مختارات
30/09/2014

الخوارج: شبهاتهم.. وكيف تعامل أمير المؤمنين(ع) معهم؟

الخوارج: شبهاتهم.. وكيف تعامل أمير المؤمنين(ع) معهم؟

الخوارج هم جماعة أو فرقة، كانت جزءاً من جيش العراق، بقيادة أمير المؤمنين(ع) الَّذي كان قد خاض حرباً في ما سمي بـ"معركة صفّين"؛ هذه الحرب التي نشبت مع معاوية بن أبي سفيان، الَّذي كان والياً على الشّام من زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وكان معاوية قد رفض الاعتراف بخلافة أمير المؤمنين(ع) الّذي بويع بالخلافة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان.

وكانت هذه الجماعة قد انشقَّت عن جيش أمير المؤمنين(ع)، بعد أن رفضت التَّحكيم الَّذي كانت قد فرضته على أمير المؤمنين(ع)، بسبب خدعة رفع المصاحف، بهدف جعل القرآن حكماً بين الفريقين، والأمير(ع)، بنظره الثاقب وحنكته، رفض في البداية هذا الأمر، لأنه كان يعلم أن هذا مجرد خديعة، الهدف منها الخروج من الهزيمة التي كانت على وشك الوقوع في جيش معاوية، إلا أن هذه الجماعة بسبب غبائها، أصرّت على القبول بهذا التحكيم، واستطاعت فرض الأمر على أمير المؤمنين(ع)، وعندما قبل بالتحكيم، وانتهت الحرب، وعاد الأمير(ع) إلى الكوفة، اعتزلوا وخرجوا إلى النّهروان، وحصلت بينهم وبين الأمير حرب سميت "بحرب النهروان".

في هذه المقالة، سوف نحاول إلقاء الضّوء على بعض الشبهات التي وقعوا فيها، والتي أدّت إلى إطلاقهم بعض الأحكام من جهة، أو بعض المواقف من جهة ثانية، ثم بيان الطريقة التي تعامل فيها أمير المؤمنين(ع) معهم، من خلال الحوار أوّلاً لرفع هذه الشبهات، والحرب ثانياً، ومتى، ولماذا حاربهم الأمير(ع).

فتنة التحكيم

بعد أن أصبح جيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان، على وشك الهزيمة على يد جيش العراق، بقيادة أمير المؤمنين(ع)، خرج معاوية بن أبي سفيان ومستشاره عمرو بن العاص بخديعة رفع المصاحف، والسّبب الظّاهر من هذا الأمر، هو الرّجوع إلى أمر الله تعالى، من خلال الرّجوع إلى كتاب الله، والسّبب الباطن هو إيقاف الحرب، والخروج من هذه الهزيمة الَّتي توشك أن تقع.

انطلت هذه الخديعة على جماعةٍ من جيش الأمير(ع)، وقبلوا بتحكيم القرآن، وأصرّوا على الأمير(ع) أن يقبل بهذا الأمر، وهو الّذي نبَّههم إلى خطورة هذه الخطوة، وأنها مجرّد خديعة ومكر من معاوية وصاحبه، قائلاً لهم: "هذا أمر ظاهره إيمان، وباطنه عدوان، وأوّله رحمة، وآخره ندامة". ]نهج البلاغة، ص 197[.

وأمام إصرارهم وضغطهم، قبل بأن يكون القرآن هو الحكم، معلّلاً ذلك بقوله: "ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن، لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}، فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه". ]نهج البلاغة، ص 182، تحقيق صبحي صالح[.

ثم إنَّ هذه الجماعة بعد أن فهمت أنَّ في الأمر خدعة حقيقيَّة، وبعد أن وجدت أنَّ أمير المؤمنين(ع) كان محقّاً في رفضه للتَّحكيم، وأنَّ رفع المصاحف كان مجرّد خدعة، أخذتها العزّة بالإثم، ولم ترد أن تعترف للأمير(ع) بهذا الأمر، وكابرت واعترضت عليه بتحكيمه الرجال، ما دام أنّ الرجال يمكن لهم أن يفسّروا القرآن على حسب مصالحهم وأهوائهم الشخصيّة، وفي هذا مخالفة صريحة للقرآن.

فأجابهم الأمير(ع) على هذه الشّبهة بقوله: "إنّا لم نحكّم الرّجال، وإنَّما حكَّمنا القرآن، هذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدّفّتين، لا ينطق بلسان، ولا بدّ له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرّجال".]نهج البلاغة، ص 182، تحقيق صبحي الصّالح[.

فإذا كان الهدف من الرّجوع إلى القرآن، هو الرّضوخ لحكمه، فإنّ المؤمن حقّاً لا يخالف كتاب الله، وإذا خالف كتاب الله تعالى، فمعنى ذلك أنّه لم يكن صادقاً فيما دعا إليه من رفع المصاحف، كما فعل معاوية، وإذا كانت نتيجة التَّحكيم قد أدّت إلى ترسيخ حكم معاوية، ونزع الشرعيّة عن أمير المؤمنين(ع)، فهذا يعني أنّ التّحكيم قد خالف كتاب الله تعالى، وإذا كان الحكم الفعليّ هو القرآن، ووظيفة الرجال هي النطق بما حكم به القرآن، فلا يجوز لهم تجاوزه، ولا يجوز لهم الحكم بما تمليه عليه أهواؤهم، إذا كانت مخالفة للقرآن.

شبهة الكفر

أصرَّت هذه الجماعة على موقفها، ولم ينفع توضيح الأمير(ع) سبب قبوله بالتحكيم، بل تمادت في موقفها، وتجاوزت الحدود، بعد أن اتهمت الأمير(ع) بالكذب والضّلال، بسبب قبوله تحكيم الرّجال بزعمهم بدل القرآن، وهذه التهمة؛ "الكفر"، نسبوها إلى كلّ مسلم يرتكب الكبيرة، فأصبحت جزءاً من فكرهم الذي استمرّ معهم عبر الزمن، وخلاصة هذه الفكرة، كما يقول ابن أبي الحديد: "فاعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر".[شرح نهج البلاغة، ج 4، ص149، دار نوبليس].

شبهة الكفر هذه أجاب عنها أمير المؤمنين(ع) بقوله: "لمَ تضلّلون عامّة أمّة محمد(ص).. وقد علمتم أنّ رسول الله(ص) رجم الزاني المحصن، ثم صلّى عليه، ثم ورثه أهله، وقتل القاتل، وورث ميراثه أهله، وقطع السّارق وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفيء، ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله(ص) بذنوبهم، وأقام حقّ الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله؟". [نهج البلاغة، ص 184، تحقيق صبحي الصالح].

واضح من هذا الكلام، من خلال الاستشهاد بفعل رسول الله(ص)، أنّه(ص) اعتبر مرتكب الكبيرة مسلماً وليس كافراً، والدّليل على ذلك، أنَّ رسول الله(ص) أقام الحدّ على الزاني المحصن، وأقام الصّلاة عليه، ولو كان كافراً فعلاً وحقيقة، لما جازت الصَّلاة عليه، لأنَّ الميت الكافر لا يصلَّى عليه، وكذلك الحال مع السارق أو الزاني غير المحصن، فإنه أعطاهما نصيبها من مال المسلمين، وسمح لهم بالزواج من المرأة المسلمة، فلو كانا كافرين، لما جاز إعطاؤهما نصيبهما من مال المسلمين، ولما جاز لهما الزواج من المسلمة، لأنّ المسلمة لا يصحّ تزويجها من غير المسلم.

وخلاصة الأمر، أنَّ رسول الله(ص) لم يتعامل مع مرتكب الكبيرة من الذّنوب، معاملة الكافر، بل تعامل معه معاملة المسلم، وأبقاه في دائرة الإسلام، وعاقبه بذنبه فقط.

ديمقراطيّته(ع) مع الخوارج

هذه المعارضة، وهذه المواقف الحادّة الصادرة عن الخوارج، لم يقابلها(ع) إلا بمنتهى الهدوء، بل أكثر من ذلك، فلم يمنعهم حقوقهم المدنيّة، ولم يبادرهم بحرب، ولم يمارس معهم أيّ نوع من الاضطهاد أو الحبس أو القهر، بل قال لهم: "إنّ لكم عندنا ثلاثاً: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ـ الحقوق الماليَّة من مال المسلمين ـ ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتّى تبدأونا". ]الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 6، م 3، ص 41 ـ 42، دار القلم، بيروت[.

لقد عامل أمير المؤمنين عليّ(ع) الخوارج بمنتهى الحريَّة والدّيمقراطيَّة؛ لقد كان خليفة، وكانوا من رعاياه، فكان قادراً على أن ينفّذ بحقّهم ما كانوا يستحقّونه، ولكنّه لم يسجنهم، ولم يجلدهم، بل إنّه لم يقطع حتى نصيبهم من بيت المال".[مرتضى مطهّري، "الإمام علي(ع) في قوّته الجاذبة والرافعة"، ص 151، مؤسّسة البعثة، بيروت]. "ولعلَّ هذا القدر من الحريّة، لم يسبق له وجود في العالم، فما من حكومة عاملت معارضيها بهذا القدر من الدّيمقراطيّة" [مرتضى مطهري، المصدر نفسه، ص 152].

الإصرار على الحرب

إلا أنّ الخوارج لم يبقوا على هذه المعارضة السلميَّة، بل تحوَّلت معارضتهم إلى حال من الفوضى، ودبّ الذعر والقتل في صفوف المسلمين، فقد ذكر الطبري في تاريخه: "ثم إنهم دخلوا قرية، فخرج عبدالله بن خباب صاحب رسول الله(ص) مذعوراً، قالوا: أأنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله(ص)؟ قال: نعم، قالوا: فما تقول في عليّ قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم، وأشدّ توقّياً على دينه، وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنّك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها، لا على أفعالها. والله، لنقتلنّك قتلةً ما قتلناها أحداً من المسلمين، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى، فقال: إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً، وقد آمنتموني، قلتم: لا روع عليك. فجاؤوا به، فأضجعوه، فذبحوه، وسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة، فقالت: إني إنما أنا امرأة، ألا تتّقون الله؟ فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية".[تاريخ الطبري، ج 6، م 3، ص 46، دار القلم، بيروت].

بعد أن علم أمير المؤمنين(ع) بما فعله الخوارج بصاحب رسول الله(ص) عبد الله بن خباب وزوجته، وقتلهم النّاس، أرسل(ع) أحد أصحابه "الحارث بن مرّة العبدي، فينظر فيما بلغه عنهم، ويكتب إليه على وجهه، ولا يكتمه، فخرج حتى انتهى إلى النّهر ليسألهم، فخرج القوم فقتلوه".[تاريخ الطبري، ج 6، م 3، ص 46 ـ 47].

عندما بلغ الخبر أمير المؤمنين(ع) بقتلهم صاحبه ورسوله، طلب إليهم تسليمهم القتلة، سواء الّذين قتلوا صاحب رسول الله والنّسوة، أو الّذين قتلوا رسوله إليهم، إلا أنهم رفضوا ذلك، وقالوا: "كلّنا قتلتهم، وكلّنا نستحلّ دماءكم ودماءهم".[تاريخ الطبري، ج 6، ص 47]، فلم يجد الأمير(ع) بدّاً من مقاتلتهم ومحاربتهم.

لا تقاتلوا الخوارج بعدي

ومع كلّ ما تقدّم، فإنّ للأمير(ع) موقفاً لافتاً للنّظر، ويعبّر عن فهم حقيقيّ وواقعيّ للأمور، نابع عن بصيرة نافذة، وخارج عن دائرة الحسابات الشخصيّة. قال(ع) كما في نهج البلاغة: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه". [نهج البلاغة، ص 94، تحقيق صبحي الصالح.

الأمير(ع) في هذا الكلام، هو في مقام المقارنة بين معاوية والخوارج: "معاوية لم يكن يطلب الحقّ، وإنما كان ذا باطل، لا يحامي عن اعتقاد بناءً على شبهة، وأحواله تدلّ على ذلك، فإنه لم يكن من أرباب الدّين، وكان مترفاً يذهب مال الفيء ـ مال المسلمين ـ في مآربه وفي تمهيد ملكه، وكانت أحواله كلّها مؤذية بالسلامة عن العدالة، وإصراره على الباطل، وإذا كان كذلك، لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه، وتحارب الخوارج عليه، وإن كانوا أهل ضلال". [ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 25، دار نوبليس].

كان الخوارج يطلبون الحقّ، ولأجل ذلك، كانوا مع أمير المؤمنين(ع) في حربه ضدّ معاوية، إلا أنهم أخطأوا الوصول إلى هذا الحقّ، لشبهات دخلت في أذهانهم وأفكارهم، ولذا، لا تصحّ محاربتهم، لأنَّ هذه المحاربة سوف تؤدّي إلى نصرة الباطل وتقويته، والمتمثّل بمعاوية وجماعته، ومعاوية أشدّ خطراً منهم، لأنه صاحب راية باطل.

وفي الختام، نشير إلى أنّ الخوارج استمرّوا في خطّ المعارضة للسلطة القائمة، سواء في زمن معاوية، أو في فترة الخلافة الأمويّة، واستطاعوا أن يقضوا مضاجع الأمويّين، وبقوا في نظرهم سلطة ظالمة تجب محاربتها، إلا أنَّ شبهاتهم بقيت معهم، مما ذكرناه سابقاً، وخصوصاً الحكم بكفر مرتكب الكبيرة.

الأزارقة

هو اسم أطلق على جماعة من الخوارج، ظهرت في زمن إمارة عبدالله بن الزّبير، وإنما سموا بهذا الاسم نسبةً إلى قائدهم وزعيمهم، وهو نافع بن الأزرق الحنفي، وكان شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج ـ أي أنّه كان من فقهائهم ـ وعندما أظهر مقالته، استولى على الأهواز، وأخذ يتعرض للناس، ويقتل الأطفال، ويأخذ الأموال، ويجبي الخراج، وكانت مقالته قائمةً على أساس أنّ الدّار دار كفر، وأنهم جميعاً في النّار، وكلّ من فيها كافر، إلا من أظهر إيمانه، ولا يحلّ للمؤمنين ـ الخوارج من جماعته ـ أن يجيبوا داعياً إلى الصّلاة، ولا يأكلوا من ذبائحهم، ولا أن يتزوّجوا منهم، ولا ميراث بين الخوارج وغيرهم، وهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وكان يستحل أيضاً قتل الأطفال.

وحجّته في كلّ ذلك، أنّ المسلمين تركوا الجهاد، وقد ندب الله تعالى الجهاد، فقال: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً}[التوبة: 36]، والمسلمون يرون الظّلم ليلاً ونهاراً.

أمّا حجّته في قتل الأطفال، فإنَّ نوحاً نبيّ الله تعالى، يقول: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}[نوح: 26، 27]، فسمّاهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف يكون ذلك في قوم نوح، ولا نقوله في قومنا.

واضح مما تقدّم حجم الشّبهات التي وقع فيها هذا الرّجل، فهو لم يلتفت إلى أنّ شريعة رسول الله(ص) قد نسخت الشّرائع السابقة، بمعنى أنّنا غير ملزمين بالمواقف التي وقفها الأنبياء السّابقون تجاه أقوامهم، والأنبياء السّابقون دعوا الله تعالى إلى إنزال العذاب على أقوامهم، ورسول الله(ص) وصفه الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

ورسول الله(ص) دخل مكَّة فاتحاً، وكانت لا زالت أرض شرك، إلا أنَّه لم يعمل فيهم السّيف، بل اكتفى منهم بالقول: "من دخل بيته كان آمناً". والقول إنّ الدّار دار كفر لعدم رفض المسلمين للظّلم، فهذا القول شبهة واضحة. نعم، رفض الظّلم واجب، والعمل على إزالته كذلك واجب، لكنَّ التقاعس عن ذلك، مع توافر شروطه، معصية، وقد تقدّمت الإجابة عن ذلك من خلال كلام الأمير(ع) عن ذلك.

الخوارج هم جماعة أو فرقة، كانت جزءاً من جيش العراق، بقيادة أمير المؤمنين(ع) الَّذي كان قد خاض حرباً في ما سمي بـ"معركة صفّين"؛ هذه الحرب التي نشبت مع معاوية بن أبي سفيان، الَّذي كان والياً على الشّام من زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وكان معاوية قد رفض الاعتراف بخلافة أمير المؤمنين(ع) الّذي بويع بالخلافة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان.

وكانت هذه الجماعة قد انشقَّت عن جيش أمير المؤمنين(ع)، بعد أن رفضت التَّحكيم الَّذي كانت قد فرضته على أمير المؤمنين(ع)، بسبب خدعة رفع المصاحف، بهدف جعل القرآن حكماً بين الفريقين، والأمير(ع)، بنظره الثاقب وحنكته، رفض في البداية هذا الأمر، لأنه كان يعلم أن هذا مجرد خديعة، الهدف منها الخروج من الهزيمة التي كانت على وشك الوقوع في جيش معاوية، إلا أن هذه الجماعة بسبب غبائها، أصرّت على القبول بهذا التحكيم، واستطاعت فرض الأمر على أمير المؤمنين(ع)، وعندما قبل بالتحكيم، وانتهت الحرب، وعاد الأمير(ع) إلى الكوفة، اعتزلوا وخرجوا إلى النّهروان، وحصلت بينهم وبين الأمير حرب سميت "بحرب النهروان".

في هذه المقالة، سوف نحاول إلقاء الضّوء على بعض الشبهات التي وقعوا فيها، والتي أدّت إلى إطلاقهم بعض الأحكام من جهة، أو بعض المواقف من جهة ثانية، ثم بيان الطريقة التي تعامل فيها أمير المؤمنين(ع) معهم، من خلال الحوار أوّلاً لرفع هذه الشبهات، والحرب ثانياً، ومتى، ولماذا حاربهم الأمير(ع).

فتنة التحكيم

بعد أن أصبح جيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان، على وشك الهزيمة على يد جيش العراق، بقيادة أمير المؤمنين(ع)، خرج معاوية بن أبي سفيان ومستشاره عمرو بن العاص بخديعة رفع المصاحف، والسّبب الظّاهر من هذا الأمر، هو الرّجوع إلى أمر الله تعالى، من خلال الرّجوع إلى كتاب الله، والسّبب الباطن هو إيقاف الحرب، والخروج من هذه الهزيمة الَّتي توشك أن تقع.

انطلت هذه الخديعة على جماعةٍ من جيش الأمير(ع)، وقبلوا بتحكيم القرآن، وأصرّوا على الأمير(ع) أن يقبل بهذا الأمر، وهو الّذي نبَّههم إلى خطورة هذه الخطوة، وأنها مجرّد خديعة ومكر من معاوية وصاحبه، قائلاً لهم: "هذا أمر ظاهره إيمان، وباطنه عدوان، وأوّله رحمة، وآخره ندامة". ]نهج البلاغة، ص 197[.

وأمام إصرارهم وضغطهم، قبل بأن يكون القرآن هو الحكم، معلّلاً ذلك بقوله: "ولمّا دعانا القوم إلى أن نحكّم بيننا القرآن، لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}، فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه". ]نهج البلاغة، ص 182، تحقيق صبحي صالح[.

ثم إنَّ هذه الجماعة بعد أن فهمت أنَّ في الأمر خدعة حقيقيَّة، وبعد أن وجدت أنَّ أمير المؤمنين(ع) كان محقّاً في رفضه للتَّحكيم، وأنَّ رفع المصاحف كان مجرّد خدعة، أخذتها العزّة بالإثم، ولم ترد أن تعترف للأمير(ع) بهذا الأمر، وكابرت واعترضت عليه بتحكيمه الرجال، ما دام أنّ الرجال يمكن لهم أن يفسّروا القرآن على حسب مصالحهم وأهوائهم الشخصيّة، وفي هذا مخالفة صريحة للقرآن.

فأجابهم الأمير(ع) على هذه الشّبهة بقوله: "إنّا لم نحكّم الرّجال، وإنَّما حكَّمنا القرآن، هذا القرآن إنّما هو خطّ مستور بين الدّفّتين، لا ينطق بلسان، ولا بدّ له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرّجال".]نهج البلاغة، ص 182، تحقيق صبحي الصّالح[.

فإذا كان الهدف من الرّجوع إلى القرآن، هو الرّضوخ لحكمه، فإنّ المؤمن حقّاً لا يخالف كتاب الله، وإذا خالف كتاب الله تعالى، فمعنى ذلك أنّه لم يكن صادقاً فيما دعا إليه من رفع المصاحف، كما فعل معاوية، وإذا كانت نتيجة التَّحكيم قد أدّت إلى ترسيخ حكم معاوية، ونزع الشرعيّة عن أمير المؤمنين(ع)، فهذا يعني أنّ التّحكيم قد خالف كتاب الله تعالى، وإذا كان الحكم الفعليّ هو القرآن، ووظيفة الرجال هي النطق بما حكم به القرآن، فلا يجوز لهم تجاوزه، ولا يجوز لهم الحكم بما تمليه عليه أهواؤهم، إذا كانت مخالفة للقرآن.

شبهة الكفر

أصرَّت هذه الجماعة على موقفها، ولم ينفع توضيح الأمير(ع) سبب قبوله بالتحكيم، بل تمادت في موقفها، وتجاوزت الحدود، بعد أن اتهمت الأمير(ع) بالكذب والضّلال، بسبب قبوله تحكيم الرّجال بزعمهم بدل القرآن، وهذه التهمة؛ "الكفر"، نسبوها إلى كلّ مسلم يرتكب الكبيرة، فأصبحت جزءاً من فكرهم الذي استمرّ معهم عبر الزمن، وخلاصة هذه الفكرة، كما يقول ابن أبي الحديد: "فاعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر".[شرح نهج البلاغة، ج 4، ص149، دار نوبليس].

شبهة الكفر هذه أجاب عنها أمير المؤمنين(ع) بقوله: "لمَ تضلّلون عامّة أمّة محمد(ص).. وقد علمتم أنّ رسول الله(ص) رجم الزاني المحصن، ثم صلّى عليه، ثم ورثه أهله، وقتل القاتل، وورث ميراثه أهله، وقطع السّارق وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفيء، ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله(ص) بذنوبهم، وأقام حقّ الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم يخرج أسماءهم من بين أهله؟". [نهج البلاغة، ص 184، تحقيق صبحي الصالح].

واضح من هذا الكلام، من خلال الاستشهاد بفعل رسول الله(ص)، أنّه(ص) اعتبر مرتكب الكبيرة مسلماً وليس كافراً، والدّليل على ذلك، أنَّ رسول الله(ص) أقام الحدّ على الزاني المحصن، وأقام الصّلاة عليه، ولو كان كافراً فعلاً وحقيقة، لما جازت الصَّلاة عليه، لأنَّ الميت الكافر لا يصلَّى عليه، وكذلك الحال مع السارق أو الزاني غير المحصن، فإنه أعطاهما نصيبها من مال المسلمين، وسمح لهم بالزواج من المرأة المسلمة، فلو كانا كافرين، لما جاز إعطاؤهما نصيبهما من مال المسلمين، ولما جاز لهما الزواج من المسلمة، لأنّ المسلمة لا يصحّ تزويجها من غير المسلم.

وخلاصة الأمر، أنَّ رسول الله(ص) لم يتعامل مع مرتكب الكبيرة من الذّنوب، معاملة الكافر، بل تعامل معه معاملة المسلم، وأبقاه في دائرة الإسلام، وعاقبه بذنبه فقط.

ديمقراطيّته(ع) مع الخوارج

هذه المعارضة، وهذه المواقف الحادّة الصادرة عن الخوارج، لم يقابلها(ع) إلا بمنتهى الهدوء، بل أكثر من ذلك، فلم يمنعهم حقوقهم المدنيّة، ولم يبادرهم بحرب، ولم يمارس معهم أيّ نوع من الاضطهاد أو الحبس أو القهر، بل قال لهم: "إنّ لكم عندنا ثلاثاً: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ـ الحقوق الماليَّة من مال المسلمين ـ ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتّى تبدأونا". ]الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج 6، م 3، ص 41 ـ 42، دار القلم، بيروت[.

لقد عامل أمير المؤمنين عليّ(ع) الخوارج بمنتهى الحريَّة والدّيمقراطيَّة؛ لقد كان خليفة، وكانوا من رعاياه، فكان قادراً على أن ينفّذ بحقّهم ما كانوا يستحقّونه، ولكنّه لم يسجنهم، ولم يجلدهم، بل إنّه لم يقطع حتى نصيبهم من بيت المال".[مرتضى مطهّري، "الإمام علي(ع) في قوّته الجاذبة والرافعة"، ص 151، مؤسّسة البعثة، بيروت]. "ولعلَّ هذا القدر من الحريّة، لم يسبق له وجود في العالم، فما من حكومة عاملت معارضيها بهذا القدر من الدّيمقراطيّة" [مرتضى مطهري، المصدر نفسه، ص 152].

الإصرار على الحرب

إلا أنّ الخوارج لم يبقوا على هذه المعارضة السلميَّة، بل تحوَّلت معارضتهم إلى حال من الفوضى، ودبّ الذعر والقتل في صفوف المسلمين، فقد ذكر الطبري في تاريخه: "ثم إنهم دخلوا قرية، فخرج عبدالله بن خباب صاحب رسول الله(ص) مذعوراً، قالوا: أأنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله(ص)؟ قال: نعم، قالوا: فما تقول في عليّ قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم، وأشدّ توقّياً على دينه، وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنّك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها، لا على أفعالها. والله، لنقتلنّك قتلةً ما قتلناها أحداً من المسلمين، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى، فقال: إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً، وقد آمنتموني، قلتم: لا روع عليك. فجاؤوا به، فأضجعوه، فذبحوه، وسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة، فقالت: إني إنما أنا امرأة، ألا تتّقون الله؟ فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيء، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية".[تاريخ الطبري، ج 6، م 3، ص 46، دار القلم، بيروت].

بعد أن علم أمير المؤمنين(ع) بما فعله الخوارج بصاحب رسول الله(ص) عبد الله بن خباب وزوجته، وقتلهم النّاس، أرسل(ع) أحد أصحابه "الحارث بن مرّة العبدي، فينظر فيما بلغه عنهم، ويكتب إليه على وجهه، ولا يكتمه، فخرج حتى انتهى إلى النّهر ليسألهم، فخرج القوم فقتلوه".[تاريخ الطبري، ج 6، م 3، ص 46 ـ 47].

عندما بلغ الخبر أمير المؤمنين(ع) بقتلهم صاحبه ورسوله، طلب إليهم تسليمهم القتلة، سواء الّذين قتلوا صاحب رسول الله والنّسوة، أو الّذين قتلوا رسوله إليهم، إلا أنهم رفضوا ذلك، وقالوا: "كلّنا قتلتهم، وكلّنا نستحلّ دماءكم ودماءهم".[تاريخ الطبري، ج 6، ص 47]، فلم يجد الأمير(ع) بدّاً من مقاتلتهم ومحاربتهم.

لا تقاتلوا الخوارج بعدي

ومع كلّ ما تقدّم، فإنّ للأمير(ع) موقفاً لافتاً للنّظر، ويعبّر عن فهم حقيقيّ وواقعيّ للأمور، نابع عن بصيرة نافذة، وخارج عن دائرة الحسابات الشخصيّة. قال(ع) كما في نهج البلاغة: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه". [نهج البلاغة، ص 94، تحقيق صبحي الصالح.

الأمير(ع) في هذا الكلام، هو في مقام المقارنة بين معاوية والخوارج: "معاوية لم يكن يطلب الحقّ، وإنما كان ذا باطل، لا يحامي عن اعتقاد بناءً على شبهة، وأحواله تدلّ على ذلك، فإنه لم يكن من أرباب الدّين، وكان مترفاً يذهب مال الفيء ـ مال المسلمين ـ في مآربه وفي تمهيد ملكه، وكانت أحواله كلّها مؤذية بالسلامة عن العدالة، وإصراره على الباطل، وإذا كان كذلك، لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه، وتحارب الخوارج عليه، وإن كانوا أهل ضلال". [ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 25، دار نوبليس].

كان الخوارج يطلبون الحقّ، ولأجل ذلك، كانوا مع أمير المؤمنين(ع) في حربه ضدّ معاوية، إلا أنهم أخطأوا الوصول إلى هذا الحقّ، لشبهات دخلت في أذهانهم وأفكارهم، ولذا، لا تصحّ محاربتهم، لأنَّ هذه المحاربة سوف تؤدّي إلى نصرة الباطل وتقويته، والمتمثّل بمعاوية وجماعته، ومعاوية أشدّ خطراً منهم، لأنه صاحب راية باطل.

وفي الختام، نشير إلى أنّ الخوارج استمرّوا في خطّ المعارضة للسلطة القائمة، سواء في زمن معاوية، أو في فترة الخلافة الأمويّة، واستطاعوا أن يقضوا مضاجع الأمويّين، وبقوا في نظرهم سلطة ظالمة تجب محاربتها، إلا أنَّ شبهاتهم بقيت معهم، مما ذكرناه سابقاً، وخصوصاً الحكم بكفر مرتكب الكبيرة.

الأزارقة

هو اسم أطلق على جماعة من الخوارج، ظهرت في زمن إمارة عبدالله بن الزّبير، وإنما سموا بهذا الاسم نسبةً إلى قائدهم وزعيمهم، وهو نافع بن الأزرق الحنفي، وكان شجاعاً مقدماً في فقه الخوارج ـ أي أنّه كان من فقهائهم ـ وعندما أظهر مقالته، استولى على الأهواز، وأخذ يتعرض للناس، ويقتل الأطفال، ويأخذ الأموال، ويجبي الخراج، وكانت مقالته قائمةً على أساس أنّ الدّار دار كفر، وأنهم جميعاً في النّار، وكلّ من فيها كافر، إلا من أظهر إيمانه، ولا يحلّ للمؤمنين ـ الخوارج من جماعته ـ أن يجيبوا داعياً إلى الصّلاة، ولا يأكلوا من ذبائحهم، ولا أن يتزوّجوا منهم، ولا ميراث بين الخوارج وغيرهم، وهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وكان يستحل أيضاً قتل الأطفال.

وحجّته في كلّ ذلك، أنّ المسلمين تركوا الجهاد، وقد ندب الله تعالى الجهاد، فقال: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً}[التوبة: 36]، والمسلمون يرون الظّلم ليلاً ونهاراً.

أمّا حجّته في قتل الأطفال، فإنَّ نوحاً نبيّ الله تعالى، يقول: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}[نوح: 26، 27]، فسمّاهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف يكون ذلك في قوم نوح، ولا نقوله في قومنا.

واضح مما تقدّم حجم الشّبهات التي وقع فيها هذا الرّجل، فهو لم يلتفت إلى أنّ شريعة رسول الله(ص) قد نسخت الشّرائع السابقة، بمعنى أنّنا غير ملزمين بالمواقف التي وقفها الأنبياء السّابقون تجاه أقوامهم، والأنبياء السّابقون دعوا الله تعالى إلى إنزال العذاب على أقوامهم، ورسول الله(ص) وصفه الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

ورسول الله(ص) دخل مكَّة فاتحاً، وكانت لا زالت أرض شرك، إلا أنَّه لم يعمل فيهم السّيف، بل اكتفى منهم بالقول: "من دخل بيته كان آمناً". والقول إنّ الدّار دار كفر لعدم رفض المسلمين للظّلم، فهذا القول شبهة واضحة. نعم، رفض الظّلم واجب، والعمل على إزالته كذلك واجب، لكنَّ التقاعس عن ذلك، مع توافر شروطه، معصية، وقد تقدّمت الإجابة عن ذلك من خلال كلام الأمير(ع) عن ذلك.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية