"لقد كانت علاقتي بالسيّد موسى الصّدر علاقة أخوّة وصداقة عميقة ممتدّة، لا تمنع أن نختلف في وجهات النظر، وفي تقييم الوقائع أو الأحداث أو الأساليب.. لكنّنا لم نختلف أبداً على الأهداف.. إنّ علاقتي به كانت تتوثّق مع كلّ لقاء بيني وبينه.. لقد عملنا معاً في الساحة الإسلاميّة العامّة، وفي السّاحة اللّبنانيّة.. وقد كنّا نتمثّل معاً خطّ الإسلام الأصيل.. الخطّ الإسلاميّ العقلانيّ الحواريّ المنفتح على الآخر، البعيد عن التعصّب والإلغاء والإقصاء.. وخطّ تشيّع يمد يد التلاقي مع كلّ المسلمين ومع كلّ الوطن".
بهذا التَّعبير، تحدّث السيّد محمد حسين فضل الله عن نوعيَّة العلاقة الّتي كانت تربطه بالإمام الصَّدر، ونوعيَّة الخطّ الذي رسماه معاً.. وهذه العلاقة الّتي بدأت في النّجف، لم تنقطع، وبقيت حتى لحظة الغياب، فهي لم تبنَ أبداً على أسس شخصيّة، أو مجاملات، أو لقاء مصالح طارئة ذاتيّة، بل لقاء الرسالة الواحدة، والهموم الواحدة، والأهداف الواحدة، والتطلّع الواحد.. لقد آمنا بأنَّه لا يمكن أن يكون الإنسان صادقاً في انفتاحه على الآخر المختلف معه في الدّين أو المذهب، إذا كان أشدّ الناس انغلاقاً على داخله.. كما هو حال البعض المنفتح أشدّ الانفتاح على الآخرين، يدعو إلى الحوار وعدم الإلغاء، لكنّه يقصي مَن هو في غير دائرته، ولا يحاوره.
لقد كان لكلٍّ منهما موقعه الَّذي يتحرّك من خلاله، وهذا ليس خافياً.. ولكن كان كلّ واحد منهما عندما يرى نفسه في موقع الآخر يتفهّمه.. وهو ما أشار إليه السيّد في كلمة سمعتها منه: "لو كنت مكان السيّد موسى لفعلتُ ما فعل، ولو كان مكاني لفعل ما فعلتُ".
كانت البداية في النجف، حين درسا معاً، وكانا من هناك يتطلّعان إلى ضرورة إخراج الحوزة الدينيّة من تقليديّتها، لتواكب العصر وما يجري فيه من صراع فكريّ وحضاريّ.. كانا يريدان للحوزة أن تواكب أفكار الشّباب وتطلّعاتهم، وأن تنفتح على الحوزات والمعاهد التي تختلف معها في المذهب أو الدّين.. فللحوزة دور أساس في صقل الشّخصيّات الّتي تحمل همّ الدين وتطوير صورته.
وفي لبنان، انطلقا ليعملا معاً، كلٌّ من موقعه، وفي مجال عمله، وفي ساحته، وكانا يريان في هذا البلد ساحةً خصبة للتّعبير عن عقليهما المنفتحين على الآخر، لكون لبنان ساحة لتنوّع الأديان والثّقافات، ومنبراً للحوار فيما بينها، وساحة حريّة.. فكان جهدهما منصبّاً على تعزيز لغة الحوار، والدّعوة إلى الوحدة الإسلاميّة والوطنيّة، معتبريْن أنّ التّعايش الإسلاميّ المسيحيّ ثروة وغنى، وأنّ التنوّع لا ينبغي أن يكون سبباً للافتراق والتّباعد، بل للتّواصل والحوار.
كانت دعوتهما للّبنانيّين أن يعتبروا لبنان رسالةً لا وطناً، وأنموذجاً لا صدى، وأن ينفتحوا على محيطهم العربي والإسلامي وعلى العالم، ليؤثّروا فيه، وأن لا يسمحوا للآخرين بأن يجعلوا هذا البلد ساحةً لهم، أو رئةً تتنفّس منها مشاكل المنطقة، أو مستقرّاً للفتن، ومصدراً لها.. لقد كان همّهما واحداً في أن يكون لبنان قويّاً؛ وقوّته في قوّته، لا في ضعفه. ولذلك، كان تطلّعهما إلى تقوية الجيش اللبناني، وإلى تعزيز جيش شعبيّ يسند الجيش اللّبناني، ولا يكون بديلاً منه؛ جيش مقاومة، لا جيش طائفة أو مذهب.
لقد وقفا معاً مع المقاومة الفلسطينيّة، ولكن على أساس أن تبقى فلسطين وجهتها، فلا تدخل في لعبة المحاور العربيّة والدوليّة، ولا تكون أداة في صراع أيّ محور، وأن تبقى نقية بنقاء القضية الفلسطينية.
كان لديهما همّ في تقديم إسلام نقيّ صاف، إسلام حركيّ بعيد عن كلّ طائفة أو مذهب، إسلام ينطلق في حدود الإسلام الأصيل وينابيعه الصّافية، ليشارك في صناعة الإنسان. ولذلك، كانت دعوتهما إلى إخراج الفكر الإسلاميّ والفقه الإسلاميّ من الجمود والتقليد والخرافة والغلوّ.
وكان السيّد يدعم الإمام الصّدر في دعوته إلى توحيد الأذان في لبنان، وفي دعوته إلى أن يكون صوم رمضان واحداً، والعيد واحداً، وأن يتمّ ذلك من خلال الأرصاد الجويّة في مطار بيروت، وكان توجّههما واحداً في أهميَّة الأخذ بالحسابات الفلكيّة في بدايات الشهور القمريّة، وخصوصاً شهر رمضان.
كما سعيا إلى تعميق المصالحة بين العقل والعلم والدنيا والدين، واستمرّا على هذا الخطّ، برغم ما واجها من القطاع الدينيّ التقليديّ من حملات، ومن هجمات شرسة شنّتها التيارات الفكريّة والسياسيّة الّتي كانت تعتبر الدّين رجعيّة، وبقي همّهما الأساس نزع فتيل التوتر من كلّ الساحات، سواء بين الأديان، أو المذاهب، أو المواقع السياسية، أو بين الدول العربية والإسلامية، لأنّ التوتر هو السبيل لإضعافها، وإبقائها على هامش الأمم، ونهب مقدراتها وثرواتها، وجعل الكيان الصهيوني هو الأقوى في المنطقة.
ولذلك، كانت دعوتهما إلى وعي مخاطر أيّة فتنة، لأنّ الفتن الكلّ فيها خاسرون، وإلى تعزيز التواصل الّذي يزيل الهواجس والمخاوف، وإلى تأكيد القواسم المشتركة، والفهم للآخر، وإزالة الظّلم والشّعور بالظّلم، فالجهل والظّلم غالباً ما يكونان رافعة للتوتّر أو حواضن لدعاة الفتنة.
في زمن تأجيج الفتن وإثارة العصبيّات والغرائز المذهبيَّة والطائفيَّة، نحن بحاجة إلى استعادة هذين العلمين، لنستعيد معهما كلّ هذه الصّورة المشرقة، ولنواجه بهما كلّ دعوات التّكفير والإلغاء والإقصاء. ونحن لا نرى في هذه الدعوات عبثاً بصورة الإسلام، وخروجاً عنه فقط، بل نرى في وجودها حرباً على الإسلام، ليبدو هذا الدين، حتى في نظر معتنقيه، مشكلة للحياة، ومشكلة للمسلمين وللمسيحيّين ولليزيديّين، ولكلّ العالم.
لذلك، فإنَّ الدّعوة في هذه المرحلة هي إلى التّكاتف في وجه هذه الظّاهرة، ولا يعتقدنّ أحد أنّه سيستفيد منها، لأنّ من سيستفيد منها الآن هو خاسر غداً أو بعد غد. هذه الظاهرة طارئة، ولا تمتّ إلى تاريخ الإسلام بصلة، لأنّه كان دائماً تاريخ تعايش المساجد والكنائس وكلّ المعابد الأخرى وتلاقيها.
* جريدة السفير اللّبنانيّة عن كلمة في بلدة عيناثا الجنوبيّة