مختارات
29/09/2014

خطوات الحجّ بين الأعمال والمقاصد

خطوات الحجّ بين الأعمال والمقاصد

قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(الحجّ: 27)، مَنْ المُخاطَب في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}؟ للمفسِّرين رأيان؛ الأوّل: أنَّه نبيّ الله إبراهيم(ع، والثَّاني: أنَّه نبيُّنا محمَّد(ص).

والرأي الأوّل هو الأشهر والأقرب، حيث جاءت الآية في سياق قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(الحجّ: 26)، فبعد أنْ أمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم(ع) بإتمام بناء الكعبة المشرَّفة، وإعدادها للطّواف والعبادة، جاءه النّداء: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ...}، أي أعلن للنّاس وجوب الحجّ.

تقول بعض الرِّوايات، إنَّ إبراهيم(ع) قام في المقام فنادى: أيُّها النَّاسُ! إنَّ الله دعاكم إلى الحجِّ، فأجابوا بلبّيكَ اللَّهم لبّيك، فأسمع الله تعالى صوته كلَّ مَنْ علمه، بأنَّه يحجّ إلى يوم القيامة. وفي رواية أخرى: لما أمر الله سبحانه إبراهيم أنْ ينادي في النَّاس بالحجّ، صعد جبل أبي قبيس، ووضع إصبعيه في أذنيه، وقال: يا أيُّها النَّاسُّ، أجيبوا ربَّكُمُ، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال...

وإذا كان نبيُّ الله إبراهيم هو الذي أعلن وجوب شعيرة الحج، فقد جاء الإسلام فأكَّدها، وأوضح الكثير من مناسكِها وأحكامِها وتفصيلاتِها، قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(آل عمران: 97(.

وقال النبيّ محمّد(ص): "مَنْ سوَّف الحجّ حتَّى يموت، بعثه الله يوم القيامة يهوديًّا أو نصرانيًّا".

والحجّ رحلة ربَّانية تنقِّي الإنسان من كلِّ الآثام. وعن النبيّ محمّد(ص): "أيّ رجل خرج من منزله حاجًّا أو معتمرًا، فكلّما رفع قدمًا ووضع قدمًا، تناثرت الذّنوب من بدنه، كما يتناثر الورق من الشّجر".

إنها الرحلة الربانيّة التي تطهِّر الإنسان من تلوّثات الذنوب والمعاصي، فمع أولى خطوات هذه الرّحلة، تبدأ عملة التّطهير والتنقية، فتتساقط الذنوب، والتعبير بتناثر الذنوب من البدن، لأنَّ جوارح البدن هي أدوات المعاصي، فالعين تعصي، والأذن تعصي، واللّسان يعصي، وكذلك بقيّة الجوارح، هكذا تبدأ رحلة العودة إلى الله تعالى.

يتابعُ النبيّ(ص) حديثه فيقول: "فإذا وَرَد ـ أي الحاجّ أو المعتمر ـ المدينة، وصافحني بالسَّلام، صافحته الملائكة بالسَّلام".

إنَّها محطّة من محطّات السير إلى بيت الله، لمن يبدأ بزيارة الحبيب المصطفى(ص)، ليقف على الأرض التي شهدت أقدس تاريخ، ولتتملَّى روحُهُ عشقًا وهيامًا وذوبانًا، وهو يصافح بالسَّلام أعظم إنسانٍ في تاريخ الدّنيا، فيكون الرَّدّ سلامًا مباركًا تحمله الملائكة، ممزوجًا بنفحاتٍ ربَّانيةٍ تزوِّد الحاجَّ أو المعتمر زادًا روحيًّا في قطع أشواط هذا الطريق إلى الله، ليزداد طُهرًا ونقاءً وصفاء.

 

الإحرام

 

ويتحرَّك الحاجُّ أو المعتمر نحو (الميقات)، ليبدأ أوّل منسك من مناسك هذه الرِّحلة، "فإذا ورد ذا الحليفة أو اغتسل، طهَّره الله من الذّنوب، وإذا لبس ثوبين جديدين، جدَّد الله له الحسنات".

إذا نزل الحاجّ أو المعتمر (ميقات الإحرام)، يبدأ بالاغتسال، ناويًا الاغتسال من الخطايا والذّنوب، ويتجرَّد من مخيط الثياب، متجرِّدًا بذلك من الرِّياء والنفاق والدّخول في الشبهات، وهكذا يخلع ثياب المعاصي، ويلبس إحرام الطّاعة، ليبدأ المشوار إلى بيت الله، طاهرًا مطهّرًا نقيًّا تائبًا، معلنًا اللّجوء إلى ربِّه، قائلًا: (لبّيك اللَّهم لبّيك)، فيجيبه الرّبُّ الجليل (لبّيك وسعديك، أسمع كلامك وأنظر إليك...)، فيا له من مقام عظيم! ولو علم الحاج أو المعتمر حينما يلبي في أيّ مقام هو عند ربِّ العزَّة، ما انفتل لحظةً واحدةً من التلبية.

وإذا لبَّى الحاج أو المعتمر، أصبح محرمًا، متحرِّرًا من النزعات الذاتيّة، ملغيًا كلَّ الفوارق المصطبغة، مُسقطًا كلَّ المعايير الزائفة...

 

الطّواف والسّعي

 

ويستمرّ الحجيج والمعتمرون جادِّين السّير إلى بيت الله، وهناك عند البيت العتيق؛ مركز التوحيد، يطوفون ضارعين، باكين، متشبِّهين بالملائكة الطّائفين حول البيت المعمور، ومقتدين بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصَّالحين، وهكذا في طواف ملائكيّ روحيّ ذائب في عشق الله تعالى، مصافحين الحجر، مؤكِّدين البيعة للرَّبّ الجليل.

يسأل الإمام زين العابدين(ع) الشبلي ـ أحد الحجيج الطائفين ـ: "صافحتَ الحجر؟"، فقال الشبليّ: نعم. فصاح الإمامُ زينُ العابدين صيحةً كاد يفارق معها الحياة، وقال: "آهٍ آهٍ، مَنْ صافح الحجر، فقد صافح الله تعالى، فانظر يا مسكين، ولا تضيِّع آجر ما عظم حرمته، وتنقض المصافحة بالمخالفة، وقبض الحرام نظير أهل الآثام".

وعند مقام إبراهيم، يؤدِّي الطّائفون صلاة الطّواف، مستلهمين جهاد إبراهيم الخليل، مقتدين به، ثمَّ يتّجهونَ إلى الصّفا، ساعين إلى المروة في حركة رواح ومجيء، معبِّرين عن اللّجوء والانقياد إلى الله، ومؤكِّدين الإصرار والإرادة، خائفين راجين، في سيرٍ هادف واعٍ. وفي ختام هذا الحراكِ، يقصِّرون متخفِّفين من المعاصي والذنوبِ والآثام. وبذلك، يكون التحلّل والاستراحة والتهيّؤ للمرحلة الثانية من مراحل هذه الرحلة الربَّانية، والتي تبدأ بإحرام جديد، وتأكيد جديد على مواصلة السّير إلى الله تعالى، بروحٍ نقيّة طاهرة.

 

الوقوف في عرفات

 

وفي محطّةٍ هي الأبرز، يقف الحجيج على صعيد عرفات، بدءًا من زوال يوم التّاسع من ذي الحجة، وحتَّى غروب الشَّمس... وهنا، يصل الحجيج إلى قمّة العشق الإلهي، وهنا، تعجُّ الأصواتُ الضّارعة إلى الله، المعترفة بالذّنوب، التّائبة المنيبة إلى ربِّها.

"فإذا وقفوا في عرفات، وضجَّت الأصوات بالحاجاتِ، باهى الله بهم الملائكةَ سبع سمواتٍ، ويقول: يا ملائكتي وسكّانَ سمواتي، أما ترون إلى عبادي أتوني من كلّ فجٍّ عميق، شُعثًا، غبْرًا، قد أنفقوا الأموالَ، وأتعبوا الأبدان، فوعزتي وجلالي، لأهبنَّ مسيئَهم بمحسنهم، ولأخرجنّهم من الذّنوبِ كيوم ولدتهم أمّهاتهم".

عن الإمام علي بن الحسين(ع) قال: "قال رسول الله(ص) لبلال حين همّت الشمّس أنْ تغرب ـ يعني في يوم عرفة ـ: يا بلال، قل للنَّاس فلينصتوا، فلمَّا أنصتوا، قال(ص): إنَّ ربَّكم تطوَّل عليكم في هذا اليوم، فغفر لمحسنكم، وشفع لمحسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفورًا لكم".

وعن رسول الله(ص)، أنه قال: "أعظم أهل عرفات جرمًا، مَنْ انصرف وهو يظنّ أنَّه لم يُغفر له"، وعنه (ص): "من الذّنوب لا تغفر إلا بعرفات".

وإذا غربت الشّمسُ من يوم عرفة، أفاض الحجيج إلى المزدلفة، ذاكرين الله: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ...}(البقرة: 198).

في هذه القطعة من الأرض ـ وهي قطعة من حرم الله ـ يعيش الحجّاج ليلة تأمُّلٍ وتبتّل وتهجُّد وتضرُّع ودعاء... وفي هذه القطعة، يبدأ الاستعداد والتهيّؤ لمواجهة الشّيطان، بالتقاط عددٍ من الحصيات، وفي هذه البقعة، تصبُّ الرَّحمة على العباد.

سأل رجل الإمام الصَّادق(ع) في المسجد الحرام: "مَنْ أعظم النَّاس وزرًا؟"، فقال(ع): "مَنْ يقف بهذين الموقفين عرفة ومزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين، ثمَّ طاف بهذا البيت، وصلَّى خلف مقام إبراهيم، ثمَّ قال وظنَّ في نفسه أنَّ الله لم يغفر له، فهو من أعظم النَّاس وزرًا".

وإذا أشرقت شمس العاشر من ذي الحجة ـ يوم الأضحى ـ تحرك الحجيج إلى (منى)، مكبِّرين ومهلِّلين وضارعين إلى الله، متمنِّين الخيرات والبركات والفيوضات الرَّبانية.

 

منى

 

لماذا سميت هذه الأرض بـ (منى)؟ روي أنَّ جبرائيل لما أراد أنْ يفارق آدم(ع) ـ وكان في هذه البقعة ـ قال له: "تمنَّ"، قال آدم: "أتمنّى الجنَّة".. فسمّيت بذلك لأمنية آدم.

وفي خبر آخر، أنَّ الإمام الرّضا(ع) سئل عن سبب التّسمية، فقال: "لأنَّ جبرائيل(ع)، قال هناك لإبراهيم(ع): تمنَّ على ربِّك ما شئت، فتمنَّى أنْ يجعل الله مكان ولده إسماعيل كبشًا يأمره بذبحه فداءً له، فأعطاه الله مناه".

في منى، يمارس الحجّاج ـ يوم عيد الأضحى ـ ثلاثة أعمال: يرمون جمرة العقبة بسبع حصياتٍ، معبِّرين عن مواجهة الشيطان، ومستذكرين موقف نبيّ اللهِ إبراهيم(ع)، حينما أخذ ابنه إسماعيل ليذبحه امتثالًا لأمر الله تعالى، فاعترضه الشّيطان في موقع العقبة، فقذفه إبراهيم بحصاة وأخرى، حتى أكمل سبعًا، ومضى(ع) مصمِّمًا على تنفيذ الأمر الإلهيّ، فأصبح الرمي سنَّةً تعبِّر عن التحدِّي والإصرار في مواجهة الشّيطان، وكلّ رموز الشّيطان في الأرض.

والعمل الثاني في منى (ذبح الهدي)، في تعبير رمزيّ عن استعداد للتضحية والفداء من أجل الله، ومن أجل المبادئ الحقّة، مهما كان الثمن كبيرًا وغاليًا ومكلفًا، ثمَّ يحلق الحجاج أو يقصرون، متخلِّصين من كلِّ الأوساخ والتلوثات الروحية.

وبذلك، يتحلَّل الحاجّ من كلِّ محرَّمات الإحرام، ما عدا الطيب والنساء والصيد، ثمَّ يقفلون راجعين إلى بيت الله، ليؤدُّوا طواف الزيارة، مؤكِّدين هوية الانتماء إلى خطّ التوحيد، فإذا طافوا وسعوا، وطافوا طواف النّساء، حلَّ لهم الطّيب والنِّساء. وأمَّا صيد الحرم، فهو محرَّم لكلِّ من يكون في الحرم، محرمًا كان أو محلًّا، لقدسية هذه الأرض المشرَّفة.

وفي ليالي التشريق، يبيت الحجّاج في منى، عابدين الله، متضرّعين، شاكرين، حامدين، فليالي التّشريق ـ ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر ـ هي ليالي عبادة، وليالي تقويم ومراجعة ومحاسبة...

وفي نهار هذه الأيام، يمارس الحجّاج رمي الجمار، بدءًا من الجمرة الصّغرى، وانتهاءً بجمرة العقبة، في جولة جديدة في مواجهة الشيطان، لتأكيد استمرار التصدِّي لكلّ غوايات الشيطان وضلالاته وإغراءاته. ولعلَّ جعل الرّمي آخر عمل يمارسه الحجّاج قبل الإفاضة، يحمل دلالةً كبيرة على أنَّ المعركة مع الشيطان مستمرّة ودائمة، فيجب أنْ يكون الإنسان المؤمن معبَّأ إيمانيًّا وثقافيًا وروحيًا وجهاديًا في كلِّ الأوقات، وفي كلِّ الظروف، لمواجهة أعباء هذه المعركة الصَّعبة، فالانتصار على الشّيطان بحاجة إلى استعداد دائم.

وفي الختام، نؤكِّد أنَّ مدرسة الحجّ تصوغ أجيال الأمَّة في خطّ التصدِّي والمواجهة لكلِّ قوى الضّلال في الأرض، ولكلِّ قوى الباطل والانحراف والفساد، وإذا كانت أجيالنا بحاجة إلى تعبئة إيمانيّة ورساليّة وجهاديّة وسياسيّة، فالحجّ الواعي يصنع هذه التعبئة، وبطريقة مُحصَّنة من كلِّ الانحرافات والانزلاقات والمتاهات والضّلالات.

قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(الحجّ: 27)، مَنْ المُخاطَب في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}؟ للمفسِّرين رأيان؛ الأوّل: أنَّه نبيّ الله إبراهيم(ع، والثَّاني: أنَّه نبيُّنا محمَّد(ص).

والرأي الأوّل هو الأشهر والأقرب، حيث جاءت الآية في سياق قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}(الحجّ: 26)، فبعد أنْ أمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم(ع) بإتمام بناء الكعبة المشرَّفة، وإعدادها للطّواف والعبادة، جاءه النّداء: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ...}، أي أعلن للنّاس وجوب الحجّ.

تقول بعض الرِّوايات، إنَّ إبراهيم(ع) قام في المقام فنادى: أيُّها النَّاسُ! إنَّ الله دعاكم إلى الحجِّ، فأجابوا بلبّيكَ اللَّهم لبّيك، فأسمع الله تعالى صوته كلَّ مَنْ علمه، بأنَّه يحجّ إلى يوم القيامة. وفي رواية أخرى: لما أمر الله سبحانه إبراهيم أنْ ينادي في النَّاس بالحجّ، صعد جبل أبي قبيس، ووضع إصبعيه في أذنيه، وقال: يا أيُّها النَّاسُّ، أجيبوا ربَّكُمُ، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال...

وإذا كان نبيُّ الله إبراهيم هو الذي أعلن وجوب شعيرة الحج، فقد جاء الإسلام فأكَّدها، وأوضح الكثير من مناسكِها وأحكامِها وتفصيلاتِها، قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(آل عمران: 97(.

وقال النبيّ محمّد(ص): "مَنْ سوَّف الحجّ حتَّى يموت، بعثه الله يوم القيامة يهوديًّا أو نصرانيًّا".

والحجّ رحلة ربَّانية تنقِّي الإنسان من كلِّ الآثام. وعن النبيّ محمّد(ص): "أيّ رجل خرج من منزله حاجًّا أو معتمرًا، فكلّما رفع قدمًا ووضع قدمًا، تناثرت الذّنوب من بدنه، كما يتناثر الورق من الشّجر".

إنها الرحلة الربانيّة التي تطهِّر الإنسان من تلوّثات الذنوب والمعاصي، فمع أولى خطوات هذه الرّحلة، تبدأ عملة التّطهير والتنقية، فتتساقط الذنوب، والتعبير بتناثر الذنوب من البدن، لأنَّ جوارح البدن هي أدوات المعاصي، فالعين تعصي، والأذن تعصي، واللّسان يعصي، وكذلك بقيّة الجوارح، هكذا تبدأ رحلة العودة إلى الله تعالى.

يتابعُ النبيّ(ص) حديثه فيقول: "فإذا وَرَد ـ أي الحاجّ أو المعتمر ـ المدينة، وصافحني بالسَّلام، صافحته الملائكة بالسَّلام".

إنَّها محطّة من محطّات السير إلى بيت الله، لمن يبدأ بزيارة الحبيب المصطفى(ص)، ليقف على الأرض التي شهدت أقدس تاريخ، ولتتملَّى روحُهُ عشقًا وهيامًا وذوبانًا، وهو يصافح بالسَّلام أعظم إنسانٍ في تاريخ الدّنيا، فيكون الرَّدّ سلامًا مباركًا تحمله الملائكة، ممزوجًا بنفحاتٍ ربَّانيةٍ تزوِّد الحاجَّ أو المعتمر زادًا روحيًّا في قطع أشواط هذا الطريق إلى الله، ليزداد طُهرًا ونقاءً وصفاء.

 

الإحرام

 

ويتحرَّك الحاجُّ أو المعتمر نحو (الميقات)، ليبدأ أوّل منسك من مناسك هذه الرِّحلة، "فإذا ورد ذا الحليفة أو اغتسل، طهَّره الله من الذّنوب، وإذا لبس ثوبين جديدين، جدَّد الله له الحسنات".

إذا نزل الحاجّ أو المعتمر (ميقات الإحرام)، يبدأ بالاغتسال، ناويًا الاغتسال من الخطايا والذّنوب، ويتجرَّد من مخيط الثياب، متجرِّدًا بذلك من الرِّياء والنفاق والدّخول في الشبهات، وهكذا يخلع ثياب المعاصي، ويلبس إحرام الطّاعة، ليبدأ المشوار إلى بيت الله، طاهرًا مطهّرًا نقيًّا تائبًا، معلنًا اللّجوء إلى ربِّه، قائلًا: (لبّيك اللَّهم لبّيك)، فيجيبه الرّبُّ الجليل (لبّيك وسعديك، أسمع كلامك وأنظر إليك...)، فيا له من مقام عظيم! ولو علم الحاج أو المعتمر حينما يلبي في أيّ مقام هو عند ربِّ العزَّة، ما انفتل لحظةً واحدةً من التلبية.

وإذا لبَّى الحاج أو المعتمر، أصبح محرمًا، متحرِّرًا من النزعات الذاتيّة، ملغيًا كلَّ الفوارق المصطبغة، مُسقطًا كلَّ المعايير الزائفة...

 

الطّواف والسّعي

 

ويستمرّ الحجيج والمعتمرون جادِّين السّير إلى بيت الله، وهناك عند البيت العتيق؛ مركز التوحيد، يطوفون ضارعين، باكين، متشبِّهين بالملائكة الطّائفين حول البيت المعمور، ومقتدين بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصَّالحين، وهكذا في طواف ملائكيّ روحيّ ذائب في عشق الله تعالى، مصافحين الحجر، مؤكِّدين البيعة للرَّبّ الجليل.

يسأل الإمام زين العابدين(ع) الشبلي ـ أحد الحجيج الطائفين ـ: "صافحتَ الحجر؟"، فقال الشبليّ: نعم. فصاح الإمامُ زينُ العابدين صيحةً كاد يفارق معها الحياة، وقال: "آهٍ آهٍ، مَنْ صافح الحجر، فقد صافح الله تعالى، فانظر يا مسكين، ولا تضيِّع آجر ما عظم حرمته، وتنقض المصافحة بالمخالفة، وقبض الحرام نظير أهل الآثام".

وعند مقام إبراهيم، يؤدِّي الطّائفون صلاة الطّواف، مستلهمين جهاد إبراهيم الخليل، مقتدين به، ثمَّ يتّجهونَ إلى الصّفا، ساعين إلى المروة في حركة رواح ومجيء، معبِّرين عن اللّجوء والانقياد إلى الله، ومؤكِّدين الإصرار والإرادة، خائفين راجين، في سيرٍ هادف واعٍ. وفي ختام هذا الحراكِ، يقصِّرون متخفِّفين من المعاصي والذنوبِ والآثام. وبذلك، يكون التحلّل والاستراحة والتهيّؤ للمرحلة الثانية من مراحل هذه الرحلة الربَّانية، والتي تبدأ بإحرام جديد، وتأكيد جديد على مواصلة السّير إلى الله تعالى، بروحٍ نقيّة طاهرة.

 

الوقوف في عرفات

 

وفي محطّةٍ هي الأبرز، يقف الحجيج على صعيد عرفات، بدءًا من زوال يوم التّاسع من ذي الحجة، وحتَّى غروب الشَّمس... وهنا، يصل الحجيج إلى قمّة العشق الإلهي، وهنا، تعجُّ الأصواتُ الضّارعة إلى الله، المعترفة بالذّنوب، التّائبة المنيبة إلى ربِّها.

"فإذا وقفوا في عرفات، وضجَّت الأصوات بالحاجاتِ، باهى الله بهم الملائكةَ سبع سمواتٍ، ويقول: يا ملائكتي وسكّانَ سمواتي، أما ترون إلى عبادي أتوني من كلّ فجٍّ عميق، شُعثًا، غبْرًا، قد أنفقوا الأموالَ، وأتعبوا الأبدان، فوعزتي وجلالي، لأهبنَّ مسيئَهم بمحسنهم، ولأخرجنّهم من الذّنوبِ كيوم ولدتهم أمّهاتهم".

عن الإمام علي بن الحسين(ع) قال: "قال رسول الله(ص) لبلال حين همّت الشمّس أنْ تغرب ـ يعني في يوم عرفة ـ: يا بلال، قل للنَّاس فلينصتوا، فلمَّا أنصتوا، قال(ص): إنَّ ربَّكم تطوَّل عليكم في هذا اليوم، فغفر لمحسنكم، وشفع لمحسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفورًا لكم".

وعن رسول الله(ص)، أنه قال: "أعظم أهل عرفات جرمًا، مَنْ انصرف وهو يظنّ أنَّه لم يُغفر له"، وعنه (ص): "من الذّنوب لا تغفر إلا بعرفات".

وإذا غربت الشّمسُ من يوم عرفة، أفاض الحجيج إلى المزدلفة، ذاكرين الله: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ...}(البقرة: 198).

في هذه القطعة من الأرض ـ وهي قطعة من حرم الله ـ يعيش الحجّاج ليلة تأمُّلٍ وتبتّل وتهجُّد وتضرُّع ودعاء... وفي هذه القطعة، يبدأ الاستعداد والتهيّؤ لمواجهة الشّيطان، بالتقاط عددٍ من الحصيات، وفي هذه البقعة، تصبُّ الرَّحمة على العباد.

سأل رجل الإمام الصَّادق(ع) في المسجد الحرام: "مَنْ أعظم النَّاس وزرًا؟"، فقال(ع): "مَنْ يقف بهذين الموقفين عرفة ومزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين، ثمَّ طاف بهذا البيت، وصلَّى خلف مقام إبراهيم، ثمَّ قال وظنَّ في نفسه أنَّ الله لم يغفر له، فهو من أعظم النَّاس وزرًا".

وإذا أشرقت شمس العاشر من ذي الحجة ـ يوم الأضحى ـ تحرك الحجيج إلى (منى)، مكبِّرين ومهلِّلين وضارعين إلى الله، متمنِّين الخيرات والبركات والفيوضات الرَّبانية.

 

منى

 

لماذا سميت هذه الأرض بـ (منى)؟ روي أنَّ جبرائيل لما أراد أنْ يفارق آدم(ع) ـ وكان في هذه البقعة ـ قال له: "تمنَّ"، قال آدم: "أتمنّى الجنَّة".. فسمّيت بذلك لأمنية آدم.

وفي خبر آخر، أنَّ الإمام الرّضا(ع) سئل عن سبب التّسمية، فقال: "لأنَّ جبرائيل(ع)، قال هناك لإبراهيم(ع): تمنَّ على ربِّك ما شئت، فتمنَّى أنْ يجعل الله مكان ولده إسماعيل كبشًا يأمره بذبحه فداءً له، فأعطاه الله مناه".

في منى، يمارس الحجّاج ـ يوم عيد الأضحى ـ ثلاثة أعمال: يرمون جمرة العقبة بسبع حصياتٍ، معبِّرين عن مواجهة الشيطان، ومستذكرين موقف نبيّ اللهِ إبراهيم(ع)، حينما أخذ ابنه إسماعيل ليذبحه امتثالًا لأمر الله تعالى، فاعترضه الشّيطان في موقع العقبة، فقذفه إبراهيم بحصاة وأخرى، حتى أكمل سبعًا، ومضى(ع) مصمِّمًا على تنفيذ الأمر الإلهيّ، فأصبح الرمي سنَّةً تعبِّر عن التحدِّي والإصرار في مواجهة الشّيطان، وكلّ رموز الشّيطان في الأرض.

والعمل الثاني في منى (ذبح الهدي)، في تعبير رمزيّ عن استعداد للتضحية والفداء من أجل الله، ومن أجل المبادئ الحقّة، مهما كان الثمن كبيرًا وغاليًا ومكلفًا، ثمَّ يحلق الحجاج أو يقصرون، متخلِّصين من كلِّ الأوساخ والتلوثات الروحية.

وبذلك، يتحلَّل الحاجّ من كلِّ محرَّمات الإحرام، ما عدا الطيب والنساء والصيد، ثمَّ يقفلون راجعين إلى بيت الله، ليؤدُّوا طواف الزيارة، مؤكِّدين هوية الانتماء إلى خطّ التوحيد، فإذا طافوا وسعوا، وطافوا طواف النّساء، حلَّ لهم الطّيب والنِّساء. وأمَّا صيد الحرم، فهو محرَّم لكلِّ من يكون في الحرم، محرمًا كان أو محلًّا، لقدسية هذه الأرض المشرَّفة.

وفي ليالي التشريق، يبيت الحجّاج في منى، عابدين الله، متضرّعين، شاكرين، حامدين، فليالي التّشريق ـ ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر ـ هي ليالي عبادة، وليالي تقويم ومراجعة ومحاسبة...

وفي نهار هذه الأيام، يمارس الحجّاج رمي الجمار، بدءًا من الجمرة الصّغرى، وانتهاءً بجمرة العقبة، في جولة جديدة في مواجهة الشيطان، لتأكيد استمرار التصدِّي لكلّ غوايات الشيطان وضلالاته وإغراءاته. ولعلَّ جعل الرّمي آخر عمل يمارسه الحجّاج قبل الإفاضة، يحمل دلالةً كبيرة على أنَّ المعركة مع الشيطان مستمرّة ودائمة، فيجب أنْ يكون الإنسان المؤمن معبَّأ إيمانيًّا وثقافيًا وروحيًا وجهاديًا في كلِّ الأوقات، وفي كلِّ الظروف، لمواجهة أعباء هذه المعركة الصَّعبة، فالانتصار على الشّيطان بحاجة إلى استعداد دائم.

وفي الختام، نؤكِّد أنَّ مدرسة الحجّ تصوغ أجيال الأمَّة في خطّ التصدِّي والمواجهة لكلِّ قوى الضّلال في الأرض، ولكلِّ قوى الباطل والانحراف والفساد، وإذا كانت أجيالنا بحاجة إلى تعبئة إيمانيّة ورساليّة وجهاديّة وسياسيّة، فالحجّ الواعي يصنع هذه التعبئة، وبطريقة مُحصَّنة من كلِّ الانحرافات والانزلاقات والمتاهات والضّلالات.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية