محاضرات
14/08/2023

الجوادُ (ع): الإمامُ الّذي تفوَّقَ على علماءِ زمانِهِ

الجوادُ (ع): الإمامُ الّذي تفوَّقَ على علماءِ زمانِهِ

الإمام محمَّد بن عليّ الجواد (ع) الذي تصادف ذكرى وفاته في هذه الأيَّام من ذي القعدة، هو من أصغر الأئمّة (ع) في العمر الزمني، إلَّا أنه مع صغر سنّه التي تلتقي مع صغر سنّ يحيى (ع)، كان يمثّل ما يشبه المعجزة البشريّة {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم: 12]، فقد كان ذلك في المجتمع الَّذي يحكمه بنو العباس الَّذين اضطهدوا الأئمّة (ع) بمختلف أنواع الاضطهاد، حيث كانوا يخافون على ملكهم منهم، لأنَّ الأئمَّة (ع) كانوا يملكون الثّقة الكبرى لدى المسلمين من مختلف المذاهب والاتجاهات، سواء كانوا ممن يقولون بإمامتهم، أو ممن لا يقولون بها.

لكنَّ هذا الإمام تميَّز بالعلم الواسع الغزير الَّذي تفوَّق به على كثير من علماء عصره، حتى إنَّ الخليفة العباسي آنذاك، المأمون، الَّذي كان من الخلفاء المثقَّفين؛ كان يقدِّره ويعظِّمه تعظيماً كبيراً...

وبلغ من تعظيم هذا الخليفة للإمام الجواد (ع) بعد أن زوَّجه ابنته، أن اجتمع كلّ أفراد عائلته من العبَّاسيين، وخافوا أن يجدِّد المأمون ما بدأه من تولية العهد لأبيه الإمام الرضا (ع)، ما يجعل الخلافة تنتقل من بني العباس إلى بني عليّ (ع)، وعاتبوه على ذلك، ولكن المأمون قال لهم: لقد عرفت من فضل هذا الشابّ ومن علمه ما جعلني أعظّمه. فقالوا له: فهلا تركته وهو صغير السنّ يتعلم ويتثقَّف ويتأدَّب ليبلغ ما بلغ قبل أن تعطيه هذه الكرامة وهذا الشَّأن الكبير، ولكنَّه قال لهم: إنَّ هذا من أهل بيتٍ علّمهم الله سبحانه وتعالى وألهمهم.

واتّفق القوم بعد ذلك على أن ينصب له المأمون مجلساً ويدعو فيه كبير القضاة، يحيى بن أكثم، ليسأل الإمام الجواد (ع) الأسئلة التي ربما يريدون من خلالها أن يظهر عجزه... وهكذا كان، وجيء بالإمام الجواد (ع)، وبدأ كبير القضاة يسأله، ولكنّ الإمام الجواد (ع) فرّع مسألته إلى عدة مسائل، حتى أعجز هذا القاضي الكبير عن الجواب وتحيّر، ثم طلب منه المأمون أن يفصّل ما سأله إيّاه قاضي القضاة، ففصّله الإمام (ع)، وسلّم الجميع بعلمه وفضله وتفوّقه على علماء زمانه، بالرّغم من صغر سنّه.

وهكذا رأينا أنَّ المجتمع من حوله كان يقبل عليه ويسأله عن كلِّ ما أهمّه، وكان الإمام (ع) يبيّن لهم ذلك، حتى سلّم الجميع بفضله في هذا المجال.

ونحن في هذا الموقف، نحاول أن نختار بعض كلمات الإمام (ع)، سواء في الموعظة، أو في الجانب الاجتماعي السلوكي، من خلال بعض كلماته الَّتي قالها وهو ينصح بعض أصحابه: "لا تكن ولياً لله في العلانية، وعدوّاً له في السرّ"[1].

 فالإمام (ع) أراد من خلال هذه الكلمات، أن يعالج حالة أولئك الَّذين يظهرون أمام النَّاس بمظهر الأتقياء المؤمنين، سواء في عباداتهم أو في كلماتهم أو في علاقاتهم، لكنَّهم في الوقت نفسه، عندما يعيشون السريَّة في حياتهم، فقد تجدهم أعداء لله، كأولئك الَّذين يظلمون أسرهم، ويظلمون النَّاس الَّذين هم تحت سلطتهم، أو كأولئك الَّذين يفتنون ويكذبون في السّرّ، بحيث يظهرون للنَّاس بمظهر الأتقياء، ولكنَّهم في السرّ يعيشون عيشة الأشقياء الذين لا يتركون ذنباً إلا أذنبوه، ولا يتركون أحداً إلا ظلموه.

وفي كلام آخر يتحدَّث فيه الإمام (ع) عن الناس الذين يستمعون إلى بعض الخطباء أو بعض الوعّاظ، وينجذبون إليهم ويأخذون ما يتحدثون به من دون تفكير، بحيث إنهم يسلّمونهم عقولهم من دون أن يفكِّروا في طبيعة هذا الخطيب أو ذاك، في علمه، في ثقافته، في استقامته، يقول (ع): "مَنْ أَصْغَى إلى ناطقٍ فقدْ عبَدَه - فهو يعني أنَّ الإصغاء والتَّسليم لمن يتكلَّم هو نوع من أنواع العبادة، لأنَّ العبادة تمثل غاية الخضوع - فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله"،  فإذا كان كلامه هو كلام الله، فإنه قد عبد الله في إصغائه إليه - وإن كان ينطق عن إبليس فقد عبد إبليس"[2]، لأنَّه خضع له بكليّته وانجذب إلى كلماته.

وهكذا يتحدَّث الإمام عن الصّفات الأساسيَّة للمؤمن، بقوله: "المؤمنُ يحتاجُ إلى ثلاث خصال؛ توفيقٍ من الله - أن يوفِّقه الله للحقّ وللخير وللالتزام الدّيني، وأن يفتح قلبه على ذلك كلّه- وواعظ من نفسه -  بمعنى أنَّه لا يحتاج إلى واعظ من الخارج، بل يحاسب نفسه ويعظها بالتأمّل والتدبّر والتَّفكير، حتى تعرف نفسه من خلال تأمّلاته ومجاهداته، ما ينبغي لها أن تفعله، وما ينبغي لها أن تتركه - وقبول ممَّن ينصحه"[3]، أن يستمع النصيحة من الناصحين الذين يملكون الخبرة والمعرفة والإخلاص، فيفتح عقله لهم، ليفكِّر في ما ينصحونه به، ويتقبّل ذلك عندما يرى الخير في هذه النَّصيحة، لأنَّ الإنسان المؤمن لا بدَّ له من تجديد نفسه بما يصلحها، وأن يغيِّرها فيما إذا كانت تسير في اتجاه ليس من مصلحتها، ولهذا يقول تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]...

 

[1]  بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج75، ص 367.

[2]  بحار الأنوار، ج2، ص 94.

[3]  بحار الأنوار، ج75، ص 358.

* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريح: 1 ذو الحجة 1424هـ/ الموافق: ٢٣/١/٢٠٠٤م.

الإمام محمَّد بن عليّ الجواد (ع) الذي تصادف ذكرى وفاته في هذه الأيَّام من ذي القعدة، هو من أصغر الأئمّة (ع) في العمر الزمني، إلَّا أنه مع صغر سنّه التي تلتقي مع صغر سنّ يحيى (ع)، كان يمثّل ما يشبه المعجزة البشريّة {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم: 12]، فقد كان ذلك في المجتمع الَّذي يحكمه بنو العباس الَّذين اضطهدوا الأئمّة (ع) بمختلف أنواع الاضطهاد، حيث كانوا يخافون على ملكهم منهم، لأنَّ الأئمَّة (ع) كانوا يملكون الثّقة الكبرى لدى المسلمين من مختلف المذاهب والاتجاهات، سواء كانوا ممن يقولون بإمامتهم، أو ممن لا يقولون بها.

لكنَّ هذا الإمام تميَّز بالعلم الواسع الغزير الَّذي تفوَّق به على كثير من علماء عصره، حتى إنَّ الخليفة العباسي آنذاك، المأمون، الَّذي كان من الخلفاء المثقَّفين؛ كان يقدِّره ويعظِّمه تعظيماً كبيراً...

وبلغ من تعظيم هذا الخليفة للإمام الجواد (ع) بعد أن زوَّجه ابنته، أن اجتمع كلّ أفراد عائلته من العبَّاسيين، وخافوا أن يجدِّد المأمون ما بدأه من تولية العهد لأبيه الإمام الرضا (ع)، ما يجعل الخلافة تنتقل من بني العباس إلى بني عليّ (ع)، وعاتبوه على ذلك، ولكن المأمون قال لهم: لقد عرفت من فضل هذا الشابّ ومن علمه ما جعلني أعظّمه. فقالوا له: فهلا تركته وهو صغير السنّ يتعلم ويتثقَّف ويتأدَّب ليبلغ ما بلغ قبل أن تعطيه هذه الكرامة وهذا الشَّأن الكبير، ولكنَّه قال لهم: إنَّ هذا من أهل بيتٍ علّمهم الله سبحانه وتعالى وألهمهم.

واتّفق القوم بعد ذلك على أن ينصب له المأمون مجلساً ويدعو فيه كبير القضاة، يحيى بن أكثم، ليسأل الإمام الجواد (ع) الأسئلة التي ربما يريدون من خلالها أن يظهر عجزه... وهكذا كان، وجيء بالإمام الجواد (ع)، وبدأ كبير القضاة يسأله، ولكنّ الإمام الجواد (ع) فرّع مسألته إلى عدة مسائل، حتى أعجز هذا القاضي الكبير عن الجواب وتحيّر، ثم طلب منه المأمون أن يفصّل ما سأله إيّاه قاضي القضاة، ففصّله الإمام (ع)، وسلّم الجميع بعلمه وفضله وتفوّقه على علماء زمانه، بالرّغم من صغر سنّه.

وهكذا رأينا أنَّ المجتمع من حوله كان يقبل عليه ويسأله عن كلِّ ما أهمّه، وكان الإمام (ع) يبيّن لهم ذلك، حتى سلّم الجميع بفضله في هذا المجال.

ونحن في هذا الموقف، نحاول أن نختار بعض كلمات الإمام (ع)، سواء في الموعظة، أو في الجانب الاجتماعي السلوكي، من خلال بعض كلماته الَّتي قالها وهو ينصح بعض أصحابه: "لا تكن ولياً لله في العلانية، وعدوّاً له في السرّ"[1].

 فالإمام (ع) أراد من خلال هذه الكلمات، أن يعالج حالة أولئك الَّذين يظهرون أمام النَّاس بمظهر الأتقياء المؤمنين، سواء في عباداتهم أو في كلماتهم أو في علاقاتهم، لكنَّهم في الوقت نفسه، عندما يعيشون السريَّة في حياتهم، فقد تجدهم أعداء لله، كأولئك الَّذين يظلمون أسرهم، ويظلمون النَّاس الَّذين هم تحت سلطتهم، أو كأولئك الَّذين يفتنون ويكذبون في السّرّ، بحيث يظهرون للنَّاس بمظهر الأتقياء، ولكنَّهم في السرّ يعيشون عيشة الأشقياء الذين لا يتركون ذنباً إلا أذنبوه، ولا يتركون أحداً إلا ظلموه.

وفي كلام آخر يتحدَّث فيه الإمام (ع) عن الناس الذين يستمعون إلى بعض الخطباء أو بعض الوعّاظ، وينجذبون إليهم ويأخذون ما يتحدثون به من دون تفكير، بحيث إنهم يسلّمونهم عقولهم من دون أن يفكِّروا في طبيعة هذا الخطيب أو ذاك، في علمه، في ثقافته، في استقامته، يقول (ع): "مَنْ أَصْغَى إلى ناطقٍ فقدْ عبَدَه - فهو يعني أنَّ الإصغاء والتَّسليم لمن يتكلَّم هو نوع من أنواع العبادة، لأنَّ العبادة تمثل غاية الخضوع - فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله"،  فإذا كان كلامه هو كلام الله، فإنه قد عبد الله في إصغائه إليه - وإن كان ينطق عن إبليس فقد عبد إبليس"[2]، لأنَّه خضع له بكليّته وانجذب إلى كلماته.

وهكذا يتحدَّث الإمام عن الصّفات الأساسيَّة للمؤمن، بقوله: "المؤمنُ يحتاجُ إلى ثلاث خصال؛ توفيقٍ من الله - أن يوفِّقه الله للحقّ وللخير وللالتزام الدّيني، وأن يفتح قلبه على ذلك كلّه- وواعظ من نفسه -  بمعنى أنَّه لا يحتاج إلى واعظ من الخارج، بل يحاسب نفسه ويعظها بالتأمّل والتدبّر والتَّفكير، حتى تعرف نفسه من خلال تأمّلاته ومجاهداته، ما ينبغي لها أن تفعله، وما ينبغي لها أن تتركه - وقبول ممَّن ينصحه"[3]، أن يستمع النصيحة من الناصحين الذين يملكون الخبرة والمعرفة والإخلاص، فيفتح عقله لهم، ليفكِّر في ما ينصحونه به، ويتقبّل ذلك عندما يرى الخير في هذه النَّصيحة، لأنَّ الإنسان المؤمن لا بدَّ له من تجديد نفسه بما يصلحها، وأن يغيِّرها فيما إذا كانت تسير في اتجاه ليس من مصلحتها، ولهذا يقول تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]...

 

[1]  بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج75، ص 367.

[2]  بحار الأنوار، ج2، ص 94.

[3]  بحار الأنوار، ج75، ص 358.

* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريح: 1 ذو الحجة 1424هـ/ الموافق: ٢٣/١/٢٠٠٤م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية