بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة المرجع السيِّد محمد حسين فضل الله(رض)، نستحضر خطبته الدِّينيّة الّتي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بتاريخ 12جمادى الثانية العام 1430ه/ الموافق 5/6/2009م، والّتي تحدَّث فيها حول المعايير الحقيقية للالتزام الدّيني، والتي تبرز مدى القرب من الله تعالى والبعد عنه، مستشهداً بالأمثلة القرآنية، وما جاء في الروايات من إشارات إلى القيمة التي تدلّ على المفاضلة بين الناس عند الله تعالى:
"هناك خطوطٌ متعدِّدة لالتزام الإنسان بالقيم الروحية، فالناس يختلفون في عطاءاتهم ومواقعهم وخدماتهم، فهناك الَّذي يقوم بخدمة النّاس كما فيما تحدَّث عنه القرآن الكريم، من أنّ بعض النّاس يسقون الحاج، أو يرعون بيت الله، وهناك من النّاس من تكون حياتهم حركةً من أجل الرّسالة في تغيير عقول الناس، لتكون عقولهم منتجةً للحقّ، بعيدةً من الباطل، وقلوبهم منفتحةً على المحبّة، بعيدة من الحقد، وحياتهم متحركةً في خطّ الخير لا في خطّ الشر، ونشاطهم منصبّاً في الدّعوة إلى الله، وفي الجهاد في سبيله، وفي التّضحية من أجل دينه ونصرة المستضعفين.
وقد تحدَّث الله تعالى في بعض الآيات عن هذه الموارد. فقد نُقل في السّيرة النبوية الشريفة، أنه اجتمع في مكّة العباس بن عبد المطلب، عمّ النبيّ(ص)، وطلحة بن شيبة، والإمام عليّ بن أبي طالب(ع)، وذلك حينما افتخروا (تفاخروا)، والظّاهر أنَّ الإمام عليّاً(ع) لم يدخل معهما في ذلك، بل إنّه عندما سمع منهما ذلك، صحَّح لهما ما صدر عنهما من الكلام، فقال طلحة: "أنا صاحب البيت، وبيدي مفتاحه، ولو أشاء بتّ فيه"، وقال العباس: "أنا صاحب السقاية والقائم عليها"، وقال عليّ(ع): "لا أدري ما تقولان ـ لأن ما قمتما به قد يكون شيئاً جيداً، ولكنه لا يمثل القيمة التي تجعل الإنسان في الموقع الأعلى ـ لقد صلّيت إلى القبلة ستَّة أشهر قبل الناس ـ فأنا أقدمكم إيماناً، وأسبقكم عبادة، وعلاقتي بالله كانت ولا تزال أكثر قرباً من علاقة الناس به ـ وأنا صاحب الجهاد"، أنا الذي جاهدت بين يدي رسول الله(ص) منذ كنت في أوائل سنّ الشباب، كنت أدافع عنه في مكَّة، فكنت أطرد الأطفال الّذين كان المشركون يرسلونهم ليؤذوا رسول الله، وقد خضت مع النبيّ(ص) حروبه التي خاضها مع المشركين الّذين أرادوا أن يُسقطوا دينه.
وقد خلّد الله تعالى هذه المسألة، فقال تعالى وهو يخاطب هؤلاء الناس، ويخاطب المجتمع من خلالهم في تخطئة هذا النوع من المفاضلة: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ ساويتم بين هذا وذاك. فهذان الرجلان يعتبران أنَّ القيمة، كلّ القيمة، هي سقي الحاجّ، أو الإشراف على المسجد الحرام، أو عمارة ما انهدم منه، فساويتم بين هذا العمل وبين الّذي آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، وهو عليّ(ع) الذي ركّز قواعد الإسلام، وأنقذه من ضغطِ المشركين، حتى أصبح الإسلام قوّةً أمام قوّة المشركين، وحتى استطاع أن يهزمهم ـ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ الله ـ ليس هذا في مرتبة هذا ـ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ}(التّوبة: 19-20).
وهذه الآية الكريمة، قد تكون نزلت في مناسبة خاصّة، ولكنّها تعطينا أساس القيمة عندما نريد أن نقيِّم النّاس فيما يملكون من القيم والقرب من الله: {وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(النّساء: 95). قد يكون لبعض النّاس الذين يقومون ببعض الأعمال الخيريّة فضلهم، ولكن يبقى للمجاهدين فضلهم الأعظم، لأنهم يحفظون دين الله وأمَّتهم، لكي تبقى كلمة الله هي العليا، وكلمة الكافرين هي السُّفلى".
ويلفت سماحته إلى أنَّ علينا أن نفرّق بين الصّالح والفاسد:
"ويقول تعالى في موضع آخر، وهو ما يجب أن ننتبه إليه فيما نعيشه من التزامنا بالأشخاص وتأييدنا لهم، يقول تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ ـ هل نساوي بين الذين يفسدون في الأرض بإثارة الفتنة والتعامل مع المستكبرين، والعمل بما يتناسب مع خطط المنحرفين، لأنهم يعطوننا أموالاً أكثر أو يؤمّنون الوظائف أكثر، أو لأنّه من بلدنا ومن طائفتنا أو من جماعتنا، وبين أولئك الّذين يصلحون الأرض ويعمرونها ويحمون أمّتهم لكي تبقى عزيزةً وقويّةً؟ ـ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّار}(ص: 28). فمن يفعل ذلك ويساوي بينهما، فهو ليس من الدِّين في شيء، وإن صام وصلَّى، لأنَّ الدّين موقف ينسجم مع ما يحبّه الله ويرضاه، وليس مجرّد عمل لا ينفتح على الالتزام بأوامر الله ونهيه".
ويضيف سماحته(رض) بأنّ العمل وطبيعته هو من يحدّد مصير الانسان في دنياه وآخرته:
"ويحدّثنا الله تعالى عن مصير الإنسان في حوارٍ بين أهل الجنّة وأهل النار، يقول تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ـ فالإنسان مرهونٌ بعمله، فإذا لم تصلح نفسك وتتب إلى الله وترجع إليه، تظلّ نفسك مرهونةً بما قدَّمت من عمل، وهناك من يأخذه الرّهن إلى الجنة، وهناك من يأخذه الرّهن إلى النّار ـ إِلَّا أَصْحَابَ اليَمِينِ* فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِين ـ الظاهر أنّ الجنّة تشرف على النار، فالمؤمنون المتّقون في الجنة يطلّون على المجرمين وهم في النّار، ومنهم أقرباء وأصدقاء ومحازبون ـ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر َـ وهو وادٍ في جهنّم ـ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ـ لم نكن نصلّي ونعبد الله فيما أمرنا به من الصّلاة، وكثير من أولادنا وأصدقائنا لا يصلّون ـ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين َـ ما كنّا ندفع حقوق الله في زكاته وخمسه، وغير ذلك مما أراد الله لنا أن نقوم به من سدّ حاجات الفقراء والمساكين والأيتام ـ وَكُنّا نَخوضُ مَعَ الخْائِضين َـ كمن يدخل مع الناس في بركة ماء، وهو كناية عن مشاركة الآخرين فيما يقومون به من دون حقّ أو علم ـ وَكُنّا نُكذّبُ بِيومِ الدِّينِ ـ والتكذيب على قسمين؛ فمنهم من ينكر الآخرة، ومنهم من لا ينكرها ولكنه لا يعمل لها ـ حَتّى أَتانا الْيَقين* فَما تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعينَ ـ فالشّفاعة لا تنفع إلّا بإذن الله ورضاه، فالأنبياء والأئمّة يملكون الشّفاعة بإذن الله، والله يتقبّل الشّفاعة، وهو ما عبّر عنه الإمام زين العابدين(ع) في دعاء يوم الخميس: "واجعل توسّلي به شافعاً، يوم القيامة نافعاً" ـ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضينَ* كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}(المدَّثر: 38-51)".
وختم سماحته بأنَّ علينا أن نعي من نمنحه تأييدنا، وهل هو من أهل رضا الله أم لا، لأنّ ذلك فيه مسؤوليّة أمام الله تعالى:
"أمّا إذا كنتم أتباع جماعة في الدّنيا، فعليكم أن تنتبهوا؛ هل إنَّ هؤلاء الّذين تحبّونهم وتؤيّدونهم هم ممّن يرضى الله عنهم؟! لأنهم إذا لم يكونوا ممن يرضى الله عن تأييدهم، فإنهم سوف يتبرّأون منكم، يقول تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ* وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة: 166-167].
لذلك، عندما تريدون أن تتّبعوا أحداً، انظروا كيف يكون موقفكم يوم القيامة، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ}[الانفطار: 19]، {اليَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ اليَوْمَ}[غافر: 17]".