عندما نلتقي بعليّ (ع)، فإننا نلتقي بالإسلام كلّه، لأنّ الإسلام تجسّد في عليّ
فكراً وعلماً، لأنه عاش الإسلام من خلال رسول الله (ص) في كلّ مفرداته، ولا نجد
هناك صحابياً غيره عاش مع رسول الله (ص) منذ طفولته الأولى وهو في السنة الثانية من
عمره، يضمّه إليه ويكنفه في فراشه، ويمضغ اللقمة ويلقمه إياها، ويلقي إليه في كل
يوم خلقاً من أخلاقه، وكان يتبعه اتباع الفصيل إثر أمّه، فانطبعت كلّ شخصيته
الروحية بشخصية رسول الله (ص)، في ذلك الجوّ الروحاني الذي كان يعيشه رسول الله (ص)
مع ربّه تأمّلاً وابتهالاً وعبادةً، في وحدته التي ليس معه فيها أحد إلا هذا الطفل
الطّاهر المنفتح على الله من خلال رسول الله (ص).
وكان رسول الله (ص) يعلّمه ويربّيه ويحدّثه، وكان عليّ (ع) يقول عن رسول الله (ص)
في تلك الفترة: "ولقد قرن الله به (ص) من لدن إن كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته،
يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره". وكان علي (ع) يعيش ذلك،
وعندما بعث الله نبيّه بالرسالة، كان علي (ع) يختزن روحية الإسلام التي اختزنها
رسول الله (ص) قبل أن يبعث بالرسالة، لأن الله سبحانه كان يعدّ رسول الله للرسالة
التي تمتدّ للحياة كلها، وهي رسالة تختلف عن الرسالات كلها، لأنه ما من رسول إلا
ولرسالته حد معين من الزمن من بعده، ليأتي رسول آخر فيبدأ رسالة جديدة، ولكنّ الله
أعدّ لرسوله رسالة تمتد مع الحياة من بعده إلى قيام الساعة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ
أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}،
وهو القائل: "لا نبيّ بعدي".
ولذلك، كان الله تعالى يعدّ رسوله المستقبلي إعداداً في روحه، لتكون روحه كلّها
روحاً رسولية، وفي عقله، ليحمل عقله عمق الرسالة وامتدادها، وفي قلبه، ليكون له قلب
الرسول الذي يحرص على أمّته، ويشقّ عليه ما يشقّ عليها، ويرأف بها ويرحمها، ويلين
قلبه ولسانه لها، ويتحرك معها، وأراد أن يعدّه ليكون في دربه الذي هو درب الرسالات
الذي يتحمّل فيه كل ضريبة الرسالة، في الجهد الذي يبذله، والتحدّيات التي يواجهها،
والمشاكل التي تفترس مجتمعه كلّه، ليكون الصّابر الصّامد الذي ما أوذي نبيّ مثلما
أوذي، ولكنه كان القويّ بالله، المنفتح عليه وعلى الإنسان من خلاله.
ربيب الرسول (ص)
وهكذا عاش عليّ (ع) هذا الجوّ كلّه، فكان في بيت رسول الله (ص) الشخص الثالث، لأنه
كان يضمّ الرسول وخديجة وعلياً، وكان يقضي معه ليله ونهاره، ولد في الكعبة، وكان مع
رسول الله وخديجة أول المصلين فيها، فكان رسول الله (ص) يتقدمهما، وكان علي (ع) في
جناحه الأيمن، وكانت خديجة الشخص الثالث وراءهما.
وعاش مع رسول الله (ص) في المرحلة التي اضطهد المشركون الرسول فيها، ويُقال إنه كان
يدافع عنه عندما كان مشركو قريش يثيرون الصبيان ضد رسول الله (ص).
وكان يسمع ويرى الوحي، ولكنّ النبي (ص) قال له: "إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى،
إلا أنك لست بنبيّ"، وامتدّ مع النبي (ص) علماً وخُلقاً وروحانية وحركية وتضحية،
حتى بات على فراشه والخطر يتهدّده، ليغطّي هجرته من مكّة إلى المدينة بسلام، وعندما
سأل الرّسول: "أوَتسلَم يا رسول الله؟ قال: بلى، قال: إذهب إذاً راشداً مهدياً".
وانتقل مع الرسول (ص) بعد أن أدّى أماناته، وانفتح ـ بعد ذلك ـ باب لعليّ جديد، إذ
لم يكن قد تدرّب على الحرب، ولكنه كان الفارس الأول في (بدر) وفي (أحد) و(الأحزاب)
و(حنين) و(خيبر)، كان الفارس المجلّي الذي شهد له المسلمون كلهم بأنه هو الفتى الذي
يروى أن جبريل (ع) قال عنه: "لا فتى إلا عليّ، ولا سيف إلا ذو الفقار".
وقد رأيناه يتحرّك بعد هجرته إلى المدينة وزواجه بسيدتنا فاطمة الزهراء (ع) حركة
ناشطة، حيث كان بيته بيت رسول الله (ص) الذي يرتاح إليه، إضافةً إلى بيوت زوجاته،
وقد حدّثنا هو عن تجربته العلمية مع رسول الله (ص)، فقال: "علّمني رسول الله ألف
باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب". ويروي المسلمون، سنّة وشيعة، أن الرسول
(ص) قال: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها".
وكان إلى جانب ذلك لمنفتحاً على الإسلام كله، وعلى الواقع الإسلامي كلّه، حتى إنه
حين أُبعد عن حقه في الخلافة والمشورة، رأى أنّ مسؤوليّته هي أن يساعد ويعاون ويعطي
الرأي والنصيحة والمشورة، لأنّ القضيّة هي قضيّة الإسلام كله.. وسرّ عليّ (ع) في
ذلك كلّه ينطلق من عمق واحد، أنه كان الإنسان الذي أعطى نفسه كلّها لله، ويروي
المفسّرون أن الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، نزلت في عليّ (ع).
وعاش (ع) مع الله، ليله ونهاره، فكان يُقال ـ كما في بعض سيرته ـ أنه إذا سجد بين
يدي الله، تحوّل كالخشبة اليابسة، حتى جاء شخص إلى الزّهراء (ع)، فقال لها: "عظّم
الله أجرك في عليّ. قالت: كيف وجدته؟ قال: وجدته ساجداً، فحركته فإذا لا حراك به،
قالت: تلك غشية تغشاه عندما يكون بين يدي الله".
ويقول كتّاب سيرته، إنّه عندما اشتدّ الحرب في (صفّين) ليلة الهرير، افتقدوه،
فوجوده يصلّي بين الصفّين، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أهذا وقت الصّلاة؟ قال: وعلام
قاتلناهم؟ فكأنّه أراد أن يقول إنّ غاية هذا القتال هو عمق الصّلاة وإيحاءاتها
وحركيّتها، وكلّ ما تعطيه من النّهي عن الفحشاء والمنكر، ومن معراج الإنسان بروحه
إلى الله.
*من ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 18 رجب 1419هـ/ الموافق:
7-11-1998م.