الإسلامي وغربه، وهي تزداد ضراوةً وشراسةً كلّما ازداد الهجوم الاستكباري والعدواني على أُمّتنا؟ هل نواجه التطرّف بتطرّف آخر، والتكفير بتكفير مضادّ، أم أنّ هناك أسلوباً آخر أكثر فاعليةً وتأثيراً؟

التكفير لا يواجه بالتكفير

إنّ أوّل نقطة يلزمنا التَّنبيه إليها، هي أن لا نواجه التكفير بتكفير مضادّ، لأنّ ذلك لا يحلّ مشكلة، ولا يغيّر قناعة، بل ربّما يزيد المشكلة تعقيداً والقناعة رسوخاً. ومن جهة أخرى، فإنّ الخُلق الإسلامي يأبى  مواجهة الشتيمة بمثلها، والسيّئة بأختها، وإنّما يدعونا إلى الإغضاء والصّفح والدّفع بالتي هي أحسن: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[1]، ولنا في أمير المؤمنين(ع) أُسوة حَسَنة، فقد شَتَمه الخوارج وكفّروه، لكنّه رفض أن يقابلهم بالمثل، فهذه كتب التّاريخ وغيرها، تحدّثنا أنّه كان ذات يوم جالساً مع أصحابه، إذ مرّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال(ع): "إنّ أبصار هذه الفحولطوامح، وإنّ ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه، فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأة". وقد هزّت هذه الكلمات رجلاً خارجياً كان جالساً، فقال قاصداً الإمام(ع): قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال(ع): "رويداً، إنّما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب"[2].

ويحدّثنا الإمام الصادق(ع) ـ فيما رُوِيَ عنه ـ عن أبيه(ع): "أنّ عليّاً(ع) لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشّرك، ولا إلى النفاق، ولكنّه كان يقول: إخواننا بغوا علينا"[3]، وفي المصنّف لابن أبي شيبة (ت235 ه)، روى بسنده عن أبي البختري، قال: "سُئل عليّ عن أهل الجمل، قيل: أمشركون هم؟ قال: من الشّرك فرّوا، قيل: أفمنافقون هم؟ قال: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا"[4].

وفي الحديث عن الإمام الصّادق(ع) عن أبيه(ع): "أنّ عليّاً(ع) كان يقول لأهل حربه، إنّا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكن رأينا أنّا على حقّ، ورأوا أنّهم على حقّ"[5].

تلك هي تعاليم الإسلام وأخلاقه التي جسّدها عليّ(ع)، وما أوسع الهوّة بين واقعنا وتلك الآداب والوصايا الأخلاقيّة! حيث يعمد بعضنا إلى تكفير البعض الآخر، لمجرّد اختلاف في الرأي، أو تنوّع في المذهب.

أمّا تبرير مواجهة التكفير بالتكفير المضادّ، بما ورد في مضمون الأحاديث الواردة عن رسول الله(ص): "من كفّر مسلماً فقد كفر"[6]، فلا يخلو من ملاحظة، وهي أنّ هذه الرّوايات لو صحّت سنداً، فهي واردة في سياق النهي عن التّكفير، لا التشجيع عليه، ولذا، يكون المراد بكفر المكفِّر، كفره من النّاحية العمليّة، لا العَقَديّة، كيف وقد عرفت أنّ أمير المؤمنين(ع) لم يحكم بكفر الخوارج رغم تكفيرهم له!؟

رفع أسباب التّكفير

والخطوة الثانية اللازمة في هذا السّبيل، هي دراسة أسباب التّكفير ومعرفة منطلقاته، كمقدّمة ضروريّة لمعالجتها والتخلّص منها، فربّما كانت الأجواء الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية مؤثّرة في نموّ الأفكار التكفيريّة. وطريق المعالجة في هذه الحالة، ينحصر برفع تلك الموانع وإزالة تلك الأسباب، وأمّا لو كانت أسباب التكفير ثقافيّة، والمشكلة هنا صعبة وعلاجها أشدّ صعوبة، ففي هذه الحالة، يكون لزاماً علينا مواجهة الفكر التكفيري ومقارعته بالحجّة والبرهان، لا بالسّجن والسّنان، لأنّ دروس التاريخ علّمتنا أنّ السيف يَقْمَع ولا يُقنع، والسّجن يحبس الجسد، ولكنه لا يخرس اللّسان، إنّه يعالج المشكلة من الخارج لا من الداخل.

لذا، فإنّ المطلوب إحداث زلزال في البنى التحتيّة والركائز الأساسيّة للفكر التكفيري، بإثبات وهنه من الناحية الإسلاميَّة، وابتعاده عن أُسس الشرعيّة الدينيَّة، وأخال أنّنا في هذا الكتاب، قدّمنا ما يكفي من الضّوابط الكفيلة بمحاصرة ظاهرة التكفير، بوصفها ظاهرة شاذّة عن المناخ العام، وبهذا الأسلوب، يتمّ تجفيف منابع الإرهاب والتطرّف، لا بأسلوب العنف وملاحقة الأشخاص لمجرّد ميولهم الإسلاميّة، أو انتسابهم إلى بعض الحركات السلفيّة، وقمعهم وزجّهم في زنازين المعتقلات، لأنّ ذلك سيزيد من ضراوتهم، ويحوّلهم إلى قنابل موقوتة تهدّد الأُمّة برمّتها، وتشوّه صورتها في أرجاء المعمورة، كما أنّ هذا الأسلوب سيجعل منهم أبطالاً ورموزاً، ويزيد من تعاطف الأُمّة معهم، عندما تراهم معلّقين على أعواد المشانق.

ونعود إلى عليّ(ع)، لأنّه الإمام والحجّة، ولأنّ تجربته مع خصومه الخوارج غنيّة بالدروس والعِبَر في كيفيّة مواجهة هذه الجماعات، فنراه يرفض محاربة مكفّريه من الخوارج، وزجّهم في السجون، أو حصارهم اقتصادياً وملاحقتهم أمنياً، بل بقوا ـ في عهده ـ مواطنين لهم كلّ حقوق المواطنة والحريّة الكاملة في التعبير عن أفكارهم، ويصلهم حقّهم من بيت المال كاملاً غير منقوص. نعم، قارعهم بالحجّة، وواجههم بالمنطق، وفنّد أفكارهم بالبرهان، وبقيت سيرته معهم على هذا المنوال، إلى أن تحوّلوا إلى قطّاع طرق، يفسدون في الأرض، ويعبثون بأمن الأُمّة، فنهض حينها لمواجهتهم وَوَضْعِ حدٍّ لغيّهم وعتوّهم[7].

تعزيز ثقافة التسامح ومنطق الاختلاف

والخطوة الثالثة في هذا السبيل، هي تعزيز ثقافة التّسامح، ونشر رسالة المحبَّة، وتأكيد احترام الآخر في نفسه وماله وعرضه، ورعاية حقوقه، وحفظ إنسانيّته، وكفّ الأذى عنه، ما دام لا يتحرّك بالظّلم والعدوان. قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[8].

وأخال أنّ أهمّ قيمة يجدر بنا التّبشير بها والدّعوة إليها، بعد تأصيلها وتنظيمها، هي "حقّ الاختلاف" بين بني البشر، لأنّ التّكفير ينبت وينمو في أجواء القمع والاستبداد، ويتحرّك في ظلّ أحاديّة الرأي والفهم التي يُراد فرضها على الآخرين، ومصادرة حقّهم في الاختلاف.

إنّ الاختلاف لا يساوي التمزّق والتشتّت، ولا يعني أنَّ مَن ليس معي فهو ضدّي، ومن لا يوافقني الرّأي فهو عدوّي، وإذا ما قاد الاختلاف إلى التّناحر والتنازع، فهو تخلّف وجاهليّة، قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْوَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[9]، أمّا إذا تحرّك وفق قانون التدافع والتنافس، فهو ليس أمراً جائزاً وممدوحاً فحسب، بل هو شرط لديمومة الحياة الاجتماعيّة والإنسانيّة، كما يؤكّد علماء الاجتماع، وفي ذلك جاء قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}[10].

فلننظر إلى الإيجابيّات

ثم أخيراً، لماذا لا نحدّق إلا في سلبيّات الجماعات التكفيريّة ومعايبها، ونعمل على تكبيرها وتضخيمها؟ أليس لديهم إيجابيّات تستحقّ الثناء؟ أليس في قلوبهم وعقولهم بصيص أمل ونافذة نور يمكن النفاذ من خلالها إلى داخلهم، في محاولة للأخذ بأيديهم ومحاورتهم؟! أم أنّ الشنآن يعمي ويصمّ، ويبدّل الحسنات سيّئات، كما قال الشّاعر:

وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ            ولكن عين السّخط تبدي المساويا

لقد مرّ المسيح(ع) ذات يوم مع حواريه وأنصاره على جيفة كلب، فقال الحواريّون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عيسى(ع): "ما أشدّ بياض أسنانه!"[11].

ولم تمنع عداوة الخوارج وسوء فعالهم عليّاً(ع) من أن يُنصفهم، ويتحدّث عن إخلاص نيّتهم، عندما قال في كلمته الشهيرة: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه"[12].

إنَّ في ذلك لعبرة لمن اعتبر، وموعظة لمن فكّر ونظر.

من كتاب "العقل التكفيري .. قراءة في المنهج الإقصائي"


[1] [فصلت: 34].

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 99.

[3] الوسائل، ج 15، ص 83، الباب 26 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 10.

[4] المصنف، ج 8، ص 77، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، ج 8، ص 173، ونظيره ما رواه القاضي نعمان المصري في شرح الأخبار، ج 1، ص 399.

[5] قرب الإسناد للحميري القيمي، ص 93.

[6] راجع: كنز العمال، ج 3، ص 635 وما بعدها.

[7] راجع حول سيرته معهم: كتاب الجمل وصفّين والنهروان لابن مخنف، ص 414، 420، 437.

[8] [الممتحنة: 8].

[9] [الأنفال: 46].

[10] [الزخرف: 32].

[11] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 14، ص 327.

[12] نهج البلاغة، ج 1، ص 108.


كيف نواجه حركات التطرّف والجماعات التكفيرية المنتشرة في شرق عالمنا الإسلامي وغربه، وهي تزداد ضراوةً وشراسةً كلّما ازداد الهجوم الاستكباري والعدواني على أُمّتنا؟ هل نواجه التطرّف بتطرّف آخر، والتكفير بتكفير مضادّ، أم أنّ هناك أسلوباً آخر أكثر فاعليةً وتأثيراً؟

التكفير لا يواجه بالتكفير

إنّ أوّل نقطة يلزمنا التَّنبيه إليها، هي أن لا نواجه التكفير بتكفير مضادّ، لأنّ ذلك لا يحلّ مشكلة، ولا يغيّر قناعة، بل ربّما يزيد المشكلة تعقيداً والقناعة رسوخاً. ومن جهة أخرى، فإنّ الخُلق الإسلامي يأبى  مواجهة الشتيمة بمثلها، والسيّئة بأختها، وإنّما يدعونا إلى الإغضاء والصّفح والدّفع بالتي هي أحسن: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[1]، ولنا في أمير المؤمنين(ع) أُسوة حَسَنة، فقد شَتَمه الخوارج وكفّروه، لكنّه رفض أن يقابلهم بالمثل، فهذه كتب التّاريخ وغيرها، تحدّثنا أنّه كان ذات يوم جالساً مع أصحابه، إذ مرّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال(ع): "إنّ أبصار هذه الفحولطوامح، وإنّ ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه، فليلامس أهله، فإنّما هي امرأة كامرأة". وقد هزّت هذه الكلمات رجلاً خارجياً كان جالساً، فقال قاصداً الإمام(ع): قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال(ع): "رويداً، إنّما هو سبّ بسبّ، أو عفو عن ذنب"[2].

ويحدّثنا الإمام الصادق(ع) ـ فيما رُوِيَ عنه ـ عن أبيه(ع): "أنّ عليّاً(ع) لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشّرك، ولا إلى النفاق، ولكنّه كان يقول: إخواننا بغوا علينا"[3]، وفي المصنّف لابن أبي شيبة (ت235 ه)، روى بسنده عن أبي البختري، قال: "سُئل عليّ عن أهل الجمل، قيل: أمشركون هم؟ قال: من الشّرك فرّوا، قيل: أفمنافقون هم؟ قال: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا"[4].

وفي الحديث عن الإمام الصّادق(ع) عن أبيه(ع): "أنّ عليّاً(ع) كان يقول لأهل حربه، إنّا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكن رأينا أنّا على حقّ، ورأوا أنّهم على حقّ"[5].

تلك هي تعاليم الإسلام وأخلاقه التي جسّدها عليّ(ع)، وما أوسع الهوّة بين واقعنا وتلك الآداب والوصايا الأخلاقيّة! حيث يعمد بعضنا إلى تكفير البعض الآخر، لمجرّد اختلاف في الرأي، أو تنوّع في المذهب.

أمّا تبرير مواجهة التكفير بالتكفير المضادّ، بما ورد في مضمون الأحاديث الواردة عن رسول الله(ص): "من كفّر مسلماً فقد كفر"[6]، فلا يخلو من ملاحظة، وهي أنّ هذه الرّوايات لو صحّت سنداً، فهي واردة في سياق النهي عن التّكفير، لا التشجيع عليه، ولذا، يكون المراد بكفر المكفِّر، كفره من النّاحية العمليّة، لا العَقَديّة، كيف وقد عرفت أنّ أمير المؤمنين(ع) لم يحكم بكفر الخوارج رغم تكفيرهم له!؟

رفع أسباب التّكفير

والخطوة الثانية اللازمة في هذا السّبيل، هي دراسة أسباب التّكفير ومعرفة منطلقاته، كمقدّمة ضروريّة لمعالجتها والتخلّص منها، فربّما كانت الأجواء الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية مؤثّرة في نموّ الأفكار التكفيريّة. وطريق المعالجة في هذه الحالة، ينحصر برفع تلك الموانع وإزالة تلك الأسباب، وأمّا لو كانت أسباب التكفير ثقافيّة، والمشكلة هنا صعبة وعلاجها أشدّ صعوبة، ففي هذه الحالة، يكون لزاماً علينا مواجهة الفكر التكفيري ومقارعته بالحجّة والبرهان، لا بالسّجن والسّنان، لأنّ دروس التاريخ علّمتنا أنّ السيف يَقْمَع ولا يُقنع، والسّجن يحبس الجسد، ولكنه لا يخرس اللّسان، إنّه يعالج المشكلة من الخارج لا من الداخل.

لذا، فإنّ المطلوب إحداث زلزال في البنى التحتيّة والركائز الأساسيّة للفكر التكفيري، بإثبات وهنه من الناحية الإسلاميَّة، وابتعاده عن أُسس الشرعيّة الدينيَّة، وأخال أنّنا في هذا الكتاب، قدّمنا ما يكفي من الضّوابط الكفيلة بمحاصرة ظاهرة التكفير، بوصفها ظاهرة شاذّة عن المناخ العام، وبهذا الأسلوب، يتمّ تجفيف منابع الإرهاب والتطرّف، لا بأسلوب العنف وملاحقة الأشخاص لمجرّد ميولهم الإسلاميّة، أو انتسابهم إلى بعض الحركات السلفيّة، وقمعهم وزجّهم في زنازين المعتقلات، لأنّ ذلك سيزيد من ضراوتهم، ويحوّلهم إلى قنابل موقوتة تهدّد الأُمّة برمّتها، وتشوّه صورتها في أرجاء المعمورة، كما أنّ هذا الأسلوب سيجعل منهم أبطالاً ورموزاً، ويزيد من تعاطف الأُمّة معهم، عندما تراهم معلّقين على أعواد المشانق.

ونعود إلى عليّ(ع)، لأنّه الإمام والحجّة، ولأنّ تجربته مع خصومه الخوارج غنيّة بالدروس والعِبَر في كيفيّة مواجهة هذه الجماعات، فنراه يرفض محاربة مكفّريه من الخوارج، وزجّهم في السجون، أو حصارهم اقتصادياً وملاحقتهم أمنياً، بل بقوا ـ في عهده ـ مواطنين لهم كلّ حقوق المواطنة والحريّة الكاملة في التعبير عن أفكارهم، ويصلهم حقّهم من بيت المال كاملاً غير منقوص. نعم، قارعهم بالحجّة، وواجههم بالمنطق، وفنّد أفكارهم بالبرهان، وبقيت سيرته معهم على هذا المنوال، إلى أن تحوّلوا إلى قطّاع طرق، يفسدون في الأرض، ويعبثون بأمن الأُمّة، فنهض حينها لمواجهتهم وَوَضْعِ حدٍّ لغيّهم وعتوّهم[7].

تعزيز ثقافة التسامح ومنطق الاختلاف

والخطوة الثالثة في هذا السبيل، هي تعزيز ثقافة التّسامح، ونشر رسالة المحبَّة، وتأكيد احترام الآخر في نفسه وماله وعرضه، ورعاية حقوقه، وحفظ إنسانيّته، وكفّ الأذى عنه، ما دام لا يتحرّك بالظّلم والعدوان. قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[8].

وأخال أنّ أهمّ قيمة يجدر بنا التّبشير بها والدّعوة إليها، بعد تأصيلها وتنظيمها، هي "حقّ الاختلاف" بين بني البشر، لأنّ التّكفير ينبت وينمو في أجواء القمع والاستبداد، ويتحرّك في ظلّ أحاديّة الرأي والفهم التي يُراد فرضها على الآخرين، ومصادرة حقّهم في الاختلاف.

إنّ الاختلاف لا يساوي التمزّق والتشتّت، ولا يعني أنَّ مَن ليس معي فهو ضدّي، ومن لا يوافقني الرّأي فهو عدوّي، وإذا ما قاد الاختلاف إلى التّناحر والتنازع، فهو تخلّف وجاهليّة، قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْوَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[9]، أمّا إذا تحرّك وفق قانون التدافع والتنافس، فهو ليس أمراً جائزاً وممدوحاً فحسب، بل هو شرط لديمومة الحياة الاجتماعيّة والإنسانيّة، كما يؤكّد علماء الاجتماع، وفي ذلك جاء قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}[10].

فلننظر إلى الإيجابيّات

ثم أخيراً، لماذا لا نحدّق إلا في سلبيّات الجماعات التكفيريّة ومعايبها، ونعمل على تكبيرها وتضخيمها؟ أليس لديهم إيجابيّات تستحقّ الثناء؟ أليس في قلوبهم وعقولهم بصيص أمل ونافذة نور يمكن النفاذ من خلالها إلى داخلهم، في محاولة للأخذ بأيديهم ومحاورتهم؟! أم أنّ الشنآن يعمي ويصمّ، ويبدّل الحسنات سيّئات، كما قال الشّاعر:

وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ            ولكن عين السّخط تبدي المساويا

لقد مرّ المسيح(ع) ذات يوم مع حواريه وأنصاره على جيفة كلب، فقال الحواريّون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عيسى(ع): "ما أشدّ بياض أسنانه!"[11].

ولم تمنع عداوة الخوارج وسوء فعالهم عليّاً(ع) من أن يُنصفهم، ويتحدّث عن إخلاص نيّتهم، عندما قال في كلمته الشهيرة: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه"[12].

إنَّ في ذلك لعبرة لمن اعتبر، وموعظة لمن فكّر ونظر.

من كتاب "العقل التكفيري .. قراءة في المنهج الإقصائي"


[1] [فصلت: 34].

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 99.

[3] الوسائل، ج 15، ص 83، الباب 26 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 10.

[4] المصنف، ج 8، ص 77، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، ج 8، ص 173، ونظيره ما رواه القاضي نعمان المصري في شرح الأخبار، ج 1، ص 399.

[5] قرب الإسناد للحميري القيمي، ص 93.

[6] راجع: كنز العمال، ج 3، ص 635 وما بعدها.

[7] راجع حول سيرته معهم: كتاب الجمل وصفّين والنهروان لابن مخنف، ص 414، 420، 437.

[8] [الممتحنة: 8].

[9] [الأنفال: 46].

[10] [الزخرف: 32].

[11] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 14، ص 327.

[12] نهج البلاغة، ج 1، ص 108.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية