لقد قدَّم الإمام الحسين (ع) نفسه من حيث أراد أن يقدِّم حركته، فقال (ع): "إنِّي لم أخرجْ أشراً ولا بطراً". والأشر والبطر كلمتان مترادفتان تعنيان شدَّة الاستعراض الذّاتيّ الَّذي ينتفخ بالخيلاء، والَّذي يتمرَّد على الخير.
إنَّه (ع) يقول إنَّني لم أنطلق من أيِّ حالة انتفاخ في الشخصيَّة، لتكبر بالمركز الَّذي تطمح إليه، لأنَّني أعيش الغنى الرّوحيَّ والنَّفسيّ، الغنى المسؤول.. لست إنساناً ينطلق من أجل أن يكبر بالموقع، لأنَّ الناس الكبار هم الَّذين يكبر الموقع بهم، لأنَّ المواقع، سواء كانت سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو دينيَّة، هي الَّتي تأخذ من الَّذين يعيشون في داخلها ولا تعطيهم، هي مجرَّد أرض، مجرَّد وظيفة، مجرَّد عنوان... المسألة، كما كان القدماء يقولون: "المكانُ بالمكينِ"، وليس المكين بالمكان. إنَّ الإنسان هو الَّذي يعطي لموقعه عظمةً، بما يملك من عناصر العظمة. ونحن عندما ندرس تأريخ الأنبياء والرّسل والمصلحين في التَّأريخ، نجد أنَّهم هم الَّذين أعطوا مواقعهم ما يملكونه من عناصر العظمة والرَّحابة والامتداد، ولم تعطهم مواقعهم الماديَّة الذاتيَّة شيئاً.
لذلك، كان الحسين (ع) يملك الغنى الرّوحيَّ في علاقته بالله، كأعمق ما يملكه إنسان في معنى الفرح بالله. نحن ربَّما نتمادَى في بعض أساليبنا الوعظيَّة لنصنع الخوف من الله، حتَّى كأنَّ الإنسان يشعر بأنَّ الله ينتظره ليعصي، ليطبق عليه بعذابه، ولكنَّنا نعرف أنَّ الفكر الرّوحيَّ في كلِّ دين، هو أن ننفتح على الله لنحبَّه ليحبَّنا: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى – سيروا على المنهج الَّذي يحبّه الله - يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ}[آل عمران: 31].
وحتَّى الخوف، أيُّها الأحبَّة، ليس هو الخوف الَّذي يخلق في نفسك عقدة، ولكنَّه تماماً كما يخاف الإنسان ممن يحبُّه أن يغضب منه أو أن لا يرضى منه، بحيث إنَّك تخاف من الله أن لا يحبَّك إذا عصيت، فالإنسان يعيش في نفسه الألم عندما يشعر بأنَّ محبوبه لا يحبّه. هذه هي المسألة، ليس خوف العقدة، ولكنَّه خوف المحبَّة، على ما يقوله ذلك الشَّاعر:
تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهِرُ حبَّهُ هَذا لَعمرُكَ في الفعالِ بديعُ
لوْ كانَ حبُّكَ صادقاً لأطعْتَهُ إنَّ المحبَّ لمنْ يحبُّ مطيعُ
لذلك، كان الحسين (ع) وهو في أقسى ساعات الألم، في أشدِّ حالات الفرح الرّوحيّ، وهذا ما نقرأه في سيرة عاشوراء، عندما جاء بولده الرَّضيع عبدالله ليطلب له شربةً من الماء، فما كان من بعض هؤلاء المجرمين إلَّا أن وضع سهماً في كبد القوس، ورأى رقبة الطّفل تلمع على كتف أبيه، فذبحه من الوريد إلى الوريد، حتَّى لا يختلف القوم حوله. كيف كان ردُّ فعل الإمام الحسين (ع)؟ قال: "هوَّنَ عليَّ ما نزلَ بي أنَّهُ بعينِ الله"، فقد كان يعيش أعمق حالات الفرح الرّوحيّ في أعمق حالات الألم، لأنَّ الألم المادّيَّ في ما هو شعور الجسد، لا يلغي الفرح الرّوحيَّ، فصاحب الرِّسالة يفرح كلَّما اشتدَّ به الألم من أجل رسالته، لأنَّه يشعر في تلك السَّاعة بأنَّه أعطى رسالته من كلِّ إنسانيَّته، ومن كلِّ نفسه، ما يجعلها غنيّةً به.
ولذلك، لم يكن الإمامُ الحسين (ع) إنساناً يتطلَّب موقعاً يكبر به، كان يكبر بالله. وقد علَّمنا رسول الله (ص) والأنبياء من قبله، كما علَّمنا تلميذ رسول الله الإمام عليّ (ع) وأولاده في كلمة التَّكبير "الله أكبر"، أنَّنا نكبر بالله ولا نكبر بغيره.
ونقرأ في تراث الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، في دعائه في انقطاعه إلى الله هذا المعنى: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إِلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ، وضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ. فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَا إِلَهِي مِنْ أُنَاسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الِارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا - كانوا يريدون أن يكبروا بالصّغار، ولكنَّهم في الوعي الرّوحيّ، رأوا أنَّ عليهم أن يكبروا بالأكبر - فَصَحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ اخْتِيَارُهُ. فَأَنْتَ يَا مَوْلايَ دُونَ كُلِّ مَسْؤولٍ مَوْضِعُ مَسْأَلَتِي، وَدُونَ كُلِّ مَطْلُوبٍ إِلَيْهِ وَلِيُّ حَاجَتِي، أَنْتَ الْمَخْصُوصُ قَبْلَ كُلِّ مَدْعُوٍّ بِدَعْوَتِي".
هذا هو الفرح الرّوحيّ الَّذي عبَّر عنه عليّ بن أبي طالب (ع) في دعاء كميل.. إنَّ علينا أن نتعلَّم كيف نحبَّ الله، لأنَّنا كلَّما أحببنا الله أكثر، أحببنا النَّاس أكثر، وأحببنا المسؤوليَّة والجدّيَّة أكثر: "فَهَبْني يا إِلـَهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ، أمْ كَيْفَ أسْكُنُ فِي النَّارِ وَرَجائي عَفْوُكَ".
هكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الحسين (ع) يعيش هذا الغنى الرّوحيّ، وقد عبَّر بعض الشّعراء عن هذه الحالة النَّفسيَّة، والحسين (ع) في حالة الاحتضار، كان يعبِّر عن هذه الحالة الرّوحيَّة المنفتحة على الله، والعاشقة له، والذَّائبة فيه تعالى:
تركْتُ الخلقَ طُرّاً في هواكَ وأيتمْتُ العيال لكي أراكَ
فلوْ قطَّعْتني بالحُبِّ إرباً لما مالَ الفؤادُ إلى سواكَ
* من محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 19/03/2002م.
لقد قدَّم الإمام الحسين (ع) نفسه من حيث أراد أن يقدِّم حركته، فقال (ع): "إنِّي لم أخرجْ أشراً ولا بطراً". والأشر والبطر كلمتان مترادفتان تعنيان شدَّة الاستعراض الذّاتيّ الَّذي ينتفخ بالخيلاء، والَّذي يتمرَّد على الخير.
إنَّه (ع) يقول إنَّني لم أنطلق من أيِّ حالة انتفاخ في الشخصيَّة، لتكبر بالمركز الَّذي تطمح إليه، لأنَّني أعيش الغنى الرّوحيَّ والنَّفسيّ، الغنى المسؤول.. لست إنساناً ينطلق من أجل أن يكبر بالموقع، لأنَّ الناس الكبار هم الَّذين يكبر الموقع بهم، لأنَّ المواقع، سواء كانت سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو دينيَّة، هي الَّتي تأخذ من الَّذين يعيشون في داخلها ولا تعطيهم، هي مجرَّد أرض، مجرَّد وظيفة، مجرَّد عنوان... المسألة، كما كان القدماء يقولون: "المكانُ بالمكينِ"، وليس المكين بالمكان. إنَّ الإنسان هو الَّذي يعطي لموقعه عظمةً، بما يملك من عناصر العظمة. ونحن عندما ندرس تأريخ الأنبياء والرّسل والمصلحين في التَّأريخ، نجد أنَّهم هم الَّذين أعطوا مواقعهم ما يملكونه من عناصر العظمة والرَّحابة والامتداد، ولم تعطهم مواقعهم الماديَّة الذاتيَّة شيئاً.
لذلك، كان الحسين (ع) يملك الغنى الرّوحيَّ في علاقته بالله، كأعمق ما يملكه إنسان في معنى الفرح بالله. نحن ربَّما نتمادَى في بعض أساليبنا الوعظيَّة لنصنع الخوف من الله، حتَّى كأنَّ الإنسان يشعر بأنَّ الله ينتظره ليعصي، ليطبق عليه بعذابه، ولكنَّنا نعرف أنَّ الفكر الرّوحيَّ في كلِّ دين، هو أن ننفتح على الله لنحبَّه ليحبَّنا: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى – سيروا على المنهج الَّذي يحبّه الله - يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ}[آل عمران: 31].
وحتَّى الخوف، أيُّها الأحبَّة، ليس هو الخوف الَّذي يخلق في نفسك عقدة، ولكنَّه تماماً كما يخاف الإنسان ممن يحبُّه أن يغضب منه أو أن لا يرضى منه، بحيث إنَّك تخاف من الله أن لا يحبَّك إذا عصيت، فالإنسان يعيش في نفسه الألم عندما يشعر بأنَّ محبوبه لا يحبّه. هذه هي المسألة، ليس خوف العقدة، ولكنَّه خوف المحبَّة، على ما يقوله ذلك الشَّاعر:
تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهِرُ حبَّهُ هَذا لَعمرُكَ في الفعالِ بديعُ
لوْ كانَ حبُّكَ صادقاً لأطعْتَهُ إنَّ المحبَّ لمنْ يحبُّ مطيعُ
لذلك، كان الحسين (ع) وهو في أقسى ساعات الألم، في أشدِّ حالات الفرح الرّوحيّ، وهذا ما نقرأه في سيرة عاشوراء، عندما جاء بولده الرَّضيع عبدالله ليطلب له شربةً من الماء، فما كان من بعض هؤلاء المجرمين إلَّا أن وضع سهماً في كبد القوس، ورأى رقبة الطّفل تلمع على كتف أبيه، فذبحه من الوريد إلى الوريد، حتَّى لا يختلف القوم حوله. كيف كان ردُّ فعل الإمام الحسين (ع)؟ قال: "هوَّنَ عليَّ ما نزلَ بي أنَّهُ بعينِ الله"، فقد كان يعيش أعمق حالات الفرح الرّوحيّ في أعمق حالات الألم، لأنَّ الألم المادّيَّ في ما هو شعور الجسد، لا يلغي الفرح الرّوحيَّ، فصاحب الرِّسالة يفرح كلَّما اشتدَّ به الألم من أجل رسالته، لأنَّه يشعر في تلك السَّاعة بأنَّه أعطى رسالته من كلِّ إنسانيَّته، ومن كلِّ نفسه، ما يجعلها غنيّةً به.
ولذلك، لم يكن الإمامُ الحسين (ع) إنساناً يتطلَّب موقعاً يكبر به، كان يكبر بالله. وقد علَّمنا رسول الله (ص) والأنبياء من قبله، كما علَّمنا تلميذ رسول الله الإمام عليّ (ع) وأولاده في كلمة التَّكبير "الله أكبر"، أنَّنا نكبر بالله ولا نكبر بغيره.
ونقرأ في تراث الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، في دعائه في انقطاعه إلى الله هذا المعنى: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إِلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ، وضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ. فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَا إِلَهِي مِنْ أُنَاسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الِارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا - كانوا يريدون أن يكبروا بالصّغار، ولكنَّهم في الوعي الرّوحيّ، رأوا أنَّ عليهم أن يكبروا بالأكبر - فَصَحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ اخْتِيَارُهُ. فَأَنْتَ يَا مَوْلايَ دُونَ كُلِّ مَسْؤولٍ مَوْضِعُ مَسْأَلَتِي، وَدُونَ كُلِّ مَطْلُوبٍ إِلَيْهِ وَلِيُّ حَاجَتِي، أَنْتَ الْمَخْصُوصُ قَبْلَ كُلِّ مَدْعُوٍّ بِدَعْوَتِي".
هذا هو الفرح الرّوحيّ الَّذي عبَّر عنه عليّ بن أبي طالب (ع) في دعاء كميل.. إنَّ علينا أن نتعلَّم كيف نحبَّ الله، لأنَّنا كلَّما أحببنا الله أكثر، أحببنا النَّاس أكثر، وأحببنا المسؤوليَّة والجدّيَّة أكثر: "فَهَبْني يا إِلـَهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ، أمْ كَيْفَ أسْكُنُ فِي النَّارِ وَرَجائي عَفْوُكَ".
هكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الحسين (ع) يعيش هذا الغنى الرّوحيّ، وقد عبَّر بعض الشّعراء عن هذه الحالة النَّفسيَّة، والحسين (ع) في حالة الاحتضار، كان يعبِّر عن هذه الحالة الرّوحيَّة المنفتحة على الله، والعاشقة له، والذَّائبة فيه تعالى:
تركْتُ الخلقَ طُرّاً في هواكَ وأيتمْتُ العيال لكي أراكَ
فلوْ قطَّعْتني بالحُبِّ إرباً لما مالَ الفؤادُ إلى سواكَ
* من محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 19/03/2002م.