بالعودة إلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة المرجع السيِّد محمّد حسين فضل الله(رض)، نستحضر ما ورد في خطبة الجمعة الدِّينيّة الّتي ألقاها من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، والّتي تناول فيها موضوع التَّوبة، بما تعنيه من تراجع عن الذّنب، وانفتاح على عمق الإيمان بالله. قال سماحته:
"يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. بهذا النِّداء الإلهيّ الَّذي يتكرَّر في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم، يريد الله تعالى أن يدعو عباده إلى أن يرجعوا إليه، ويخلصوا له، ويستقيموا في دربه، كي لا ينساقوا وراء إغراءات الشَّيطان، ما يؤدِّي إلى الانحراف عن الصِّراط المستقيم، والبعد عن الله والوقوع في المعصية.
فالله سبحانه يريد أن يقول للإنسان: إنّني أعرف أنّك قد تواقع الخطيئة، وقد تنحرف عن الدَّرب، وقد تسقط أمام التّجربة، ولكني لا أريد لك أن تشعر باليأس من رحمتي، وبالقنوط من مغفرتي، فقد فتحت لك، في كلّ موقع تشعر فيه بالحاجة إلى أن تعود إليّ، الطريق بأوسع مما بين السماء والأرض، بأن تتوب إليّ توبةً تندم بها على سوء ما فعلته، وما يترتّب على ذلك من نتائج سيّئة تحصل لك في الدّنيا والآخرة، ثم لتفكّر في المستقبل، باعتبار أنّه يمنحك أكثر من فرصة لتجديد علاقتك بالله وللحصول على رضاه، وللتحرّك في مواقع قربه، وعند ذلك، يمكن لك أن تغلق تاريخ الماضي، تاريخ المعصية والانحراف، وتفتح لنفسك تاريخاً تصنعه من جديد، وهو تاريخ العودة إلى الله والسّير في الخطّ المستقيم والطاعة لله. وهذه هي التّوبة النّصوح؛ أن تفكّر عند التوبة أن لا تعود إلى المعصية، بحيث تتعامل مع نفسك من موقع وعيك لخطورة المعصية وعظمة الطاعة ومسألة القرب إلى الله.
{يا أيُّها الّذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً عسى ربُّكم- إذا تبتم وعشتم في هذا الجوّ ورجعتم إليه - أن يكفِّر عنكم سيّئاتكم - فيجعل تلك السيّئات كما لو لم تكن، لأنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له - ويدخلكم جنّاتٍ تجري من تحتِها الأنهار - لتنضمّوا إلى المسيرة التي بدأها رسول الله(ص)، واتبعه فيها المؤمنون وساروا على نهجه -يوم لا يخزي الله النبيَّ والذين آمنوا معه - هؤلاء الّذين عاشوا الإيمان فكراً وحركة وجهاداً، وأخلصوا لله ولرسوله وجاهدوا في سبيل الله، يقفون في يوم القيامة والنبيّ قائدهم - نورهم يسعى بين أيديهم - وهو نور الإيمان والجهاد والطّاعة - وبأيمانهم - لأنهم كانوا يحركون أيمانهم فيما يرضي الله، سواء في مقام العطاء أو التّعاون على البرّ والتقوى، أو في مقام الجهاد - يقولون - وهم يشعرون أنهم ربما أخطأوا بعض الخطأ فيما عاشوه في الدنيا، أو صدرت عنهم بعض المعاصي، فيقولون: - ربَّنا أتممْ لنا نورَنا - حتى يدخلوا الجنّة وكلّهم نور، حيث لا نقص في هذا النّور، بل إتمام النّور بالمغفرة - واغفرْ لنا إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير}".
ويشير سماحته إلى فضل الله على الناس، بمنحهم الفرص المتتالية حتى يعودوا إلى الطّاعة عبر باب التّوبة النّصوح، وأن يعالج الإنسان نفسه بالتّوبة، مستفيداً من عمره، وعدم التّسويف بها:
"وقد أعطانا الله تعالى الفرصة الواسعة فيما بقي لنا من عمر، حتى نستعجل التّوبة ولا نسوّفها، لأنَّ الشيطان الوسواس الخنّاس يعمل على جعل الإنسان يسوّف التوبة، فيقول له: غداً تتوب، أو بعد مضيّ سني شبابك وبلوغك مرحلة الكهولة، وإذا بلغ هذه المرحلة، فإنه يدعوه إلى أن يؤخّر التوبة إلى مرحلة الشيخوخة، وهكذا يموت قبل أن يتوب، كما قال ذلك الشاعر:
لا تقل في غدٍ أتوب لعلّ الغد يأتي وأنت تحت التّراب
وعلى ضوء هذا، ينبغي للإنسان أن يجلس مع نفسه ويقرأ تاريخه فيما أكل أو شرب من حرام، وفيما اشتهى من شهوة حرام، أو أخذ من مال حرام، أو سكن في بيت حرام، وفيما تكلّم بكلام حرام، أو أنشأ من علاقات الحرام. فكِّر في كلّ ما مضى من تاريخك، لأنَّ كلّ ما فعلت سجّله الملكان عليك، {ما يلفظُ من قولٍ إلّا لديه رقيبٌ عتيد}. لذلك، استعرض تاريخ معصيتك لله، وحاول أن تقول: يا ربّ إني تائب، فإذا كنت قد أخطأت مع إنسان في كلام، فعليك أن تتسامح منه، ولا سيّما إذا كنت قد اغتبته أو شهَّرت به أو آذيته أو سببته أو ما إلى ذلك، أو إذا كنت قد أكلت مال إنسان بغير حقّ، فأرجع إليه ماله قبل أن يأتي يوم لا تملك فيه مالاً لترجعه إليه، وإذا تحركت في أيِّ موقع من المواقع التي لا ترضي الله، فأيّدت من لا يجيز الله لك أن تؤيّده، استغفر ربّك من ذلك، واعزم أن لا تؤيد شخصاً مماثلاً له، وإذا خذلت إنساناً لا يجوز لك أن تخذله، فحاول أن تستغفر الله من ذلك، حتى لا تتحرك ثانية في خذلان مؤمن في هذا المجال. فكّروا فيما يرضاه الله، وقولوا: يا ربّ، إننا تائبون، حتى ينصرف عنا كتّاب السيّئات بصحيفة خالية من ذكر سيّئاتنا، ويتولى كتّاب الحسنات عنا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا، "وإذا انقضت أيام حياتنا، وتصرّمت مدد أعمارنا - هذا الكلام للإمام زين العابدين (ع) -واستحضرتنا دعوتك التي لا بدّ منها ومن إجابتها، فصلِّ على محمد وآله، واجعل ختام ما تحصي علينا كتبة أعمالنا، توبة مقبولة لا توقفنا بعدها على ذنب اجترحناه، ولا معصية اقترفناها، ولا تكشف عنّا ستراً سترته على رؤوس الأشهاد يوم تبلو أخبار عبادك، إنّك رحيم بمن دعاك، ومستجيب لمن ناداك".
ويضيف سماحته بأنّ التوبة مدعاة للحصول على محبة الله ورضاه، وهذا مما لا بدّ وأن يجعلنا من طالبي التّوبة النّصوح، حتى نرتفع بأنفسنا ونسمو بها:
"التّوبة تصحّح لك نفسك وتغيّرها، وتجعلك تصنع نفسك صناعة جديدة؛ الآن قبل غد، وغداً قبل بعد غد: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا". وإذا تبت إلى ربِّك، وعرف الله منك صدق التّوبة، وأنها التّوبة النّصوح، فسوف يحبّك، {وهو الذي يقبلُ التّوبةً عن عبادِهِ ويعفو عن السيّئات}، و{يحبُّ التوّابين}، وما أحلى أن نحصل على محبّة الله! إن حلاوة محبتنا لله وحلاوة محبة الله لنا هي السعادة كلّ السعادة، هي اللذة كل اللذة، هي الخير كلّ الخير، ولذا، لا قيمة لحبّ الناس لنا مقابل حبّ الله، لأنّ حبّ الناس زائل، بينما حبّ الله يمنحنا رضوانه وقربه وجنته، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
مشكلتنا أننا نفكّر في أن يحبنا إنسان قد نجد عنده رغبتنا وموقعنا وشهوتنا وأموالنا، ولكن حبّنا لله هو الذي يرتفع به وجودنا، ويسمو به موقعنا، ويتّصل به مصيرنا، لأنه الباقي والكلّ فانون، {ورضوان من الله أكبر}. لذلك، فلنفكّر في المسألة بعمق، لأننا نخشى، عندما نفكر في ذلك، أن يقف الشيطان بباب المسجد عندما نخرج منه ليوسوس لنا، ولينسينا كلّ ما سمعناه، مزيّناً لنا طول الأمل، حتى إذا ذكرنا مَن فارقناه من أحبّتنا، قال لنا الشّيطان: إنكم تعيشون بعده زمناً طويلاً، لننسى بذلك آخرتنا. ومما جاء عن رسول الله(ص) وأئمّة أهل البيت(ع) في بعض ما تحدّثنا عنه:
ففي الحديث عن الإمام الصّادق(ع) قال: "إذا تاب العبد توبةً نصوحاً، أحبّه الله، فستر عليه في الدّنيا والآخرة"، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: "ينسي مَلَكَيه ما كتبا عليه من الذّنوب، ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه - فلا تشهد عليه يده أو رجله أو لسانه - ويوحي إلى بقاع الأرض - لأنّ كل أرض تعصي الله فيها تشهد عليك، وكلّ أرض تطيع الله فيها تشهد لك - اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذّنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذّنوب".
وعن أحد أصحاب الإمام الصّادق(ع) يقول: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عزّ وجلّ: {يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً}، قال(ع): "يتوب العبد من الذّنب لا يعود فيه".. وورد عن أحد أصحابه أيضاً يقول: قلت لأبي عبد الله(ع): {يا أيّها الّذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً}، قال(ع): "هو الذَّنب الَّذي لا يعود فيه أبداً"، قلت: وأيّنا لم يعد؟ فقال: "يا أبا محمد، إنَّ الله يحبّ من عباده المفتن التوّاب".
ويختم سماحته بأنَّ الله ترك الباب مفتوحاً لرحمته، هذا الباب الذي ينتظرنا جميعاً أن نلجه وندخل منه:
"وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع) قال: "يا محمَّد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التَّوبة والمغفرة، أما والله، إنها ليست إلا لأهل الإيمان"، قلت: فإن عاد بعد التّوبة والاستغفار من الذّنوب وعاد في التوبة؟ فقال: "يا محمد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته"؟ قلت: فإنّه فعل ذلك مراراً، يذنب ثم يتوب ويستغفر الله، فقال: "كلَّما عاد المؤمن بالاستغفار والتَّوبة عاد الله بالمغفرة، إنَّ الله غفور رحيم، يقبل التَّوبة ويعفو عن السيِّئات، فإيّاك أن تقنِّط المؤمنين من رحمة الله". بعض النّاس إذا أتاه شابّ قد أسرف على نفسه، فإنه يقنّطه من رحمة الله، ويبعده عن التّوبة، ويجعله ييأس من رحمة الله، والله تعالى لا يغلق بابه في أيّ وقت في وجه أحد، لذا لا تغلق على أيّ إنسان باب التّوبة والمغفرة، لأنّ الله يتقبل التّائبين من عباده..
إنّنا الخطّاؤون، كلّ ابن آدم خطّاء، وقد عصينا الله في الكبيرة والصَّغيرة، ومازلنا نعصي الله في كلماتنا وأعمالنا وعلاقاتنا ومواقفنا، وقد فتح الله لنا باب التَّوبة. فتعالوا - ونحن بين يدي الله في يوم الجمعة الذي عظَّمه الله - لنتوب إلى الله توبةً نصوحاً، ولنجدِّد أنفسنا في خطّ الطّاعة".