مختارات
22/09/2014

الجهاد.. العنف

الجهاد.. العنف

الجهاد.. العنف.. مع أنَّ هذين العنوانين يبدوان متباينين ومختلفين من حيث المعنى والمفهوم، إلا أنه ما يزال يحصل خلط بينهما، واعتبارهما شيئاً واحداً، تارةً عند الجهلاء من المسلمين، وأخرى عند المغرضين، الذين يبحثون عن ثغرة يدخلون منها للطَّعن بالإسلام.

في هذه المقالة، محاولة لاستقراء هذه المفاهيم عند سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، لنرى كيف قارنها، وأعطى للجهاد مفهومه ومعناه الحقيقيّ في الإسلام، وأسسه القائمة عليها، فصحيح أنَّ الجهاد يحمل عنفاً، لكنّه يحتاج إلى أسباب واقعيّة وموضوعيّة.

الجهاد وأسبابه

يؤكّد سماحته أن الجهاد ليس "العنف ضد الآخر في سبيل إجبار الناس على الدخول في الإسلام"، لأن من يقول ذلك، لم يدرس فلسفة الجهاد وخلفيّاته في الإسلام.

رفع العدوان والظّلم:

هذا هو أحد الأسباب الحقيقيّة للجهاد، فإذا وقع ظلم أو عدوان على فئة من الناس، فإنَّ من حقّ هذه الفئة أن تدافع عن نفسها، وهذا ينسجم تمام الانسجام مع الحالة الإنسانيّة العامة في دفع الأعداء وأخطارهم، والقرآن صريح بأنّ الاختلاف في الدين أو المذهب لا يبرّر القتال، وأنّ ما يبرّره هو وقوع العدوان والظّلم من الطرف الآخر.

وهذا العدوان وهذا الظّلم، قد يأتي من داخل الدّائرة الإسلاميّة، يقول تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الحجرات: 9]، والبغي في الآية، هو تعبير آخر عن العدوان.

وقد يأتي هذا العدوان من خارج الدائرة الإسلامية، يقول تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة: 8، 9]، فإنّ الآية واضحة في أنّ الاختلاف في الدّين لا يبرّر القتال، والبغي الذي تحدّثت عنه الآية هو تعبير آخر عن العدوان.

الدّفاع عن المستضعفين:

يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ...}. إنّ المستضعفين هم الذين لا يملكون عناصر القوّة في مجتمعهم، فلا يملكون مالاً يجعلهم في الموقع الاقتصاديّ المتقدّم، أو أكثريّة في المجتمع، حيث يكوّنون قوّة اجتماعيّة، ولا سلاحاً يجعل منهم قوّة عسكريّة، فهم يعيشون الظّلم السياسي، فلا يملكون الحريّات السياسيّة، وهناك ظلم اجتماعي، فهم لا يمثّلون وضعاً اجتماعياً معيّناً، من خلال الخطوط الاجتماعيّة التي يتنوع فيها الناس.

فالقتال لرفع الظلم عن هؤلاء المستضعفين، هو قتال في سبيل الله، فالذين يريدون مصادرة ثروات المؤمنين، أو الذين يريدون الضغط على الحريات الفكرية والدينية الإسلامية، هؤلاء يعتبر القتال ضدهم قتالاً في سبيل الله، ومواجهتهم قتالاً في سبيل الله.

وهذا يعني أنَّ القتال إنما شرِّع ليكون في سبيل الدفاع عن المستضعفين، ورفع الظلم والعدوان عنهم، واعتبره القرآن الكريم قتالاً في سبيل الله.

الدّفاع عن النفس:

وكذلك، القتال دفاعاً عن النفس هو قتال في سبيل الله تعالى، {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: 190].. فالذي يريد فرض القتال على المسلمين، يجوز قتاله، وإنّ المبدأ الأساس لهذا القتال الدّفاعيّ، هو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194].

لا قتال لفرض العقيدة:

العقيدة حالة قلبية تحتاج إلى البرهان والدليل، حتى تكون نابعة من اختيار واعتقاد وإيمان، لذا فإن الإسلام لم يشرّع القتال بهدف إكراه الناس على الدخول في الإسلام.

وهناك عدة آيات أشارت إلى الكيفية التي يجب أن يخاطب رسول الله الناس بها: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125].

وفي آية أخرى، يقول: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99]، ونظيرتها قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة: 256].

هنا، يأتي سؤال حول القتال الذي خاضه رسول الله(ص) مع المشركين من أهل مكة واليهود من أهل الكتاب، هل كان دفاعياً ووقائياً؟

وسبب هذا السؤال هو وجود آية توحي بأن القتال حصل لمجرّد فرض العقيدة، وهي قوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}[الفتح: 16].

يجيب عن هذا السؤال سماحة السيد(قده)، بأنّ هذا القتال جاء في سياق تاريخي خاصّ، لأنّ الإسلام هو الوسيلة التي تسقط عدوانهم، مع أن النبي(ص) كان يقبل من يسلم ظاهرياً من دون أن يعتقد الإسلام حقيقةً، لأنّ الدّخول في الإسلام، ولو بهذا الشكل، يمثّل تجسيداً للذين يحاولون العدوان على المجتمع الإسلامي، بل وإدخالهم في المجتمع الإسلامي، ليكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.

والقول إنّ هذه الآية جاءت في سياق تاريخيّ خاصّ، يعني أنّ هذا حكم خاصّ بالنبي(ص)، وفي زمانه هو فقط، ولا يشمل غيره من الحكام المسلمين، وزمان آخر غير زمانه، فلا يجب قتال الآخرين ليدخلوا في الإسلام، وقد لا يجوز هذا القتال.

نتيجة ما تقدّم، إن الجهاد يُثار حوله الكثير من الالتباسات، بهدف صرفه عن حقيقته، بغية تزوير التاريخ الإسلامي، كما هي عادة المشرقين الغربيين في نعت الإسلام بأنه دين السيف، أي الدين الذي يقوم على الإكراه والإجبار والتسلط والقهر، في محاولة لتجريده من لباس المنطق والعقل والأخلاق.

فالإسلام ليس ديناً يقمع الآخر، ولا يحمل سيفاً مسلطاً على العالم، من أجل أن يقتل كلّ من خالفه، وقضيّة الجهاد هي تماماً كأيّة قضيّة تنطلق في مواجهة الظّلم والقمع، تماماً كما هو العالم في كلّ حضاراته، فنحن عندنا الجهاد، والآخرون عندهم النّضال والكفاح.

العنـف:

هل الإسلام دين العنف؟ هل العنف هو خطّ التعامل مع الآخر عندما نختلف معه في خطوطنا الفكرية والمذهبية؟

نحن لا نريد أن نقول إنّ الإسلام ليس دين العنف، وليس دين الإرهاب، ولا نريد أن نقول إنه دين الرفق ليرضى الآخرون، بل نريد أن نقول إنّ الإسلام هو دين الإنسان.

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: 24]، فالدين جاء لخدمة الإنسان، والدين هو للحياة، وإذا كان للحياة، فهو من نوعها، والحياة رفق وعنف.

لذلك، نقول إنّ الدّين هو دين الواقعيّة التي قد تحتضن الرفق في الحياة العامة للإنسان، وقد تحتضن العنف كضرورة أو استثناء.

وهذا الأمر موجود في كلّ الحضارات الّتي مرّت على الإنسان، فكلّ الحضارات لم تكن حضارة عنف بالمطلق، ولا حضارة رفق بالمطلق.. لذلك، لا بدّ من التفريق بين نوعين من العنف: العنف الفكري، والعنف الجسدي.

في العنف الفكري، من الطبيعي أن تعيش الفكرة في عنف المعاني التي تختزنها، لأن الفكرة ليست حالة تخضع للمجاملة. كن عنيفاً في مناقشة الفكرة لتأصيلها، لأنه لا مجال للتسامح في تأصيل الفكرة.

أما في حالة تقديم الفكرة للآخرين، فلم يمارس الإسلام هذه الفكرة بطريقة العنف الجسدي، بل بأسلوب مناقشة الفكرة، لذلك، نجد القرآن خاطب رسول الله(ص) بقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، فقد دعاه إلى تقديم الفكرة للآخرين بطريقة هادئة، بعيدة عن أيّ عنف جسدي.

وقال أيضاً: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46]، فالقرآن هنا سمى اليهود والمسيحيّين بأهل كتاب، احتراماً لدينهم الّذي يعتنقونه، ليفتح معهم باب الحوار الهادئ، وليستطيع أن يوصل الفكرة التي يريد.

وقال تعالى أيضاً: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}، إنها دعوة للوقوف على الأرض المشتركة.

وإذا حصلت الاختلافات، سواء على المستوى الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي، علينا أن نواجهها بأسلوب الرفق واللين؛ الأسلوب الذي يوحي بالسلام، لا أسلوب العنف، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}، أو {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34].

فسواء كانت العداوة شخصيّة أو عقائديّة، لا بدّ من الكلمة الأحسن والأسلوب الأحسن، فكّر في الحلّ الذي يحوّل عدوك إلى صديق، لا صديق عادي، وإنما صديق حميم؛ صديق يحتضنك، يحتضن فكرك وإنسانيّتك وقضيّتك.

والنّتيجة لما تقدّم، أنّ الإسلام لم يستعمل العنف الجسديّ في تقديم أفكاره وطروحاته للآخرين، بل أوصى رسول الله(ص) بأن يستعمل أسلوب الحوار الهادئ، فيختار الكلمة الأحسن والأسلوب الأحسن، وأن يحترم عقائد الآخرين، ليكون ذلك باباً للدّخول إلى عقولهم وقلوبهم، ليستطيع إقناعهم بعقيدته وقضيّته، لأنّ الحوار الهادئ هو الطّريق لذلك.

إنّ القتال الذي مارسه رسول الله(ص) هو في حالات استثنائيّة خاصّة، فرضتها الظروف التي عاشها مع المشركين الّذين أرادوا القضاء على دينه ومجتمعه وشخصه وعلى المسلمين، فقتاله كان قتالاً دفاعياً.

ثم إنّ الجهاد الّذي فرضه الله تعالى هو بهدف ردّ العدوان ورفع الظلم عن المستضعفين، وليس بهدف فرض العقيدة أو الدّين على الآخرين...


الجهاد.. العنف.. مع أنَّ هذين العنوانين يبدوان متباينين ومختلفين من حيث المعنى والمفهوم، إلا أنه ما يزال يحصل خلط بينهما، واعتبارهما شيئاً واحداً، تارةً عند الجهلاء من المسلمين، وأخرى عند المغرضين، الذين يبحثون عن ثغرة يدخلون منها للطَّعن بالإسلام.

في هذه المقالة، محاولة لاستقراء هذه المفاهيم عند سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله، لنرى كيف قارنها، وأعطى للجهاد مفهومه ومعناه الحقيقيّ في الإسلام، وأسسه القائمة عليها، فصحيح أنَّ الجهاد يحمل عنفاً، لكنّه يحتاج إلى أسباب واقعيّة وموضوعيّة.

الجهاد وأسبابه

يؤكّد سماحته أن الجهاد ليس "العنف ضد الآخر في سبيل إجبار الناس على الدخول في الإسلام"، لأن من يقول ذلك، لم يدرس فلسفة الجهاد وخلفيّاته في الإسلام.

رفع العدوان والظّلم:

هذا هو أحد الأسباب الحقيقيّة للجهاد، فإذا وقع ظلم أو عدوان على فئة من الناس، فإنَّ من حقّ هذه الفئة أن تدافع عن نفسها، وهذا ينسجم تمام الانسجام مع الحالة الإنسانيّة العامة في دفع الأعداء وأخطارهم، والقرآن صريح بأنّ الاختلاف في الدين أو المذهب لا يبرّر القتال، وأنّ ما يبرّره هو وقوع العدوان والظّلم من الطرف الآخر.

وهذا العدوان وهذا الظّلم، قد يأتي من داخل الدّائرة الإسلاميّة، يقول تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الحجرات: 9]، والبغي في الآية، هو تعبير آخر عن العدوان.

وقد يأتي هذا العدوان من خارج الدائرة الإسلامية، يقول تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة: 8، 9]، فإنّ الآية واضحة في أنّ الاختلاف في الدّين لا يبرّر القتال، والبغي الذي تحدّثت عنه الآية هو تعبير آخر عن العدوان.

الدّفاع عن المستضعفين:

يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ...}. إنّ المستضعفين هم الذين لا يملكون عناصر القوّة في مجتمعهم، فلا يملكون مالاً يجعلهم في الموقع الاقتصاديّ المتقدّم، أو أكثريّة في المجتمع، حيث يكوّنون قوّة اجتماعيّة، ولا سلاحاً يجعل منهم قوّة عسكريّة، فهم يعيشون الظّلم السياسي، فلا يملكون الحريّات السياسيّة، وهناك ظلم اجتماعي، فهم لا يمثّلون وضعاً اجتماعياً معيّناً، من خلال الخطوط الاجتماعيّة التي يتنوع فيها الناس.

فالقتال لرفع الظلم عن هؤلاء المستضعفين، هو قتال في سبيل الله، فالذين يريدون مصادرة ثروات المؤمنين، أو الذين يريدون الضغط على الحريات الفكرية والدينية الإسلامية، هؤلاء يعتبر القتال ضدهم قتالاً في سبيل الله، ومواجهتهم قتالاً في سبيل الله.

وهذا يعني أنَّ القتال إنما شرِّع ليكون في سبيل الدفاع عن المستضعفين، ورفع الظلم والعدوان عنهم، واعتبره القرآن الكريم قتالاً في سبيل الله.

الدّفاع عن النفس:

وكذلك، القتال دفاعاً عن النفس هو قتال في سبيل الله تعالى، {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة: 190].. فالذي يريد فرض القتال على المسلمين، يجوز قتاله، وإنّ المبدأ الأساس لهذا القتال الدّفاعيّ، هو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194].

لا قتال لفرض العقيدة:

العقيدة حالة قلبية تحتاج إلى البرهان والدليل، حتى تكون نابعة من اختيار واعتقاد وإيمان، لذا فإن الإسلام لم يشرّع القتال بهدف إكراه الناس على الدخول في الإسلام.

وهناك عدة آيات أشارت إلى الكيفية التي يجب أن يخاطب رسول الله الناس بها: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125].

وفي آية أخرى، يقول: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99]، ونظيرتها قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة: 256].

هنا، يأتي سؤال حول القتال الذي خاضه رسول الله(ص) مع المشركين من أهل مكة واليهود من أهل الكتاب، هل كان دفاعياً ووقائياً؟

وسبب هذا السؤال هو وجود آية توحي بأن القتال حصل لمجرّد فرض العقيدة، وهي قوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}[الفتح: 16].

يجيب عن هذا السؤال سماحة السيد(قده)، بأنّ هذا القتال جاء في سياق تاريخي خاصّ، لأنّ الإسلام هو الوسيلة التي تسقط عدوانهم، مع أن النبي(ص) كان يقبل من يسلم ظاهرياً من دون أن يعتقد الإسلام حقيقةً، لأنّ الدّخول في الإسلام، ولو بهذا الشكل، يمثّل تجسيداً للذين يحاولون العدوان على المجتمع الإسلامي، بل وإدخالهم في المجتمع الإسلامي، ليكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.

والقول إنّ هذه الآية جاءت في سياق تاريخيّ خاصّ، يعني أنّ هذا حكم خاصّ بالنبي(ص)، وفي زمانه هو فقط، ولا يشمل غيره من الحكام المسلمين، وزمان آخر غير زمانه، فلا يجب قتال الآخرين ليدخلوا في الإسلام، وقد لا يجوز هذا القتال.

نتيجة ما تقدّم، إن الجهاد يُثار حوله الكثير من الالتباسات، بهدف صرفه عن حقيقته، بغية تزوير التاريخ الإسلامي، كما هي عادة المشرقين الغربيين في نعت الإسلام بأنه دين السيف، أي الدين الذي يقوم على الإكراه والإجبار والتسلط والقهر، في محاولة لتجريده من لباس المنطق والعقل والأخلاق.

فالإسلام ليس ديناً يقمع الآخر، ولا يحمل سيفاً مسلطاً على العالم، من أجل أن يقتل كلّ من خالفه، وقضيّة الجهاد هي تماماً كأيّة قضيّة تنطلق في مواجهة الظّلم والقمع، تماماً كما هو العالم في كلّ حضاراته، فنحن عندنا الجهاد، والآخرون عندهم النّضال والكفاح.

العنـف:

هل الإسلام دين العنف؟ هل العنف هو خطّ التعامل مع الآخر عندما نختلف معه في خطوطنا الفكرية والمذهبية؟

نحن لا نريد أن نقول إنّ الإسلام ليس دين العنف، وليس دين الإرهاب، ولا نريد أن نقول إنه دين الرفق ليرضى الآخرون، بل نريد أن نقول إنّ الإسلام هو دين الإنسان.

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: 24]، فالدين جاء لخدمة الإنسان، والدين هو للحياة، وإذا كان للحياة، فهو من نوعها، والحياة رفق وعنف.

لذلك، نقول إنّ الدّين هو دين الواقعيّة التي قد تحتضن الرفق في الحياة العامة للإنسان، وقد تحتضن العنف كضرورة أو استثناء.

وهذا الأمر موجود في كلّ الحضارات الّتي مرّت على الإنسان، فكلّ الحضارات لم تكن حضارة عنف بالمطلق، ولا حضارة رفق بالمطلق.. لذلك، لا بدّ من التفريق بين نوعين من العنف: العنف الفكري، والعنف الجسدي.

في العنف الفكري، من الطبيعي أن تعيش الفكرة في عنف المعاني التي تختزنها، لأن الفكرة ليست حالة تخضع للمجاملة. كن عنيفاً في مناقشة الفكرة لتأصيلها، لأنه لا مجال للتسامح في تأصيل الفكرة.

أما في حالة تقديم الفكرة للآخرين، فلم يمارس الإسلام هذه الفكرة بطريقة العنف الجسدي، بل بأسلوب مناقشة الفكرة، لذلك، نجد القرآن خاطب رسول الله(ص) بقوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، فقد دعاه إلى تقديم الفكرة للآخرين بطريقة هادئة، بعيدة عن أيّ عنف جسدي.

وقال أيضاً: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46]، فالقرآن هنا سمى اليهود والمسيحيّين بأهل كتاب، احتراماً لدينهم الّذي يعتنقونه، ليفتح معهم باب الحوار الهادئ، وليستطيع أن يوصل الفكرة التي يريد.

وقال تعالى أيضاً: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}، إنها دعوة للوقوف على الأرض المشتركة.

وإذا حصلت الاختلافات، سواء على المستوى الثقافي أو السياسي أو الاجتماعي، علينا أن نواجهها بأسلوب الرفق واللين؛ الأسلوب الذي يوحي بالسلام، لا أسلوب العنف، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}، أو {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34].

فسواء كانت العداوة شخصيّة أو عقائديّة، لا بدّ من الكلمة الأحسن والأسلوب الأحسن، فكّر في الحلّ الذي يحوّل عدوك إلى صديق، لا صديق عادي، وإنما صديق حميم؛ صديق يحتضنك، يحتضن فكرك وإنسانيّتك وقضيّتك.

والنّتيجة لما تقدّم، أنّ الإسلام لم يستعمل العنف الجسديّ في تقديم أفكاره وطروحاته للآخرين، بل أوصى رسول الله(ص) بأن يستعمل أسلوب الحوار الهادئ، فيختار الكلمة الأحسن والأسلوب الأحسن، وأن يحترم عقائد الآخرين، ليكون ذلك باباً للدّخول إلى عقولهم وقلوبهم، ليستطيع إقناعهم بعقيدته وقضيّته، لأنّ الحوار الهادئ هو الطّريق لذلك.

إنّ القتال الذي مارسه رسول الله(ص) هو في حالات استثنائيّة خاصّة، فرضتها الظروف التي عاشها مع المشركين الّذين أرادوا القضاء على دينه ومجتمعه وشخصه وعلى المسلمين، فقتاله كان قتالاً دفاعياً.

ثم إنّ الجهاد الّذي فرضه الله تعالى هو بهدف ردّ العدوان ورفع الظلم عن المستضعفين، وليس بهدف فرض العقيدة أو الدّين على الآخرين...

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية