الخطاب الإسلامي بين الماضي والحاضر
منذ أمد ليس بالقصير، جاهر أفراد من أُمّتنا بالدّعوة إلى الانقطاع عن الماضي والتاريخ، معتبرين أنّ ذلك هو الخطوة الأولى على طريق تقدّم الأُمّة والتحاقها بركب التطوّر الحضاريّ، وهكذا، شهدنا مَنْ يسعى ـ تنظيراً وعملاً ـ نحو الانعتاق من الجذور والتراث، بحجّة كونه عقبةً كأداء تتعارض مع التطوّر الحضاري والتقدّم العلمي، وتعترض مسيرتهما، وكان الحلّ الأمثل عند هؤلاء في تقليد الغرب ومحاكاته، واستنساخ تجربته، والتخلّق بأخلاقه.
وفي المقابل، شهدنا ولا نزال نشهد الكثير من المدارس التي تنظر إلى الماضي بقداسة، وتسعى إلى استعادته واستنساخه برمّته، من دون تمييز بين غثِّه وسمينه، ثابته ومتغيّره، معتبرةً أنّ سعادة الأُمّة وعزّتها، تكمن في ذلك، وأنّ تأخّرها وهزيمتها بدآ عندما انقطعت عن تاريخها، ولهذا، يتوجّس هؤلاء من كلِّ جديد، ويحاربون كلّ حادث لأنّه بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، ولا نزال إلى يومنا هذا نسمع عن أشخاص يرفضون الوقوف أمام آلات التصوير(الكاميرات)، أو يعتقدون أنّ الأرض مسطّحة وليست كرويّة!
إنّ شطط[1] أولئك، وسطحيّة هؤلاء، خلقت ردود فعل عنيفة بين الطّرفين إزاء بعضهما البعض، تمثّلت تعبيراتها وتجلّت في التكفير أو التبديع[2]، الّذي يلهج به لسان الماضويّين تجاه خصومهم، أو في الخروج على الآداب الإسلاميّة، والتهجّم على المقدّسات الذي يقع فيه المنبهرون بالحضارة الغربيّة، وهذا ما أوجد في واقع الأُمّة مدرستين متضادتين، لا يزال الصراع بينهما يشتدّ تارة، ويخبو أخرى.
وفي قبال هاتين المدرستين، برزت مدرسة ثالثة وسطيّة، تبنّاها جَمْع من علماء الأُمّة ومثقّفيها، وتميّزت برفضها لاستنساخ الماضي واستنساخ تجربة الآخرين على السّواء، ولا سيّما التجربة الغربية، كما أنّها رفضت القطيعة مع الماضي، أو القطيعة مع الآخرين وتجاربهم. وإنّنا نعتقد أنّ هذه المدرسة الوسطيّة هي المدرسة الصّحيحة، لانسجامها مع روح الإسلام ومقاصده ونصوصه.
القطيعة مع التراث
إنّ الدّعوة إلى القطيعة مع التراث، واعتباره سبباً في تخلّف الأُمّة وتراجعها، هي دعوة مجانبة للحقيقة ومجافية للواقع، وهي تنطلق في الحقيقة من قياس خاطئ وجهل بيّن، فقد رأى هؤلاء أنّ النهضة الأوروبيَّة لم تنجح إلا بعد أن تخلّصت أوروبّا من قيود الكنيسة وهيمنتها، لأنّ الكنيسة في القرون الوسطى غلب عليها التحجّر والجمود، فوقفت بوجه المسيرة الحضاريّة، وحالت دون تكاملها، ولم تنطلق العلوم أو تزدهر إلا بعد إقصاء الدّين عن التّأثير في الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة، لكنّنا نعتقد أنّ قياس حال الأُمّة الإسلاميَّة على الواقع الغربي، قياس غير منطقيّ، وينطلق من مفردة جزئية، ثم يعمّم الحكم على المجتمعات الأخرى بأحكام كليّة لا يمكن إصدارها إلا بعد استقراء الكثير من الجزئيّات، واكتشاف تشابهها في الخصوصيّة[3].
ولدى دراسة تاريخنا الإسلاميّ، نجد أنَّ المسيرة الحضاريّة الّتي شهدتها الأمَّة، ما كانت لتنجح لولا حضانة علماء المسلمين وفقهائهم وحكّامهم لها، وحمايتها ودعمها، ولا نجد الفقهاء ـ في الأعمّ الأغلب ـ واقفين حجر عثرة في وجه التطوّر العلميّ، أو يرون فيه تعدّياً على صلاحياتهم، أو مقوّضاً لمكانتهم، أو يشكّل تجديفاً بالخالق، واعتداءً على ذاته المقدّسة وصلاحياته في إدارة الكون. وإدراكاً منه لهذا الفارق الموضوعيّ بين الواقع الإسلامي والواقع الغربي، قال أحد علماء المسلمين (الشيخ محمد عبده) كلمته الشّهيرة: "إنّ أوروبا تركت الدّين فتقدّمت، وتركناه فتخلّفنا".
استحضار الماضي
ولكن لسائل أن يسأل: لماذا هذا الإلحاح على استعادة الماضي واستحضاره، مع أنّ تحدّيات الحاضر تحاصرنا، وتجعل الأرض تهتزّ تحت أقدامنا، وتهدّد حاضرنا ومستقبلنا؟! أوليست الأُمّة المنهزمة هي الّتي تلحّ على الهروب إلى ماضيها المجيد، لتشعر بتعويض نفسيّ عن تقهقرها وانهزامها؟ وإلى متى يبقى الانشداد نحو الماضي بطريقةٍ تعمل على استحضاره بكلّ تفاصيله ومآسيه، وتسعى إلى استنساخه؟ إلى متى يبقى ذلك هو الصّفة التي تطغى على الخطاب الإسلاميّ على مستوى الظاهرة؟!
ولنا أن نقول تعليقاً على ذلك: إنّ في هذا الكلام قدراً كبيراً من الصحّة، إلا أنّ ذلك لا يبرّر القطيعة مع التراث، بل يدعونا إلى التأمّل في كيفيّة استعادته وتوظيفه، ويمكننا أن نذكر في هذا الصّدد عدّة أمور:
ـ إنّ علينا عندما ندرس التاريخ، أن لا ندرسه دراسة مَنْ يريد أن يتجمّد فيه ويعود إلى الوراء، بل دراسة مَنْ يريد أن يميّز صفوه من كدره، وإيجابيّاته من سلبيّاته، دراسة مَنْ يقرأه بوعي ليتعرّف إلى سننه وقواعده الحاكمة على مسيرته، ليعرف ـ على ضوء ذلك ـ كيف يتحرّك في الحاضر، ويساهم في صنع المستقبل، وعلى هذا، تغدو دراسة التاريخ أمراً ضروريّاً وملحّاً، بدل أن تكون أمراً عبثيّاً، وقد تحدّث الإمام عليّ(ع) في وصيّته لابنه الإمام الحسن(ع) عن كيفية دراسة التاريخ وأهدافها، فقال: "أي بنيّ، إنّي وإن لم أكن عُمّرت عمر مَنْ كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم، قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله، وتوخّيت لك جميله"[4].
ـ إنّنا عندما نعود إلى هذا التّاريخ، فلأنّه يمثِّل في صوره المشرقة ونماذجه الحيَّة، جزءاً من هويّتنا، ومَنْ يتنكّر لهويّته، فإنّه لا يحترم نفسه، وبالتّالي، لن يحترمه العالم، وسيبقى على هامش الحياة.
إنّ في هذا التاريخ محطّات للحقّ والعدل، وهي لا تعرف الزّمن، ولنا فيه مُثلٌ عُليا نحن بأمسّ الحاجة إلى الاقتداء بها والاستفادة من تجاربها، في زمن أصبحت أُمّتنا تستورد المُثُل والأفكار والأخلاق، كما لو كانت تستورد موادّ الزّراعة والصّناعة، ويزيد الأمر خطورةً هجوم العولمة الكاسح، الّذي يلغي كلّ خصوصيّات الأُمم الثقافيّة والفكريّة، كما يبتلع اقتصادها ومواردها الماليّة.
ـ إنَّ علينا عندما نستعيد تاريخنا المليء بالمآسي والأحداث المريرة، أن نستعيده بكلّ موضوعيّة وعقلانيّة، وفي سياق أخذ العبر والدّروس منه، كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[5]، وليس في سياق تأجيج العصبيّات الدينيّة وإثارة النعرات المذهبيّة والقوميّة والعرقيّة الّتي تهدف إلى تمزيق الأُمّة وتشتيتها إلى أحزاب وفرقٍ تتصارع على التاريخ وباسم رجالاته، وذلك انسجاماً مع القاعدة القرآنيّة القائلة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[6].
الخطاب الإسلامي المعاصر وتوظيف التاريخ
إنّ الرّاصد للخطاب الإسلامي المعاصر، لا يحتاج إلى عناء كثير ليكتشف أنّ فيه كثيراً من الثغرات والعثرات، فيما يرتبط بالتعاطي مع التاريخ وتوظيفه في قضايا الأُمّة، فإنّ بعض المدارس ما فتئت تعبّئ الأُمّة بأحقاد تاريخيّة، بما يمنع من تواصلها وتلاقيها، أو أنّها تعمل على استنساخ الماضي وتكراره واجتراره، بطريقة تُشعرك بأنّها تريد لعقرب الحياة أن يعود إلى الوراء، أو أنّها تستغرق في زهو الماضي وانتصاراته وإنجازاته، بما يُنسيك الحاضر، ويجعلك تطيل الوقوف على الأطلال والتغنّي بذكرى الأجداد، من دون أن يكون هناك سعي أو تفكير في استعادة تلك الأمجاد وتشييد تلك الأطلال.
ومما يميّز خطاب الجماعات السلفيّة، أنّه خطاب موغل في التّاريخ، ويعمل على استحضار كلّ مفرداته وأسلحته من الماضي، وهذا الأمر قد يعطيه جاذبيّة و"مشروعيّة" خاصّة لدى جمهور المسلمين، الّذين ينظرون إلى الظّواهر، فيرون أنّ هذا الخطاب يستحضر كلّ مفرادته من عصر النبيّ(ص)، بما في ذلك التسميات أو الكنى التي يُطلقها على أتباعه.
بيد أنّه في الوقت عينه، يظلّ أسير الماضي، ولا يطلّ على مستجدّات العصر، ولا يستطيع أن يواكب الإنسان المعاصر.
الخلط بين المقدَّس وغيره
وإنّنا نرى أنَّ السَّبب الرّئيس الكامن وراء هذه الثغرات والأخطاء، هو عدم إدراك وظيفة الخطاب الإسلاميّ ودوره في عمليّة النهوض بالأُمّة، ما يكشف عن اختلال المقاييس والموازين التي تجعل المسلم يميّز بين المقدّس وغير المقدّس من التراث، وتمنعه من الخلط بين ما هو تاريخي وما هو عقائدي، أو بين ما هو تاريخي وما هو تشريعي.
ومن أمثلة الخلط بين التاريخي والعقائدي، الخَلْط بين منصبَي الإمامة والخلافة الثابتَيْن لأئمّة أهل البيت(ع) ـ حسب اعتقاد الشيعة ـ مع فارق رئيس بين المنصبَين، فالإمامة بما تمثّله من استمرار مهمّ للرسالة دون نبوّة، هي منصب ديني يدخل في دائرة المقدّس والعقائدي، بينما الخلافة بما تعنيه من ولاية سياسية وتنفيذية تعنى بحفظ النظام العام، هي مجرّد منصب زمني يمكن انفكاكه عن الإمام، دون أن يضرّ ذلك بإمامته، كما حصل عمليّاً مع معظم أئمّة أهل البيت(ع)، حيث أُقصوا عن حقّهم في الخلافة، ولعلّه لذلك، نجد أنّ جُلّ ما ورد عن رسول الله(ص) بشأن عليّ(ع) والأئمّة من وِلْده، قد ركّز على إمامتهم ومرجعيّتهم العلميّة والفكريّة، أكثر ممّا ركّز على مرجعيّتهم السياسيّة.
ويُعتبر الفقيه الكبير السيّد البروجردي من أوائل مَنْ تنبّه إلى هذا الفارق بين الإمامة والخلافة، ولذا كان يرى "أنّ المطلوب من الشيعة في العصر الحاضر تأكيد المرجعيّة العلمية لأهل البيت(ع)، والسكوت عن قضيّة حقّ عليّ وأولاده في الخلافة"، وكان يقول ـ كما ينقل بعض تلامذته ـ: "إنّ الخلافة ليست من القضايا التي يحتاجها المسلمون الآن، بل هي قضيّة تاريخيّة ترتبط بالماضي، ولا ضرورة أن يعرف المسلمون مَنْ كان الخليفة في الماضي، ومَنْ لم يصل إلى الخلافة، أمّا الّذي يجب أن يعرفه المسلمون كافّة اليوم، وهو مورد احتياجهم، فهو المرجع الّذي ينبغي أن يأخذوا أحكام دينهم منه..."[7].
وأمّا أمثلة الخلط بين التاريخي والتشريعي، فهي كثيرة جداً، فإنّ الكثيرين يختلط عليهم الأمر، ولا يميِّزون بين ما هو تاريخيّ ومرتبط بمستوى التطوّر الحضاري للأُمّة، وما هو مولوي تشريعي، وعلى سبيل المثال: لا يزال البعض إلى يومنا هذا، يُصرّ على ضرورة ارتداء الرجل ألبسة معيّنة، بكيفيّات خاصّة، اقتداءً برسول الله(ص)، مع أنّ لقائل أن يقول: إنَّ قضيّة اللّباس في شكله ترتبط بالعادات والتقاليد، أكثر ممّا ترتبط بالتّشريع، ولذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "خير لباس كلّ زمان لباس أهل زمانه"[8].
[3] راجع معرفة الإسلام للدكتور شريعتي، ص 38.
[4] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 41.
[7] نداء الوحدة والتقريب، ص 235، وراجع الإسلام ومتطلبات العصر للشهيد مطهري، ص 123.
[8] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 5، ص 17، الباب 7 من أبواب أحكام الملابس، الحديث 7.