يتحدَّث الإمام الحسين (ع) في دعاء يوم عرفة عن نعم الله عليه، فيبدأ بتذكّرها، وهذا أسلوب قرآنيّ ونبويّ، في أن يعيش الإنسان دائماً تذكُّرَ نعمِ اللهِ عليه في جسده، وفيما يأتي إليه من الآخرين، لأنَّك عندما تتذكَّر نعم الله عليك، تعرف أنَّك الفقير إليه تعالى، وأنَّك لا تستطيع أن تستغني عنه مقدار لحظة، لأنَّ الشَّيطانَ قد يوقعك في الغفلة، وقد يبعدك عن الله، وقد يجعلك إذا ملكت المال والجاه، تشعر بأنَّك ملكته من خلال ذاتك، كما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص: 78]، ما دخل الله في المال؟! فأنا بجهدي أوتيت المال! وليس ذلك إلَّا لأنَّه غفل عن الله سبحانه وتعالى. لذلك، يحتاج الإنسان دائماً أن يتذكَّر نعم الله عليه، وأن يشكر الله على هذه النّعم {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النَّحل: 18]، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النَّحل: 53]، {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم: 7]...
تذكُّرُ نعمِ اللهِ
يقول (ع): "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا خَلَقْتَنِي فَجَعَلْتَنِي سَمِيعاً بَصِيراً - فتذكَّر نعمة السَّمع والبصر - وَلَكَ الْحَمْدُ كَمَا خَلَقْتَنِي فَجَعَلْتَنِي حَيّاً سَوِيّاً رَحْمَةً بِي، وَكُنْتَ عَنْ خَلْقِي غَنِيّاً - لسْتَ بحاجة إليَّ - رَبِّ بِمَا بَرَأْتَنِي - أي أنشأتني وأبدعتني - فعدلت فطرتي، ربِّ بما أنشأتني فأحسنت صورتي، يا ربِّ بما أحسنت بي وفي نفسي عافيتني، ربِّ بما كلأْتني - يعني حفظتني – ووفَّقتني، ربِّ بما أنعمْتَ عليَّ فهديْتَني - لأنَّ الهداية من أفضل النِّعم من الله سبحانه وتعالى على الإنسان – ربِّ بما آويتني - جعلْتَ لي مأوى - ومن كلِّ خيرٍ آتيتني وأعطيتني، ربِّ بما أطعمْتَني وسقيْتَني، ربِّ بما أغنيْتَني وأقنيْتني - جعلت لي الأثاث والمال وما إلى ذلك - رَبِّ بِمَا أَعَنْتَنِي وَأَعْزَزْتَنِي، رَبِّ بِمَا أَلْبَسْتَنِي مِنْ ذِكْرِكَ الصَّافِي وَيَسَّرْتَ لِي مِنْ صُنْعِكَ الْكَافِي، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَعِنِّي عَلَى بَوَائِقِ الدَّهْرِ – مشاكل الدَّهر - وَصُرُوفِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَنَجِّنِي مِنْ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَكُرُبَاتِ الْآخِرَةِ - لأنَّ ذلك كلَّه بيدِكَ يا ربّ - وَاكْفِنِي شَرَّ مَا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فِي الْأَرْضِ"، لأنَّك وحدك القادر على أن تمسك بأيديهم عن أن يضرّوني.
طلباتُهُ (ع) من الله
ثمّ بدأ (ع) في الطَّلبات: "اللَّهُمَّ مَا أَخَافُ فَاكْفِنِي - اكفني كلَّ ما أخاف أن يعرض عليَّ في ديني ودنياي.
- وَمَا أَحْذَرُ - من النَّاس ومن غوائلهم – فَقِنِي، وَفِي نَفْسِي وَدِينِي فَاحْرُسْنِي - احرس ديني يا ربّ، حتَّى لا يسرقه السَّارقون، واحرس نفسي، حتَّى لا يضلَّها المضلّون.
- وَفِي سَفَرِي فَاحْفَظْنِي - احفظني إذا سافرت، والسَّفر مظنَّة الهلاك والأخطار - وَفِي أَهْلِي وَمَالِي وَوُلْدِي فَاخْلُفْنِي - إذا سافرت عن أهلي ومالي وولدي، فكن أنت الخليفة عليهم، ترعاهم وتحفظهم، وتمنع الآخرين عنهم.
- وَفِيمَا رَزَقْتَنِي فَبَارِكْ لِي، وَفِي نَفْسِي فَذَلِّلْنِي - اجعلني، يا ربّ، ذليلاً في نفسي عندما أجلس بين يديك، لأتذكَّر كلَّ نقاط ضعفي وكلَّ عيوبي، فأزداد تواضعاً وشعوراً بالذلَّة في نفسي، حتَّى لا أتكبَّر ولا أتجبَّر.
- وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ فَعَظِّمْنِي - لأنَّ العظمةَ منك، يا ربّ، أنت مقلِّب القلوب {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}[الأنفال: 24]، ولذلك، أنت الَّذي تغرس عظمتي في نفوس النَّاس، وأنت الَّذي يمكن أن تغرس حقارتي في نفوسهم، وهذا ما عبَّر عنه الإمام زين العابدين (ع): "إِلَهِي إِنْ رَفَعْتَنِي فَمَنْ ذَا الَّذِي يَضَعُنِي، وَإِنْ وَضَعْتَنِي فَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْفَعُنِي".
- وَمِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَسَلِّمْنِي، وَبِذُنُوبِي - الّتي ربَّما تصدر عنّي في السّرّ - فَلَا تَفْضَحْنِي، وَبِسَرِيرَتِي - ما أُسرُّه في نفسي من النيَّات ومن الأفكار الشّرّيرة - فَلَا تُخْزِنِي، وَبِعَمَلِي فَلَا تُبْسِلْنِي، وَنِعَمَكَ فَلَا تَسْلُبْنِي، وَإِلَى غَيْرِكَ فَلَا تَكِلْنِي - لا تكلني، يا ربّ، إلَّا إليك.
- إِلَى مَنْ تَكِلُنِي - يا ربّ، إذا أردت أن تتركني، وأن تبعد عنّي رعايتك، فإلى من تكلني؟! - إِلَى الْقَرِيبِ يَقْطَعُنِي، أَمْ إِلَى الْبَعِيدِ يَتَهَجَّمُنِي، أَمْ إِلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ لِي وَأَنْتَ رَبِّي وَمَلِيكُ أَمْرِي، أَشْكُو إِلَيْكَ غُرْبَتِي وَبُعْدَ دَارِي وَهَوَانِي عَلَى مَنْ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي - من هؤلاء الَّذين يسيطرون على الواقع.
- اللَّهُمَّ فَلَا تُحْلِلْ بِي غَضَبَكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَضِبْتَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي سِوَاكَ - وهذا لا بدَّ أن يكون شعار كلّ مؤمن، فليغضب كلَّ النَّاس عليك، وليقف كلّ النَّاس ضدَّك، فإذا كنت تعيش حلاوة المحبَّة لله، وروحانيَّة القرب منه والإخلاص له، وإذا كنت تعيش الأنس به تعالى، فالله هو أنيس المستوحشين، وهو الرَّاعي والحامي لكلِّ النَّاس...
لذلك، إذا أراد النَّاس أن يخوِّفوكم بالنَّاس، وإذا أراد النَّاس أن يحذِّروكم؛ جامل فلاناً حتَّى لا يغضب عليك لأنَّه صاحب مال، راقب فلاناً حتَّى لا يغضب عليك لأنَّ عنده جاهاً، حاول أن تخضع لفلان لأنَّه صاحب سلاح... إذا حاولوا أن يخوّفوك، ارفع رأسك إلى ربِّك، ولا تحنه لأحد، ليركع عقلك لله كما يركع جسدك له، ليسجد كلّ كيانك لله كما تسجد جبهتك له، وقل: "إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالي"، وهذا ما نظمه البعض في قوله:
فليتَكَ تحلو والحياةُ مريرةٌ وليتَكَ ترضى والأنامُ غضابُ
وليتَ الَّذي بيني وبينَكَ عامرٌ وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ
لأنَّ الكلّ يموتون، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرَّحمن: 26]، كلّ من تخافونهم، كلّ من تحذرونهم، كلّ من تخضعون لهم، كلّ من تأملون بهم، كلّهم يموتون ويتحوَّلون إلى تراب، ولكنَّ الله وحده هو الباقي، فكن مع الباقي، ولا تكن مع الفاني.
- غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي - يا ربّ، كما أريد أن لا تغضب عليَّ، فأعطني العافية عندما أعيش مع النَّاس.
- فَأَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَانْكَشَفَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَنْ لَا تُمِيتَنِي عَلَى غَضَبِكَ – يسأل الله حسن العاقبة. لا تقل أنا اليوم مؤمن، أصلِّي وأصوم وأحجّ وأسبِّح، لأنَّه قد تأتيك هزّة وصدمة في آخر حياتك، فتخرجك عن إيمانك. لذلك، فكِّر دائماً في حسن العاقبة، وادع هذا الدّعاء: "اللَّهمَّ وأسألك أنْ تجعلَ خَيْرَ أَمْري آخِرَهُ، وَخَيْرَ أَعْمَالي خَوَاتيمَها، وخَيْرَ أيَّامي يومَ ألقَاكَ".
- وَلَا تَنْزِلَ بِي سَخَطَكَ. لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ - لك الحقّ في أن تعاتبني، لأنّي أذنبت، ولأنّي أجرمت، ولأنّي انحرفت، ولأنّي بعدت عنك، وأنا، يا ربّ، بين يديك، لك كلُّ العتبى، ولك كلُّ الحقّ، ولك عليَّ كلّ الحجَّة، وأنا بين يديك أستغفرك، ولا أزال باقياً في استغفاري وابتهالي حتّى ترضى عنّي.
- لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ رَبَّ الْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي أَحْلَلْتَهُ الْبَرَكَةَ، وَجَعَلْتَهُ لِلنَّاسِ أَمَنَةً". ولكنَّ القوم لم يجعلوا الحسين (ع) يأمن في البلد الحرام والمشعر الحرام، فغادر تلك البلدة الطيِّبة من أجل أن يواجه المسؤوليَّة الكبرى في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وفي إصلاح أمَّة جدِّه.
* من محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 08/05/1997م.
يتحدَّث الإمام الحسين (ع) في دعاء يوم عرفة عن نعم الله عليه، فيبدأ بتذكّرها، وهذا أسلوب قرآنيّ ونبويّ، في أن يعيش الإنسان دائماً تذكُّرَ نعمِ اللهِ عليه في جسده، وفيما يأتي إليه من الآخرين، لأنَّك عندما تتذكَّر نعم الله عليك، تعرف أنَّك الفقير إليه تعالى، وأنَّك لا تستطيع أن تستغني عنه مقدار لحظة، لأنَّ الشَّيطانَ قد يوقعك في الغفلة، وقد يبعدك عن الله، وقد يجعلك إذا ملكت المال والجاه، تشعر بأنَّك ملكته من خلال ذاتك، كما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص: 78]، ما دخل الله في المال؟! فأنا بجهدي أوتيت المال! وليس ذلك إلَّا لأنَّه غفل عن الله سبحانه وتعالى. لذلك، يحتاج الإنسان دائماً أن يتذكَّر نعم الله عليه، وأن يشكر الله على هذه النّعم {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النَّحل: 18]، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النَّحل: 53]، {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم: 7]...
تذكُّرُ نعمِ اللهِ
يقول (ع): "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا خَلَقْتَنِي فَجَعَلْتَنِي سَمِيعاً بَصِيراً - فتذكَّر نعمة السَّمع والبصر - وَلَكَ الْحَمْدُ كَمَا خَلَقْتَنِي فَجَعَلْتَنِي حَيّاً سَوِيّاً رَحْمَةً بِي، وَكُنْتَ عَنْ خَلْقِي غَنِيّاً - لسْتَ بحاجة إليَّ - رَبِّ بِمَا بَرَأْتَنِي - أي أنشأتني وأبدعتني - فعدلت فطرتي، ربِّ بما أنشأتني فأحسنت صورتي، يا ربِّ بما أحسنت بي وفي نفسي عافيتني، ربِّ بما كلأْتني - يعني حفظتني – ووفَّقتني، ربِّ بما أنعمْتَ عليَّ فهديْتَني - لأنَّ الهداية من أفضل النِّعم من الله سبحانه وتعالى على الإنسان – ربِّ بما آويتني - جعلْتَ لي مأوى - ومن كلِّ خيرٍ آتيتني وأعطيتني، ربِّ بما أطعمْتَني وسقيْتَني، ربِّ بما أغنيْتَني وأقنيْتني - جعلت لي الأثاث والمال وما إلى ذلك - رَبِّ بِمَا أَعَنْتَنِي وَأَعْزَزْتَنِي، رَبِّ بِمَا أَلْبَسْتَنِي مِنْ ذِكْرِكَ الصَّافِي وَيَسَّرْتَ لِي مِنْ صُنْعِكَ الْكَافِي، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَعِنِّي عَلَى بَوَائِقِ الدَّهْرِ – مشاكل الدَّهر - وَصُرُوفِ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَنَجِّنِي مِنْ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَكُرُبَاتِ الْآخِرَةِ - لأنَّ ذلك كلَّه بيدِكَ يا ربّ - وَاكْفِنِي شَرَّ مَا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فِي الْأَرْضِ"، لأنَّك وحدك القادر على أن تمسك بأيديهم عن أن يضرّوني.
طلباتُهُ (ع) من الله
ثمّ بدأ (ع) في الطَّلبات: "اللَّهُمَّ مَا أَخَافُ فَاكْفِنِي - اكفني كلَّ ما أخاف أن يعرض عليَّ في ديني ودنياي.
- وَمَا أَحْذَرُ - من النَّاس ومن غوائلهم – فَقِنِي، وَفِي نَفْسِي وَدِينِي فَاحْرُسْنِي - احرس ديني يا ربّ، حتَّى لا يسرقه السَّارقون، واحرس نفسي، حتَّى لا يضلَّها المضلّون.
- وَفِي سَفَرِي فَاحْفَظْنِي - احفظني إذا سافرت، والسَّفر مظنَّة الهلاك والأخطار - وَفِي أَهْلِي وَمَالِي وَوُلْدِي فَاخْلُفْنِي - إذا سافرت عن أهلي ومالي وولدي، فكن أنت الخليفة عليهم، ترعاهم وتحفظهم، وتمنع الآخرين عنهم.
- وَفِيمَا رَزَقْتَنِي فَبَارِكْ لِي، وَفِي نَفْسِي فَذَلِّلْنِي - اجعلني، يا ربّ، ذليلاً في نفسي عندما أجلس بين يديك، لأتذكَّر كلَّ نقاط ضعفي وكلَّ عيوبي، فأزداد تواضعاً وشعوراً بالذلَّة في نفسي، حتَّى لا أتكبَّر ولا أتجبَّر.
- وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ فَعَظِّمْنِي - لأنَّ العظمةَ منك، يا ربّ، أنت مقلِّب القلوب {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}[الأنفال: 24]، ولذلك، أنت الَّذي تغرس عظمتي في نفوس النَّاس، وأنت الَّذي يمكن أن تغرس حقارتي في نفوسهم، وهذا ما عبَّر عنه الإمام زين العابدين (ع): "إِلَهِي إِنْ رَفَعْتَنِي فَمَنْ ذَا الَّذِي يَضَعُنِي، وَإِنْ وَضَعْتَنِي فَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْفَعُنِي".
- وَمِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَسَلِّمْنِي، وَبِذُنُوبِي - الّتي ربَّما تصدر عنّي في السّرّ - فَلَا تَفْضَحْنِي، وَبِسَرِيرَتِي - ما أُسرُّه في نفسي من النيَّات ومن الأفكار الشّرّيرة - فَلَا تُخْزِنِي، وَبِعَمَلِي فَلَا تُبْسِلْنِي، وَنِعَمَكَ فَلَا تَسْلُبْنِي، وَإِلَى غَيْرِكَ فَلَا تَكِلْنِي - لا تكلني، يا ربّ، إلَّا إليك.
- إِلَى مَنْ تَكِلُنِي - يا ربّ، إذا أردت أن تتركني، وأن تبعد عنّي رعايتك، فإلى من تكلني؟! - إِلَى الْقَرِيبِ يَقْطَعُنِي، أَمْ إِلَى الْبَعِيدِ يَتَهَجَّمُنِي، أَمْ إِلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ لِي وَأَنْتَ رَبِّي وَمَلِيكُ أَمْرِي، أَشْكُو إِلَيْكَ غُرْبَتِي وَبُعْدَ دَارِي وَهَوَانِي عَلَى مَنْ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي - من هؤلاء الَّذين يسيطرون على الواقع.
- اللَّهُمَّ فَلَا تُحْلِلْ بِي غَضَبَكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَضِبْتَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي سِوَاكَ - وهذا لا بدَّ أن يكون شعار كلّ مؤمن، فليغضب كلَّ النَّاس عليك، وليقف كلّ النَّاس ضدَّك، فإذا كنت تعيش حلاوة المحبَّة لله، وروحانيَّة القرب منه والإخلاص له، وإذا كنت تعيش الأنس به تعالى، فالله هو أنيس المستوحشين، وهو الرَّاعي والحامي لكلِّ النَّاس...
لذلك، إذا أراد النَّاس أن يخوِّفوكم بالنَّاس، وإذا أراد النَّاس أن يحذِّروكم؛ جامل فلاناً حتَّى لا يغضب عليك لأنَّه صاحب مال، راقب فلاناً حتَّى لا يغضب عليك لأنَّ عنده جاهاً، حاول أن تخضع لفلان لأنَّه صاحب سلاح... إذا حاولوا أن يخوّفوك، ارفع رأسك إلى ربِّك، ولا تحنه لأحد، ليركع عقلك لله كما يركع جسدك له، ليسجد كلّ كيانك لله كما تسجد جبهتك له، وقل: "إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالي"، وهذا ما نظمه البعض في قوله:
فليتَكَ تحلو والحياةُ مريرةٌ وليتَكَ ترضى والأنامُ غضابُ
وليتَ الَّذي بيني وبينَكَ عامرٌ وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ
لأنَّ الكلّ يموتون، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرَّحمن: 26]، كلّ من تخافونهم، كلّ من تحذرونهم، كلّ من تخضعون لهم، كلّ من تأملون بهم، كلّهم يموتون ويتحوَّلون إلى تراب، ولكنَّ الله وحده هو الباقي، فكن مع الباقي، ولا تكن مع الفاني.
- غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي - يا ربّ، كما أريد أن لا تغضب عليَّ، فأعطني العافية عندما أعيش مع النَّاس.
- فَأَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَانْكَشَفَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَنْ لَا تُمِيتَنِي عَلَى غَضَبِكَ – يسأل الله حسن العاقبة. لا تقل أنا اليوم مؤمن، أصلِّي وأصوم وأحجّ وأسبِّح، لأنَّه قد تأتيك هزّة وصدمة في آخر حياتك، فتخرجك عن إيمانك. لذلك، فكِّر دائماً في حسن العاقبة، وادع هذا الدّعاء: "اللَّهمَّ وأسألك أنْ تجعلَ خَيْرَ أَمْري آخِرَهُ، وَخَيْرَ أَعْمَالي خَوَاتيمَها، وخَيْرَ أيَّامي يومَ ألقَاكَ".
- وَلَا تَنْزِلَ بِي سَخَطَكَ. لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ - لك الحقّ في أن تعاتبني، لأنّي أذنبت، ولأنّي أجرمت، ولأنّي انحرفت، ولأنّي بعدت عنك، وأنا، يا ربّ، بين يديك، لك كلُّ العتبى، ولك كلُّ الحقّ، ولك عليَّ كلّ الحجَّة، وأنا بين يديك أستغفرك، ولا أزال باقياً في استغفاري وابتهالي حتّى ترضى عنّي.
- لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ رَبَّ الْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَالْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي أَحْلَلْتَهُ الْبَرَكَةَ، وَجَعَلْتَهُ لِلنَّاسِ أَمَنَةً". ولكنَّ القوم لم يجعلوا الحسين (ع) يأمن في البلد الحرام والمشعر الحرام، فغادر تلك البلدة الطيِّبة من أجل أن يواجه المسؤوليَّة الكبرى في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وفي إصلاح أمَّة جدِّه.
* من محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 08/05/1997م.