{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}[النّحل: 90]. ونعود مجدّداً إلى الحديث عن العدل، وهذه المرّة سنتحدّث عن العدل في البيت والأسرة، وكلّ متعلّقاته، ولو خصّصنا الجلسات تلو الجلسات عن العدل ما كان كافياً، لِعلْمنا بأنَّ الإسلام هدفه، كما الأديان السّماويّة، إقامة العدل الّذي يحتاج إليه كلّ البشر، والّذي ينبغي أن يدخل إلى كلّ السّاحات، وخصوصاً ساحة التّنشئة الأولى، الّتي يُبنى فيها الإنسان ليصبح على ما يصبح عليه في المستقبل.
ولأنّ الظّلم لا يطاق، ولأنّ الظّلم بشع، لهذا يصبح غياب العدل في الأسرة كما قال الشّاعر:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنَّدِ
العدل أساس أيّ سلطة
إنَّ العلاقات داخل الأسرة محكومة بطبيعة عفويّة تلقائيّة؛ علاقة غير رسميّة، علاقة تحكمها مسبقاً المقبوليّة والخضوع وخفض الجناح وعدم الرّغبة بالتمرّد، وما إلى هنالك من احترام سلطة الأهل من قبل الأولاد، أو احترام موقعيّة الزّوج بالنّسبة إلى الزّوجة، أو الزّوجة بالنّسبة إلى الزّوج، وهكذا.
لهذا، يجب أن يحضر العدل بقوّة في كلّ تفاصيل جوّ البيت، وأن ينساب طبيعيّاً، ويجب أن يعي أصحاب هذه السّلطة الأمر جيّداً، لأنّ السّلطة خطرة، فكيف إذا كانت على أناسٍ أنت تنفق عليهم، ولا مجال للاعتراض، فيصبح حال أفراد البيت حال من لا يجد عليك ناصراً إلا الله. لهذا، مطلوب أن يشيع في الأسرة مناخ العدل، لأنّه يستحيل أن نُدخل القضاء والمحاكم والقوانين لتفصل بين الزّوج والزّوجة، أو بين الأب وأولاده، وبين الأولاد وأمّهم، وهكذا، كما يحصل الآن في المجتمعات الغربيّة، حيث باتت ساحة الأسرة كساحة المصنع أو المعمل أو المؤسّسات، بلا روح، والقوانين هي السّائدة فقط.
العلاقة الزّوجيّة عدل ورحمة
والبداية هي بالعلاقة الزّوجيّة، حيث إنّ هذه العلاقة، إن تحقّق فيها العدل، فإنّنا نستغني عن كثيرٍ من المطالبة بالقوانين لرفع الغبن عن الزّوجات، لأنّ الأمور لن تصل إلى هذا الحدّ. وعظمة الإسلام، أنّه أضاف إلى شروط العدل خلطةً أخرى، فهو جعل العدل في العلاقة الزّوجيّة ممزوجاً بالمودّة والرّحمة والمعروف والسّكن، فالزّوج الّذي يخاف الله ويخشى ألا يكون عادلاً، لن يغشّ زوجته، ولن يبخل عليها أو يقسو، وأيضاً لن يعنّفها. لا وجود للعنف في قاموس البيت المؤمن، لماذا؟ لأنّه بيت تحكمه الآية: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الرّوم: 21]، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الزّوجة، فهي إن قدّرت ظروف زوجها، وكانت عادلةً في الحكم على تصرّفاته، وفي تقدير حاجاته وتفهّمها، فإنّ الكثير من المشاكل ستزول ولن تستمرّ.
الزّوج شريك وليس حاكماً
قبل أن تفتّشوا عن القوانين الجامدة بموادّها المتشعّبة، فتّشوا عن العدل، ربّوا أولادكم عليه، اِجعلوه البوصلة لضبط كلّ مشاكل العلاقة في الأسرة. إنّ السّلطة الأبويّة أو الذّكوريّة في مجتمعنا، لا تزال، للأسف، تُمارس بكثير من التعنّت... فعندما يتعلّق الأمر بحقوق الرّجل، تصبح الأمور على المسطرة وبالميزان الدّقيق، وعندما يتعلّق الأمر بحقوق المرأة، فإنَّ الموضوع يتمّ غضّ النّظر عنه، فأين العدل في أن تعتبر وقت راحتك مقدّساً، ووقت راحتها ليس كذلك؟ أن تعتبر أنّ الطّريقة الّتي تفكّر فيها أنت هي الّتي يجب أن تحكم، ولا تستمع إلى من يشاركك هذه الحياة؟ فعدم أخذ الرّأي هو أيضاً ظلم، وعدم أخذ رغبات الآخر الّذي يعيش معك بعين الاعتبار، هو الظّلم بعينه...
وفي هذا المجال، ندعو الزّوج إلى النّظر بكلّ مسؤوليّة إلى شريكة حياته الّتي أفنت حياتها في سبيل تأمين الحياة الكريمة له ولأولاده، وعليه الالتفات إلى حفظها من بعده، كي لا تبقى عالةً على أولادها، وخصوصاً أنّها هي من ساعدته على تأمين ظروف الإنتاج.
العدل بين الأولاد
والحديث عن العدل في البيت أيضاً، يأخذنا إلى الحديث عن العدل مع الأولاد. وعظمة الإسلام في هذا الموضوع، أنّه لاحظ العدل في أبسط الأمور، بدءاً من النّظرة، وصولاً إلى العطاء والهديّة، إضافةً إلى الرّعاية، والاهتمام، والحبّ، والتّشجيع، والمكافأة، وإدخال الفرح والسّرور، وتبادل الحديث، وحتّى النّظرة والابتسام، وقد كثُرت الأحاديث في ذلك، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "إنَّ الله يحبّ أن تعدلوا بين أولادكم، كما يحبّ أن تعدلوا مع أنفسكم".
ولذلك، عندما أبصر رسول الله(ص) رجلاً له ولدان قبّل أحدهما وترك الآخر، قال له رسول الله(ص): "هل واسيت بينهما؟"، أي هل ساويت؟
وفي الحديث أيضاً: "اعدلوا بين أولادكم في النُّحْل (أي العطاء)، كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ واللّطف".
وورد في السّيرة عن النّعمان بن بشير، وهو أحد صحابة رسول الله(ص)، أنّه قال: أعطاني أبي عطيّةً، فقالت لي أمّي عميرة بنت رواحة: لا أرضى أن تأخذ هذه حتّى يشهد على ذلك رسول الله(ص)، (لاحظوا موقف هذه الأمّ التي لم ترض أن يتصرّف زوجها بظلم مع أولادها). يكمل الرّجل ويقول: فأتى والدي إلى رسول الله ليشهده على عطيّته ويثبّتها لي... فقال له رسول الله(ص): "أكلّ أولادك أعطيت؟"، قال أبي: لا. فقال رسول الله(ص): "اذهب، فإنّي لا أشهد على جور".
لقد كان رسول الله قاطعاً وحاسماً في رفضه التّمييز بين الأولاد، وكان يرى في التّمييز إخلالاً بكيان الأسرة وتماسكها وترابطها، فالولد الّذي يشعر بالغبن داخل الأسرة من أبيه أو أمّه، سيتحوَّل عنده هذا الشّعور إلى حقدٍ دفينٍ تجاه من عليه واجب احترامه وتقديره والإحسان إليه، وعلى إخوته الّذين يراهم أخذوا حقّاً له، فمن الجور أن تعطي بغير عدل، وهو خلاف التّقوى، والرّسول قال: "اتّقوا اللّه واعدلوا بين أولادكم".
الابنة قبل الابن
لا يمكن أن نتحدّث عن عدلٍ داخل الأسرة، إلا ونتحدّث عن العدل المطلوب بين الأولاد الذّكور والإناث. وإنَّه بحمد الله، ونتيجة الوعي، صارت مظاهر التذمّر من أن يرزق المرء بالبنت أقلّ من السّابق، ونريدها أن تُمحى نهائيّاً، فالله يرزقنا البنين كما البنات، وآن الأوان لأن نخلّف مظاهر التّمييز بين الذّكر والأنثى وراءنا.
وهنا، ندعو الأهل إلى إدخال مستقبل الفتاة في الحساب، ولا سيّما على مستوى التّعليم والعمل وتأمين حياتها، كما ندعوهم إلى عدم التدخّل في التّقسيم الشّرعيّ الدّيني للإرث، الّذي يراعي حقوق الذّكر والأنثى. وفي حال أرادوا أن يتدخّلوا، فلا بأس، ولكن ليتدخّلوا بالعدل ولحساب البنت، ليزيدوا من نصيبها وليس العكس، وخصوصاً أنّ الجميع بات يدرك، وبالتّجربة، أنّ البنت هي الّتي تحفظ أهلها، وغالباً أكثر من الابن، وتضحّي لأجل ذلك، وتنفق عليهم... علماً أنّ الإسلام رفع من مكانة البنت، عندما أعاد إليها إنسانيّتها المفقودة، وأشار إلى قدراتها وإمكاناتها، ودعا إلى إعطائها حقّها في الرّعاية والاهتمام والتّشجيع، وتوفير الفرص من دون تمييز... ففي الحديث عن رسول الله: "من كانت له ابنة فلم يهنها، ولم يؤثر ولده الذّكر عليها، أدخله الله الجنّة البتّة".
حقّ الخادمة
وفي حديثنا عن العدل داخل البيت، صار لزاماً علينا في أيّامنا هذه، بل أصبحت الحاجة ماسّةً إلى الحديث عن عدل كلّ أفراد الأسرة مع الّذين يخدمون في هذه المنازل، فقد يؤخذ على مجتمعاتنا أنّها تتصرّف مع الخادمات ومدبّرات المنازل بخلفيّات تمييزيّة، تصل إلى حدّ العنصريّة، فقد تعيش تحت رحمة حتّى الصّغار في الأسرة، الّذين يتعلّمون من الكبار، فلا يحترمون لها وقت راحة، ولا قدرات ذهنيّة أو جسديّة.
إنَّ علينا كمجتمع إيمانيّ أن نبرهن عن رقيّنا، فلا نظلم من هاجروا من أجل أقدس قيمة، وهي العمل وكسب العيش الكريم، ولأجله يعانون الغربة، ويبتعدون عن أهلهم وأوطانهم وأطفالهم. إنَّ ظلم أولئك لهو من الجور الّذي حذَّر الإسلام منه، إنَّنا مدعوّون إلى أن نقدّم أنموذجاً في حسن التّعامل مع هؤلاء، أن نؤدّي حقوقهم كاملة، وأن نحسن إليهم، فلا نتذاكى عليهم أو نلتفّ من أجل فرض شروطنا.
إنَّ الموضوع يحتاج إلى تدقيق وإعادة نظر، وألا نكون من الّذين يغصبون حقّ المستضعفين، وسنُطالب به يوم القيامة. والرّسول كان قد أوصى أصحابه بالخدم، حينما قال عنهم: "إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان له أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه ما يغلبه، فإن كلّفه ما يغلبه فليعنه".
لنجعل من أسرنا مدارس ومعاهد لبناء قيمة العدل، ننطلق منها لبناء وطن العدل، وأمّة العدل، فالأسرة الّتي لا يسود فيها جوّ العدل، ستُخرّج ظَلَمَةً صغاراً، والصّغار سيكبرون ويصبح الظّلم ديدنهم، إلا من رحم ربّي.
المصدر: جريدة النهار الكويتيّة
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .