مختارات
18/07/2014

السنَّة والشّيعة... انتحار جماعيّ

السنَّة والشّيعة... انتحار جماعيّ

يستطيع الباحث العربيّ أن يجد عشرات الدراسات والوثائق والكتب حول خطط إسرائيلية أو غربية لتقسيم الوطن العربي. يستطيع أيضاً العودة إلى التاريخ ليجد أمثلة جليّة حول نجاح تلك الخطط، لعلّ أبرزها سايكس بيكو، وآخرها السودان. يمكن مثلاً قراءة كتاب "Carnages" (مذابح)، لمؤلّفه الفرنسي الموثوق جداً، بيار بيان، لنفهم بالوقائع كيف عمل اللوبي الصّهيوني في أميركا والغرب لتقسيم السودان.

المشكلة الأولى عند العرب أنَّهم لا يقرأون، هذا مثلاً ما يؤكّده تقرير التنمية الثقافيَّة الَّذي تصدره مؤسَّسة الفكر العربي، ويقول إنّ متوسّط القراءة عند المواطن العربي، ينحصر بـ6 دقائق سنوياً. نعم، 6 دقائق لا تعجبوا، مقابل 200 ساعة للفرد الأوروبي.

معظم القراءات العربية تتعلَّق بعلم الفلك (الأبراج)، أو كتب الطبخ والجنس، أو بالإسلاميات السطحية الدخيلة، مثل تفسير الأحلام وغيرها. القراءات الإسلامية العميقة والجدية والتنويرية شبه غائبة، فقط ازداد في السنوات الأخيرة بيع الكتب السنيَّة والشيعيَّة، الَّتي يتبادلون فيها أسباب التكفير والضلال.

المشكلة الثانية، أنَّ من بات أكثر قراءةً بين العرب، غالباً ما ينحو باتجاه القراءات التي تعزّز قناعاته اللاغية للآخر، ويكفي إلقاء نظرة على ما تضجّ به وسائل التَّواصل الاجتماعيّ (فايسبوك وتويتر خصوصاً)، لاكتشاف أنَّ معظم الإسنادات الإسلاميَّة مثلاً، عند هذا الطرف أو ذاك، تصبّ في خانة البحث عن وسيلة لتكفير الآخر أو تسفيهه أو إلغائه.

المشكلة الثالثة، أنَّ نسبة الأميّة عند العرب كارثية، ولو أضيفت إلى المستويات المتدنية من الاقتصاد، والضمانات الطبية والاجتماعيَّة، والفساد، فهي تقدّم سجاداً أحمر للفتن المذهبية والإرهاب وإلغاء الآخر. هذا مثلاً تقرير المنظَّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "إليسكو"، يؤكّد في العام الماضي، أنَّ عدد "الأميين" عند العرب يقارب 100 مليون نسمة. نعم، ثلث سكان العالم العربي تقريباً أميِّون. اللافت في التقرير، أنَّ النسبة الأعلى للأمية هي في مصر، حيث تصيب 17 مليون شخص، يليها السّودان، ثم الجزائر، فالمغرب، واليمن.

المشكلة الرابعة هي الفقر. ووفق مكتب البنك الدولي في صنعاء مثلاً، فإنَّ الفقر ينهش لحم نحو 55 في المئة من اليمنيّين. وفي مصر، يقول رئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، اللواء أبو بكر الجندي، إنّ الفقر يضرب أكثر من 26 في المئة من الناس، وهناك إحصاءات دولية ترفع هذا الرقم أكثر بكثير.

باختصار، إذا ما جمعنا الجهل مع الأميّة والفقر، فإنما نُنتج مجتمعات قابلة للتحرك في اتجاهات كثيرة، ذلك أن النقمة على الأوضاع لا بدَّ لها من متنفّس، ويبدو أن متنفسّها الطبيعي اليوم هو إلغاء الآخر، فكيف لا تتعزّز الفتنة المذهبية؟

هذه هي البيئة الخصبة لإنتاج ما يراد إنتاجه. أما من يزرع الفتن في تلك البيئة، فهو مصالح إقليمة ودولية متناقضة عندها المشاريع والخطط والمال والسلاح.

المفارقة أنَّ الوطن العربيّ غني بموارده، فالنفط زاخر في الخليج والجزائر ودول أخرى بينها جنوب السودان، وسوف يكون زاخراً أيضاً عند سواحل البحر الأبيض المتوسط. الأراضي الخصبة والثروة الحيوانية هائلة (كان في السودان قبل انفصال جنوبه 84 مليون هكتار من الأراضي قابلة للزراعة، لا يستغل منها سوى ما يقارب 19 مليون هكتار. 24 مليون هكتار من المراعي. 64 مليون هكتار من الغابات. أكثر من 128 مليون رأس ماشية تكفي كلّ الوطن العربي).

من الناحية النظرية، فإنَّ العالم بحاجة إلى زيادة نسبة إنتاجه الغذائي بنحو 70 في المئة في العقود الثلاثة المقبلة. صناعاته الممتدة من الصين إلى أوروبا بحاجة دائمة إلى مصادر نفط كتلك الموجودة في الوطن العربي، وأوضاعه الاقتصادية بحاجة إلى إبقاء الوطن العربي في حالة اقتتال وفوضى وقلق، بغية استيراد الأسلحة، (يمكن قراءة تقارير دولية كثيرة، بينها الأكثر ثقة هو الذي يصدره معهدا سيبري وستوكهولم). يكفي أن نذكر أن دول الخليج هي الأكثر استيراداً للسلاح في العالم، قياساً إلى عدد سكانها، وثمة صفقات فاقت 300 مليار دولار بين عامي 2011 و2014.

وجود إسرائيل وحده ما عاد يكفي. كثير من الدّول العربيّة لم تعد راغبةً في قتالها، أو عقدت معاهدات صلح وسلام معها، أو نسجت معها علاقات بعيداً من الأضواء. لا بدَّ إذاً من اختراع أسباب أخرى. لا يوجد اليوم أهمّ من الفتنة الشيعيّة ـ السنيّة. هذا مشروع استثمار طويل الأمد يمكن أن يمتدّ إلى عشرات السّنين، وغير قابل للحلّ. هو يمنع توحيد العرب من جهة، ويطوّق إيران من جهة ثانية، ويحوّل الأنظار عن إسرائيل.

يستطيع الشيعة والسنَّة أن يسوّقوا مئات البراهين والذّرائع لتبرير اقتتالهم. بعضهم يقول إنه قتال بين الإرهاب والآخرين. بعضهم الآخر يقول إنه منع لتمدّد إيران والفرس والصفويين. البعض الثالث يؤكّد أن القتال هو بين مشروع مقاوم وآخر متخاذل، وأن الفتنة تعزّزت بعد الاجتياح الأميركي للعراق، وبعد انتصار حزب الله ضدّ إسرائيل. البعض الرابع يقول إنه لمنع الهيمنة. البعض الخامس يقول إنه لوأد التقسيم.

كلّ التبريرات تحتمل النقاش. الأكيد فقط هو أن الجميع غرق في وحول الفتنة المذهبية. الأكيد أن أمة محمد تتقاتل، وأن اقتتالها ليس مرشحاً للتوقف قريباً، ذلك أن كثيرين ممن يقاتلون يعتبرون مهمتهم إلهيّة، لا سياسية أو أمنية. في الاقتتال الإلهي، وفي دفاع كل طرف عن إلهه، فهو ينشد القتال حتى الشهادة، اعتقاداً منه أنه ذاهب إلى الجنة. في هذا الدفاع أيضاً، يصبح كلّ طرف متلذّذاً بمشاهدة قتلى الطرف الآخر، فيسير بينها، ويصورها ويعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي التي اخترعها الغرب، بينما المسلم يخترع ما يقتل به المسلم الآخر.

تتعدَّد الأسباب ولكنّ النتيجة واحدة، هو انتحار إسلامي جماعي، لن يخرج منه أي طرف سالماً؛ انتحار يمهّد لقولبة الوطن العربي كيفما شاء أولئك الذين كتبوا فما قرأنا.

ثمة حديث نبوي شريف ومحقَّق يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". لا حلّ إذاً إلا باجتماع جدي بين السنة والشيعة، مهما كانت التّكاليف والضّغوط، لا بدّ من وقف هذا الانتحار الجماعي دينياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً.

المصدر: جريدة الأخبار اللّبنانيّة

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

يستطيع الباحث العربيّ أن يجد عشرات الدراسات والوثائق والكتب حول خطط إسرائيلية أو غربية لتقسيم الوطن العربي. يستطيع أيضاً العودة إلى التاريخ ليجد أمثلة جليّة حول نجاح تلك الخطط، لعلّ أبرزها سايكس بيكو، وآخرها السودان. يمكن مثلاً قراءة كتاب "Carnages" (مذابح)، لمؤلّفه الفرنسي الموثوق جداً، بيار بيان، لنفهم بالوقائع كيف عمل اللوبي الصّهيوني في أميركا والغرب لتقسيم السودان.

المشكلة الأولى عند العرب أنَّهم لا يقرأون، هذا مثلاً ما يؤكّده تقرير التنمية الثقافيَّة الَّذي تصدره مؤسَّسة الفكر العربي، ويقول إنّ متوسّط القراءة عند المواطن العربي، ينحصر بـ6 دقائق سنوياً. نعم، 6 دقائق لا تعجبوا، مقابل 200 ساعة للفرد الأوروبي.

معظم القراءات العربية تتعلَّق بعلم الفلك (الأبراج)، أو كتب الطبخ والجنس، أو بالإسلاميات السطحية الدخيلة، مثل تفسير الأحلام وغيرها. القراءات الإسلامية العميقة والجدية والتنويرية شبه غائبة، فقط ازداد في السنوات الأخيرة بيع الكتب السنيَّة والشيعيَّة، الَّتي يتبادلون فيها أسباب التكفير والضلال.

المشكلة الثانية، أنَّ من بات أكثر قراءةً بين العرب، غالباً ما ينحو باتجاه القراءات التي تعزّز قناعاته اللاغية للآخر، ويكفي إلقاء نظرة على ما تضجّ به وسائل التَّواصل الاجتماعيّ (فايسبوك وتويتر خصوصاً)، لاكتشاف أنَّ معظم الإسنادات الإسلاميَّة مثلاً، عند هذا الطرف أو ذاك، تصبّ في خانة البحث عن وسيلة لتكفير الآخر أو تسفيهه أو إلغائه.

المشكلة الثالثة، أنَّ نسبة الأميّة عند العرب كارثية، ولو أضيفت إلى المستويات المتدنية من الاقتصاد، والضمانات الطبية والاجتماعيَّة، والفساد، فهي تقدّم سجاداً أحمر للفتن المذهبية والإرهاب وإلغاء الآخر. هذا مثلاً تقرير المنظَّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "إليسكو"، يؤكّد في العام الماضي، أنَّ عدد "الأميين" عند العرب يقارب 100 مليون نسمة. نعم، ثلث سكان العالم العربي تقريباً أميِّون. اللافت في التقرير، أنَّ النسبة الأعلى للأمية هي في مصر، حيث تصيب 17 مليون شخص، يليها السّودان، ثم الجزائر، فالمغرب، واليمن.

المشكلة الرابعة هي الفقر. ووفق مكتب البنك الدولي في صنعاء مثلاً، فإنَّ الفقر ينهش لحم نحو 55 في المئة من اليمنيّين. وفي مصر، يقول رئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، اللواء أبو بكر الجندي، إنّ الفقر يضرب أكثر من 26 في المئة من الناس، وهناك إحصاءات دولية ترفع هذا الرقم أكثر بكثير.

باختصار، إذا ما جمعنا الجهل مع الأميّة والفقر، فإنما نُنتج مجتمعات قابلة للتحرك في اتجاهات كثيرة، ذلك أن النقمة على الأوضاع لا بدَّ لها من متنفّس، ويبدو أن متنفسّها الطبيعي اليوم هو إلغاء الآخر، فكيف لا تتعزّز الفتنة المذهبية؟

هذه هي البيئة الخصبة لإنتاج ما يراد إنتاجه. أما من يزرع الفتن في تلك البيئة، فهو مصالح إقليمة ودولية متناقضة عندها المشاريع والخطط والمال والسلاح.

المفارقة أنَّ الوطن العربيّ غني بموارده، فالنفط زاخر في الخليج والجزائر ودول أخرى بينها جنوب السودان، وسوف يكون زاخراً أيضاً عند سواحل البحر الأبيض المتوسط. الأراضي الخصبة والثروة الحيوانية هائلة (كان في السودان قبل انفصال جنوبه 84 مليون هكتار من الأراضي قابلة للزراعة، لا يستغل منها سوى ما يقارب 19 مليون هكتار. 24 مليون هكتار من المراعي. 64 مليون هكتار من الغابات. أكثر من 128 مليون رأس ماشية تكفي كلّ الوطن العربي).

من الناحية النظرية، فإنَّ العالم بحاجة إلى زيادة نسبة إنتاجه الغذائي بنحو 70 في المئة في العقود الثلاثة المقبلة. صناعاته الممتدة من الصين إلى أوروبا بحاجة دائمة إلى مصادر نفط كتلك الموجودة في الوطن العربي، وأوضاعه الاقتصادية بحاجة إلى إبقاء الوطن العربي في حالة اقتتال وفوضى وقلق، بغية استيراد الأسلحة، (يمكن قراءة تقارير دولية كثيرة، بينها الأكثر ثقة هو الذي يصدره معهدا سيبري وستوكهولم). يكفي أن نذكر أن دول الخليج هي الأكثر استيراداً للسلاح في العالم، قياساً إلى عدد سكانها، وثمة صفقات فاقت 300 مليار دولار بين عامي 2011 و2014.

وجود إسرائيل وحده ما عاد يكفي. كثير من الدّول العربيّة لم تعد راغبةً في قتالها، أو عقدت معاهدات صلح وسلام معها، أو نسجت معها علاقات بعيداً من الأضواء. لا بدَّ إذاً من اختراع أسباب أخرى. لا يوجد اليوم أهمّ من الفتنة الشيعيّة ـ السنيّة. هذا مشروع استثمار طويل الأمد يمكن أن يمتدّ إلى عشرات السّنين، وغير قابل للحلّ. هو يمنع توحيد العرب من جهة، ويطوّق إيران من جهة ثانية، ويحوّل الأنظار عن إسرائيل.

يستطيع الشيعة والسنَّة أن يسوّقوا مئات البراهين والذّرائع لتبرير اقتتالهم. بعضهم يقول إنه قتال بين الإرهاب والآخرين. بعضهم الآخر يقول إنه منع لتمدّد إيران والفرس والصفويين. البعض الثالث يؤكّد أن القتال هو بين مشروع مقاوم وآخر متخاذل، وأن الفتنة تعزّزت بعد الاجتياح الأميركي للعراق، وبعد انتصار حزب الله ضدّ إسرائيل. البعض الرابع يقول إنه لمنع الهيمنة. البعض الخامس يقول إنه لوأد التقسيم.

كلّ التبريرات تحتمل النقاش. الأكيد فقط هو أن الجميع غرق في وحول الفتنة المذهبية. الأكيد أن أمة محمد تتقاتل، وأن اقتتالها ليس مرشحاً للتوقف قريباً، ذلك أن كثيرين ممن يقاتلون يعتبرون مهمتهم إلهيّة، لا سياسية أو أمنية. في الاقتتال الإلهي، وفي دفاع كل طرف عن إلهه، فهو ينشد القتال حتى الشهادة، اعتقاداً منه أنه ذاهب إلى الجنة. في هذا الدفاع أيضاً، يصبح كلّ طرف متلذّذاً بمشاهدة قتلى الطرف الآخر، فيسير بينها، ويصورها ويعرضها على وسائل التواصل الاجتماعي التي اخترعها الغرب، بينما المسلم يخترع ما يقتل به المسلم الآخر.

تتعدَّد الأسباب ولكنّ النتيجة واحدة، هو انتحار إسلامي جماعي، لن يخرج منه أي طرف سالماً؛ انتحار يمهّد لقولبة الوطن العربي كيفما شاء أولئك الذين كتبوا فما قرأنا.

ثمة حديث نبوي شريف ومحقَّق يقول: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". لا حلّ إذاً إلا باجتماع جدي بين السنة والشيعة، مهما كانت التّكاليف والضّغوط، لا بدّ من وقف هذا الانتحار الجماعي دينياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً.

المصدر: جريدة الأخبار اللّبنانيّة

إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية