"في بداية هذا الشهر - شهر رجب - كانت ذكرى ولادة الإمام محمد بن علي الباقر (ع)،
وعندما نذكر هذا الإمام، فإننا ننفتح على علم شمل العالم الإسلامي كله، فقد قدم
إمامنا العظيم إلى العالم الإسلامي في مرحلته علماً متنوعاً غزيراً في كلّ جوانب
المعرفة الإسلامية، من فلسفية وكلامية وفقهية ووعظية واجتماعية، رسمت للمسلمين
آنذاك الخط الإسلامي الأصيل في كل جوانب المعرفة الإسلامية.
وقد عاش الإمام الباقر (ع) في مرحلة سياسية أعطته حرية الحركة في الساحة، التي كان
يحوز فيها على الثقة الكبرى عند مختلف أصحاب الفكر والمعرفة الإسلامية، بقطع النظر
عن مذاهبهم الفقهية، وقد قال الشيخ المفيد في "الإرشاد": "روى عنه معالم الدين؛
بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين". وأشار إلى مثل ذلك أحد كبار
الرواة في ذلك العصر، وهو عبد الله بن عطاء، بقوله: "ما رأيت العلماء عند أحد أصغر
علماً منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحكم بن عتيبة عنده- وهو شخصية علمية معروفة في
ذلك العصر - مع جلالته في القوم بين يديه، كأنه صبي بين يدي معلّمه". كما قال عنه
أحد رواته، وهو محمد بن مسلم: "سألته عن ثلاثين ألف حديث".
ويذكر المؤرخون في سيرة الإمام الباقر (ع) الشخصيّة، أنه كان "كثير الذكر، كان يمشي
وإنّه ليذكر الله، ويأكل الطعام وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله
ذلك عن ذكر الله، وكان يجمع ولده، فيأمرهم بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة -
قراءة القرآن - من كان يقرأ منهم، ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذّكر، وكان ظاهر
الجود في الخاصّة والعامّة، مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالتفضّل والإحسان مع
كثرة عياله وتوسّط حاله".
في هذا الموقف، نريد أن نستمدّ من سيرة الإمام الباقر (ع) الخطوط العمليّة
التوجيهيّة في حركة الإنسان المسلم في الحياة، لأنّ الإمام الباقر (ع) - كما هم أهل
البيت (ع) - كانوا يعملون على أن يثقفوا المجتمع المسلم بكل القيم الإسلامية، وبكلّ
ما يذكّرهم بالله، بحيث تمتلئ عقولهم وقلوبهم بالله تعالى، وبحيث يرتفعون إلى درجة
التقوى. ولم يقتصر تعليمهم للناس على الجوانب الفقهية، بل كانوا يحدثونهم بكل ما
يقوّي معرفتهم بالله وحبهم للناس، ويقوّي خطّ الاستقامة في سلوكهم.
ولذلك، ينبغي لكل الذين يحملون ثقافة أهل البيت (ع)، أن يعملوا في الليل والنهار،
مع الخاصّة والعامّة، على تثقيف الناس بالإسلام، بأبعاده العقيدية والأخلاقية
والفقهية والاجتماعية والسياسية، لأنّ المجتمع المسلم إذا لم يكن مثقّفاً بالإسلام،
فإنه قد يُخدع عن الإسلام بالكفر باسم الإسلام، وقد يُصوَّر إليه الباطل بصورة الحقّ
فيأخذه على أنه الحق. وكما يجب على العلماء أن يعلموا، يجب على الناس أن يتعلَّموا.
وعلى ضوء هذا، ينبغي لنا أن نجعل مساجدنا - كما كانت في الماضي - مدارس تثقيفيّة.
كن تاجراً، كن عاملاً، كن صاحب مصنع، تلك هي مهنتك الّتي ترفع مستوى حياتك، ولكن كن
الإنسان الذي يتعلّم دائماً، لأن الإنسان الذي يملك العلم في كلّ مسؤوليّاته، هو
الإنسان الذي لا يستطيع الآخرون أن يخدعوه أو يغشّوه أو يزيّفوا له نظرته إلى
الحياة. إن ما أوقع المسلمين في التخلف وفي كل الخطوط المنحرفة، هو جهلهم بالإسلام
والحياة، وكان أئمة أل البيت(ع) يريدون أن يؤكدوا الإسلام في حياة الناس.
ولهذا، نحتاج إلى أن نقرأ بعض أحاديث الإمام الباقر (ع) في ما كان يحدّث به الناس.
ومن الأحاديث التي رواها عن أبيه الإمام علي بن الحسين (ع) قال: "لما حضرت أبي علي
بن الحسين الوفاة، ضمّني إلى صدره وقال: يا بنيّ، أوصيك بما أوصاني به أبي حين
حضرته الوفاة وبما ذكر أنّ أباه أوصاه: يا بنيّ، اصبر على الحقّ وإن كان مرّاً".
حاول - أيها الإنسان - أن تعرف الحقّ في العقيدة والشريعة والواقع الاجتماعي
والسياسي، قد يكلّفك الحق بعض مزاجك، قد تشعر بمرارة الحق في حياتك وبحلاوة الباطل
فيها، قد تدفعك نفسك إلى أن تسقط أمام الباطل لأنه يمنحك بعض حلاوته، وأن تبتعد عن
الحق لأنه يحمّلك مسؤولية قد تثقل مزاجك، فاصبر على الحقّ وإن كان مرّاً، حاول أن
تضغط على مزاجك وعصبيّاتك وعلى كلّ ما يريد الآخرون أن يقودوك إليه، قف مع الحقّ،
لأنّ الله تعالى هو الحقّ، ولأنّه تعالى خلق السموات والأرض بالحقّ، ولأنّ الناس
غداً يغدون إلى الله على أساس مواقعهم من الحقّ والباطل، ولأنّ الحياة تُبنى بالحق،
وتكبر بالحق، وتغنى بالحق.
وكان الإمام الباقر (ع) يحدّث الناس في هذا المجال ويقول لهم: "الجنة محفوفة
بالمكاره والصبر - إن الجنة تعني أن تواجه مسؤولياتك في طاعة الله، وقد تكون طاعة
الله على خلاف مزاجك، وأن تصبّر نفسك عن معصية الله، وقد تكون معصية الله مع مزاجك،
فإذا أردت أن تربح الجنة، فعليك أن تجاهد نفسك - فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل
الجنة، وجهنم محفوفة باللذّات والشّهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها - مما حرّمه
الله عليه - دخل النار". وقد ذكرنا مراراً أن الله تعالى لم يحرّم لذة أو شهوة بشكل
مطلق، ولكنه خطّ للذّاتنا وشهواتنا خطاً يفتح حياتنا على التّوازن، فإذا أردت أن
تحقّق شهوتك، فحقّقها، ولكن بالحلال، لأنّ الله لم يرد إبعادكم عن لذّات الدّنيا
وشهواتها، ولكنه أراد إبعادكم عن محرَّماتها، لأنّ في الحرام إفساداً لحياتكم.
وهكذا، كان الإمام الباقر (ع) يقول: "الصّبر صبران؛ صبر على البلاء حسن جميل -
عندما تبتلى بمرض، أو بمال، أو تفتقد بعض من تحبّه - وأفضل الصبرين الورع عن محارم
الله"، أن تصبِّر نفسك عن الحرام فتتركه. وكان يقول في مجال سعة الصّدر والمرونة في
التعامل مع الذين يسيئون إليك: "ثلاث لا يزيد الله بهن المسلم إلا عزّاً: الصفح عمن
ظلمه - في العلاقات الشخصية - وإعطاء من حَرَمَه، والصّلة لمن قطعه"، فلا تكون
أخلاقك أخلاقاً تجارية، بحيث تصفح عمّن صفح عنك، وتعطي من أعطاك، وتصل من وصلك، بل
أن تعطي من حرمك، لتكون أخلاقك أخلاق القيمة التي تعيشها في داخل نفسك، لأنّ ذلك
يدلّ على أنك تعيش القيمة الأخلاقية التي لا تطلب من الآخرين أيّ عوض عمّا تقدمه
إليهم، لأن الله تعالى يريد منا أن نكون كالشمس تطلع على كل الناس، وكالينبوع
يتفجّر على الأرض الخصبة والقاحلة معاً ويسقي كلّ الناس، أن تعيش القيمة الروحية في
نفسك، بقطع النظر عن نتائجها السلبية أو الإيجابية هنا وهناك.
وكان (ع) يحدث عن أبيه علي بن الحسين (ع) فيقول: "قال لي أبي: يا بنيّ، ما من شيء
أقرّ لعيني أبيك من جرعة غيظ عاقبتها صبر - بحيث إنك تواجه الغيظ في بيتك، أو في
محل عملك، أو في موقعك الاجتماعي أو السياسي أو الديني، فتدفعك نفسك إلى أن تفجر
غيظك، لأنّ الشيطان يأتي إليك ليوسوس لك أنك إذا لم تفجّر غيظك، فإن موقعك يكون
موقع الذلّ لا موقع العزّ، ولكن الإمام (ع) يعتبر أن كظم الغيظ ليس موقف ذلّ، بل هو
موقف صبر وعزّ، لأنّ الإمام (ع) يرفض الذل - وما من شيء يسرّني أنّ لي بذلّ نفسي
حمر النّعم".
وكان الإمام الباقر (ع) يريد من الإنسان أن يعرف نفسه من خلال طبيعة الحب والبغض،
وطبيعة الموالاة والرفض، فكيف تعرف نفسك؟ يقول (ع): "إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً
فانظر إلى قلبك - والقلب في المصطلح الإسلامي القرآني هو المنطقة الداخـلية الفكرية
والعاطفية، وهي منطقة الوعي الداخلي للإنسان - فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل
معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته، فليس
فيك خير والله يبغضك، والمرء - يوم القيامة - مع مَن أَحب". وكما قال الإمام عليّ
(ع): "إنما يجمع الناس الرّضى والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله
بالعذاب لما عمّوه بالرّضى".
هذه بعض أحاديث الإمام الباقر (ع)، ونحن نتذكّره، فنتذكّر كلّ هذه القيم الأخلاقيّة
الروحية التي تقرّبنا إلى الله، وتقرّبنا إلى بعضنا البعض، وعلى أساسها نقيم
علاقتنا بأهل البيت (ع)، إنها علاقة المأمومين الذين يأتمون بهم في كلّ نصائحهم
ووصاياهم وكلّ سيرتهم، لأن فيها الهدى كلّ الهدى، وفيها الخير كلّ الخير، ونسأل
الله تعالى أن يثبّتنا على ولايتهم، والسير في طريقهم، والأخذ بوصاياهم ونصائحهم.
من خطبة جمعة ألقاها بتاريخ 6 رجب 1420هـ / ١٥/١٠/١٩٩٩م