قال تعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ}[طه: 115 - 119].
بدايةُ الخليقةِ ورحلةِ الخلافة
يريد الله سبحانه أن يعيدنا إلى بداية الخليقة، عندما كان آدم أوَّل إنسان خلقه الله ليبدأ هذا الوجودَ الإنسانيَّ، ليبدأ الإنسانُ رحلة الخلافة عن الله في بناء الأرض، وليتحرَّك من أجل أن يؤكّد إرادة الله في أوامره ونواهيه، وليدخل ساحة الصّراع مع الشّرّ المتمثّل بالشَّيطان.
وهكذا حدَّثنا الله عن هذا المخلوق الجديد الَّذي يملك نقاط قوَّة في عقله، ولكنَّه يملك نقاط ضعف في نسيانه، وفي تحرّك بعض نوازعه في ذاته. ولم تكن الجنَّة دار تكليف، لأنَّ الله خلق آدم للأرض، ولم يخلقه ليعيش في الجنَّة، وكان وجوده فيها من أجل أن يكتشف حركة الصّراع، وليكتشف النفس الشرّيرة الَّتي أُعِدَّ للدّخول في صراع معها.
ومن هنا، لا مجال للحديث عن قضيَّة عصمة وخطأ عند آدم (ع) عندما كان في الجنّة، لأنَّ تجربته فيها كانت بمثابة ما نسمّيه في هذه الأيَّام، دورة تدريبيَّة، فلم يكن الأمر فيها أمراً مولويّاً يراد فيه أن يتحرَّك في خطّ الطَّاعة، ليواجه الإنسان مسؤوليَّته إذا أطاع في الثّواب، ومسؤوليَّته إذا عصى في العقاب.
وفيما نستوحيه من حديث الله سبحانه وتعالى عن تجربة آدم في الجنَّة – والله العالم - أنَّ الله كان يريد أن يعطي لآدم صورةً حيّةً عمَّا هو ثمن الجنَّة لمن يريد أن يعيش فيها، وأنّه يمثّل الانسجام مع إرادة الله وأوامره، وأنَّ مَن لا ينسجم مع إرادة الله وأوامره، فإنَّ خياره أن يخرج من الجنَّة، ليكون هذا ذكرى لكلّ الجيل الإنسانيّ من بعده.
ولهذا، كان نداء الله سبحانه وتعالى فيما أنزل من آيات لبني آدم، أن لا يخرجكم إبليس من الجنَّة كما أخرج أبويكم منها، {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ}[الأعراف: 27]، بحيث أراد أن يبيّن، على الطَّبيعة كما نقول، لكلّ الجيل الإنسانيّ، أنَّ للجنَّة ثمناً لا بدَّ للإنسان أن يدفعه، وأنَّه إذا لم يدفع ثمن الجنَّة فليس له مكان فيها.
كانت المسألة بالنّسبة إلى آدم (ع) فيما نستوحيه، والله العالم، أنَّ الله أراد أن يدرّبه، ليوحي إليه بنقاط الضّعف الموجودة في ذاته، من أجل أن يستبدل بها نقاط قوَّة في ساحة الصّراع. لم تكن الجنَّة هي ساحة الصّراع، وإنما كانت اختباراً للحركة والإرادة وما إلى ذلك.
نسيانُ آدمَ أمرَ الله
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ - بأن لا يأكل من هذه الشَّجرة، وأن يأخذ حريَّته في أن يتجوَّل في الجنَّة كما يشاء، وكما سيأتي في الآيات الَّتي حدَّثته عن نعيم الجنَّة الَّتي لا جوع فيها أبداً، ولا عري ولا ظمأ ولا حرّ، هي النَّعيم البارد الهادئ الممتلئ الريَّان.
- فَنَسِيَ - نسي عهد الله، لا عصياناً وتمرّداً عليه تعالى، ولا استهانةً بأمر الله سبحانه وتعالى، فهو الإنسان الطيّب الطَّاهر، ولكنَّ مشكلة هذا الإنسان الأوَّل كمشكلة الكثيرين من الطيّبين الطَّاهرين في الحياة، أنّهم يتصوَّرون أنَّه ليس في الحياة شرّ، لأنَّهم لا يحسّون بالشَّرّ في أنفسهم، ويتصوَّرون أن ليس فيها كذب، لأنَّهم يعيشون الصّدق في داخل شخصيَّتهم، فهم يتصوَّرون الحياة خيراً كلّها في كلّ نماذجها، ويتصوَّرون الحياة صدقاً كلّها في كلّ مخلوقاتها.
وهكذا عاش آدم (ع)، ولم تكن له تجربة أولى سابقة في عالم الأوامر والنَّواهي، وفي عالم الطَّاعة والمعصية، فقد نشأ من دون تجربة، إذ كان خَلْقُهُ أوّلَ الخلق، ولم يدخل في تجربة سابقة ليحتاط لنفسه، وليدرس أنَّ هناك من يغشّ في الحياة، وأنَّ هناك من يكذب ومن يخون ومن يخدع، فنسي، كما قلنا، لا نسيان الاستهانة، ولا نسيان التمرّد، ولكنَّه نسيان الطَّبيعة الطيّبة الَّتي تغفل عن وجود الشّرّ فلا تحتاط له، وعن وجود الغشّ فلا تحذر منه.
- وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: 115]، فقد استسلم لنقاط ضعفه، ونقاط ضعفنا هي طيبتنا وطهارتنا، والله قال: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النّساء: 28]، فالله خلق فينا نقاط ضعف، ولكن لم يجعل ضعفنا قدرنا وقضاءنا، فقد أعطانا الإرادة لأن نحوّل نقاط الضّعف إلى نقاط قوَّة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، نحن نملك إرادة أن نغيّر كلَّ نقاط الضّعف إلى نقاط قوَّة، لأنَّ نقاط الضّعف لا تشلّ وجودنا ولا قدرتنا، ولكنَّها تحرّك بعض النَّوازع في ذاتنا. وهكذا كان آدم، {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي قوّة الإرادة، لأنها تنطلق من خلال تمرين الإرادة، ومن خلال مواجهة التحدّيات.
عقدة إبليس
هذه صورة. ثمَّ يطلّ بنا على شخصيَّة إبليس وعقدته من آدم الَّتي هيَّأت له أن يدخل في تجربة أوَّل صراع معه، لينتصر عليه في البداية، ولكن لا انتصاراً نهائيّاً.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ – لا سجود العبادة، فالله يأبى أن يسجد النَّاس عبادةً إلَّا له، ولكنَّه سجودٌ لله من أجل تعظيمه في خلقِهِ هذا الإنسان، أو سجود التَّحيَّة لما يملكه آدم من العناصر الَّتي تميّزه عن باقي المخلوقات - فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ}[البقرة: 34]، وحدَّثنا الله أنَّ إباءه عن السّجود كان من خلال العنصريَّة، باعتبار أنَّ أصله النَّار، وأصل آدم التّراب، والنَّار تفني التّراب، فهو أقوى، والعنصريَّة تجتذب التّكبّر في نفس الإنسان، والتَّكبّر خطيئة الخطايا عند الله سبحانه وتعالى.
{فَقُلْنَا يَا آدَمُ}، ها أنت تنظر إلى إبليس كيف تمرَّد عليك وعلى ربّه، من دون أن تسيء إليه، ومن دون أن تضرَّه، ومن دون أن تكون هناك أيّ علاقة سلبيَّة بينك وبينه، فهو مخلوقٌ يعيش عقدة الكبرياء والتفوّق، والإنسان عندما يعيش عقدة الكبرياء على النَّاس، فإنَّه يظلمهم، ولا يحبّ لهم الخير. تلك هي مشكلة المتكبّر، أنَّه يريد أن يصادر حياة المستضعف، ويريد أن يقهره، ويريد أن يمنعه من أن يتحوَّل إلى عنصر قوَّة.
وهكذا بدأت عقدة إبليس، ولا سيَّما بعد أن طرده الله من رحمته، وعندما أمهله الله إلى يوم يبعثون، وقف مهدّداً، أخذ الأمان وقال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 16 - 17]، سأبعدهم عن الجنَّة، وعن طاعتك، وسيكون هذا عملي.
وبدأت عقدة إبليس، وورثها كلّ أبالسة الشّرّ الَّذين إذا لم يكونوا من ذرّيّة إبليس، فقد شارك أهلَهم فيهم، فكان لهم من إبليس الكثير من حقده واستكباره وعداوته.
تحذيرُ آدمَ من إبليس
{فَقُلْنَا يَا آدَمُ}، ها أنت تعيش أوَّل تجربة لك، وإنَّ هذا عدوّ لك ولزوجك. واستوعب آدم في البداية معنى العداوة، وفهم معنى الصَّداقة، فالملائكة أصدقاء، لأنَّهم أحبّوه وانسجموا معه، حتَّى إنَّهم عندما اعترضوا على خلقه {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَك}[البقرة: 30]، وعرَّفهم الله ما هي عناصر القوَّة في خلق هذا الإنسان، وما هي أسرار الحكمة في ذلك، خضغوا وسجدوا، فكانوا أصدقاء لآدم. وقد تمثَّلت صداقة الملائكة للإنسان، أنَّ الله جعلهم يخدمون الإنسان {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}[القدر: 4]، يتنزَّلون إلى الإنسان بالرّزق والعمر والصحَّة وبالمطر، وإن كنَّا لا نفهم طبيعة هذا الدَّور، فهم الموظَّفون في تحريك سنَّة الله في الكون.
وفَهِمَ آدم (ع) أنَّ الملائكة أصدقاء له، وأنَّ إبليس هو العدوّ، وذلك بعد أن رآهم يسجدون تنفيذاً لأمر الله، ولم يسجد إبليس. ولكنَّ المسألة حتَّى الآن - ونحن نستوحي، ولا ننقل شيئاً على أنَّه الحقيقة، لأنَّ الله هو الأعلم بذلك - كانت تتَّصل بموقف الملائكة في طاعتهم لله، وموقف إبليس في عصيانه له، وإن كانت المسألة تمرّ مروراً خفيفاً بآدم، ولكنَّها لا تتَّصل به بشكل مباشر. ولذلك كأنَّه لم يعش معنى العداوة بشكل عميق، وأراد الله له أن يمرَّ بالتَّجربة ليشعر بعداوة إبليس له، من خلال النَّتائج السَّلبيَّة الَّتي تمسّه شخصيّاً، بحيث إنَّه يتحسَّسها في وجوده وفي نتائج وجوده.
وهكذا أعطاه الله الفكرة ليحذر {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ - فقد رفض السّجود لك من موقع العقدة والكبرياء، ومن موقع احتقاره لك وشعوره بالفوقيَّة تجاهك - فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ}[طه: 117]، ها أنت ترى الجنَّة كيف هي وتعيش فيها، وإن كنت لا تعرف شيئاً خارج الجنَّة، لأنّك لم تعش تجربة ما هو خارج الجنّة لتمايز بينهما، ولكن نقول لك إنَّك إذا خرجت منها، ستعيش البلاء والجوع والعري والظَّمأ والحرَّ والبرد، أمّا إذا بقيت فيها وانسجمت {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ}[طه: 118 - 119].
وسوسةُ إبليسَ لآدم (ع)
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ - ودخل إليه من موقع طيبته وطهارته، ومن موقع فقدانه للتَّجربة - قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ}[طه: 120]، إنَّ لك عمراً محدوداً إذا انطلقت بطبيعتك، وأنا ناصحٌ لك، وأقسم وأقسم وأقسم، كما يقسم الكثيرون من النَّاس عندما يريدون إعطاء عهد كاذب، وعندما يريدون أن يبيعوا بضاعةً خاسرةً، وعندما يريدون إغواء إنسان، فإنّهم يحلفون ويحلفون ويحلفون {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ}[المنافقون: 2].
فقد وسوس إبليس لآدم (ع)، ودخل عليه من موقع طهارته، والله يريد أن يعطينا هذه التَّجربة، أيُّها الأحبَّة، حتَّى لا تكون طهارتكم، إذا كنتم طاهرين، سذاجةً، وحتّى لا تكون طيبتكم غفلةً. كن الطَّاهر، ولكن كن الواعي، كن طاهراً، ولكن عليك أن تعرف معنى القذارة في الآخرين، كن الطيّب، ولكن عليك أن تفهم معنى الخبث في الآخرين. إنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعرف معنى ما فيه من خير، إلَّا إذا كان يعرف ما في الآخرين من شرّ. لذلك، كان في الكلام المنسوب إلى الإمام الكاظم (ع): "وَجَدتُ عِلمَ النّاسِ في أربَعٍ: أوَّلُها أن تَعرِفَ رَبَّكَ، والثّانِيَةُ أن تَعرِفَ ما صَنَعَ بِكَ، والثّالِثَةُ أن تَعرِفَ ما أرادَ مِنكَ، والرّابِعَةُ أن تَعرِفَ ما يُخرِجُكَ مِن دِينِكَ"، لأنَّك إذا عرفت الدّين في إيجابيَّاته، ولم تعش الكفر في سلبيَّاته، فقد يدخل إليك الكفر باسم الدّين، وبذلك تكفر وأنت في أجواء الدّين. لذلك، إذا أردت أن تؤكّد الخير في ذاتك، فعليك أن تعرف الشَّرّ في الآخرين، ولم يكن آدم يعرف الشّرَّ في الآخرين، لأنّه لم يعش تجربته في وجوده، فوسوس إليه إبليس، وأغراه بالخلود، وقال له ستعيش بلا موت. وأيّ واحد منَّا إذا حُدِّث عن الخلود لا يخفق قلبه، ولا يسارع إلى أيّ شيء يخلّده؟! ألا نحاول أن نتناول من الأغذية والأدوية ما يحفظ لنا عمرنا ويزيده إن كان فيه زيادة، فكيف إذا قيل لنا إنَّه الخلود؟!
وقال إبليس كلمة الخلود لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ}، هناك شجرة لا تعرفها أنا أعرفها، وكانت هي الشَّجرة الَّتي نهى الله آدم وزوجه عنها، {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا - كانا لا يحسّان بشيء اسمه العورة، ولذلك كانا عراةً في الجنَّة، بمعنى العري الثيابيّ، لأنهما لا يشعران بشيء فيه عورة، لأنَّ الجنَّة ساحة الوضوح، ليس فيها أيّ نوازع للشّرّ، ولكن عندما خاضا التَّجربة الأولى، وأحسّا بها - وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ - لكن لا معصية تسيء إلى روحيَّته وإلى طاعته لربّه، لكنَّها معصية النّصيحة، لأنَّهم يقولون إنَّ الأمر كان إرشاديّاً، كنصيحة الطَّبيب، إذا عصيتها لا تدخل النّار، وإنّما تضرّ نفسك. وهكذا كانت مسألة آدم، والله العالم، أنَّه عصى الله عندما نصحه بأنَّك إذا كنت تحبّ أن تعيش في الجنَّة، فثمن ذلك أن لا تأكل من هذه الشَّجرة، واذا أكلت منها، فستخرج من الجنَّة، كما عندما يقول لك الطَّبيب اذا أكلت من هذا الطَّعام فسيضرُّك، واذا لم تأكل تنتفع.
- فَغَوَىٰ}[طه: 121] ابتعد عن طريق رشده، ولكنَّ الله يعلم صدقه، ويعلم طهارته، ويعلم إخلاصه ومحبَّته له، {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ - اصطفاه إليه، وأعاده إليه في مواقع القرب - فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ}[طه: 122].
النّزولُ إلى الأرض
وجاءت لحظة النّزول إلى الأرض، ليبدأ ساحة مسؤوليَّته، وليبدأ إبليس حركة إغوائه وإضلاله. وبذلك، رسم الله أوَّل برنامج للإنسان قبل أن تنطلق النّبوَّات. هناك فكرة عند البعض أنَّ النّبوَّات انطلقت بعد أن عاش الإنسان التَّجربة في الأرض، كما يقول بعض المفكّرين، باعتبار {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}[البقرة: 213]. ولكنَّ الله، من الأساس، رسم للإنسانيَّة الخطّ الَّذي يبدأ الإنسانُ فيه رحلته، ولم يكن هناك إلّا إنسانان، وهما آدم وحوَّاء. فلم تكن النبوَّات نتيجة حاجة إنسانيَّة من خلال الخلافات الّتي حدثت بين النَّاس، بل كانت منطلقةً من أنَّ الله يريد أن يُنزِل الإنسانَ إلى الأرض ومعه رسالته وبرنامجه وخطّه.
طريقُ العودةِ إلى الجنَّة
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ - لأنَّ آدم يريد أن يرجع إلى الجنَّة من خلال طاعة الله، بعد أن اجتباه الله إليه وحمَّله رسالته، ولأنَّ إبليس يريد أن يبقي آدم وذرَّيته خارج الجنَّة.
- فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي – من أعرض عن ذكر الله فيما أمر به الله وفيما نهى عنه، ومن أعرض عن مقام ربّه في أسرار عظمته وامتداد نعمته - فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}[طه: 123 - 124] – حتَّى وهو يتقلَّب في النَّعيم، فإنَّ الَّذين يتقلَّبون في نعيم الدّنيا، قد ترى في وجوههم نضرة النَّعيم، مما يأكلون ويشربون ويشتهون، ولكنَّك إذا نفذت إلى داخلهم، لرأيت أنَّهم يعيشون الشَّقاء كلَّه، فثروتهم تعقّد لهم كلَّ حياتهم مع الآخرين، ونعيمهم قد يعطيهم لذَّةً في جانب، ولكنَّه يمنحهم أكثر من ألم في جانبٍ آخر، يعيشون فرح الحياة وفي أعماقهم كلُّ الحزن، ويعيشون لذَّة الحياة وفي داخلهم كلُّ الألم. إنّكم لو نفذتم إلى الأغنياء، وأنتم تحسدونهم على غناهم، لحمدتم ربَّكم على ما أنتم فيه من راحة القلب، قد تنامون جائعين، ولكنّكم تعيشون ضميراً مرتاحاً، وتعيشون مشاكل قليلة، أمَّا هم، فيعيشون الصّراع في داخل نفوسهم وفي كلّ علاقاتهم.
لذلك، مَنْ يُعرِض عن ذكر الله، يجعل له الله معيشة ضيّقة، ضيق الصَّدر وضيق الرّوح والأفق، لأنَّك عندما تذكر ربَّك، فإنَّك تشعر بالقوَّة {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[البقرة: 165]، وتتحسَّس الرَّحمة واللّطف، وتنفتح على روح الله {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87]. ففي الله الأمل كلّ الأمل، وفي الله الانفتاح كلّ الانفتاح. مَنْ عاش لذَّة محبَّة الله، شعر بأنَّه لا لذَّة أكثر حلاوةً منها، ومن فَقَدَ إحساسه بالله، شعر بالغربة وهو في وطنه، وشعر بالحزن وهو في قمَّة فرحه، وشعر بالضّياع وهو يسير على الطَّريق، لأنَّ الله هو الَّذي يملأ عقولنا وقلوبنا وحياتنا.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي}، نسي ربَّه ولم يذكره، لا ذكر اللّسان، ولكن ذكر العقل والقلب والشّعور، بحيث إنَّك تتصوَّر الله أمام كلّ محرَّم تقدم عليه، فترى الله حاجزاً بينك وبينه.
سرُّ القوّةِ عندَ عليّ (ع)
وعليّ بن أبي طالب (ع)، هذا الإنسان الإلهيّ الَّذي عاش لله بكلّه، وعاش أقسى تجربة، فقد كان الملك أمامه، وكان هو الخليفة بالفعل، وكان الخليفة بالموقع والحقّ، الخليفة الَّذي يملك أن يحكم، وأن يمدَّ حكمه بالحيلة والخديعة والغدر واللَّعب على ألف حبل، وكان النَّاس يقولون له: أعط الأموال ليجتمع النَّاس حولك، ويقول لهم: "أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟! وَاللهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً".. يقولون له اغدر بمعاوية، كن الدَّاهية الَّذي يلعب على الحبال، ويقول: "واللهِ ما معاويةُ بأدهى منّي، ولكنَّهُ يغدرُ ويفجرُ، ولولا كراهيةُ الغدرِ كنتُ مِن أدهى النّاسِ"، يقولون له أنت تملك الفكر الَّذي يعرف كيف يستنبط عمق الحيلة، وعمق اللّعبة السياسيَّة، كما نقول، ويقول (ع): "قَدْ يَرَى الْـحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ"، إنَّ مشكلتي أني أخاف الله، هكذا يقول (ع) بلسان حاله، مشكلتي أنّي أحبّ الله، وأنّي أقول كما قال رسول الله (ص) فيما أراده الله أن يقول: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام: 15].
"قَدْ يَرَى الْـحُوَّلُ الْقُلَّبُ - الَّذي يملك خبرة تحويل الأمور وتقليبها - وَجْهَ الحِيلَةِ - الَّتي يربح فيها - وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ – ماذا هناك؟ الله يأمرك أن لا تتقدَّم وأن تقف، ينهاك عن أن تتقدَّم. قف، حتَّى لو كان في حركتك كلّ ما تحبّه وتريده - فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ"، وهم الَّذين يلعبون على الحبال، والّذين يعيشون لأنفسهم.
ذلك هو عليّ (ع) الَّذي يقول: "لَا يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً، وَلاَ تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً". ذلك عليّ، القمَّة في علمه وبطولته وشجاعته، يجلس بين يدي ربّه، وهو يعرف مقام ربّه، ليقول: "وأَنَا عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ الحَقِيرُ المِسْكِينُ المُسْتَكِينُ"، وذلك سرّ قوّته، وأمَّا غير عليّ، فقد كان يعيش ضيق الأفق، وضيق الروح، وضيق القيمة، وضيق الحريَّة في داخل نفسه.
عواقبُ الإعراضِ عن ذكر الله
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي - اذكر ربَّك إذا نسيت، واذكر ربَّك إذا أراد النَّاس لك أن تعصيه، اذكر مقامه {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النّازعات: 40 - 41].
- فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ – يتخبَّط ولا يهتدي طريقه، وهي كناية عن الإنسان الَّذي ليس له امتدادٌ في الطَّريق يعرف كيف يتحرَّك فيه.
- قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا - وأنت تحشر النَّاس، يا ربّ، كما كانوا في الدّنيا؟! قال صحيح، لقد كنت بصيراً بعينيك، ولكنَّك كنت أعمى بعقلك وقلبك وإحساسك وحركتك، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحجّ: 46]، والدَّليل على عماك - قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا - آياتنا الَّتي تدعوك إلى الجنَّة، والَّتي تبعدك عن النَّار، والّتي تعرّفك عظمة الله، وتعرّفك مواقع نعمه، وتفتح عقلك وقلبك وروحك على الخير - فَنَسِيتَهَا – وأهملتها، واتّبعت هواك، وأعرضت عنها، واتَّبعت هواك - وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}[طه: 124 - 126]، ستكون كميَّة مهملة لا يعبأ بك أحد، ولا يلتفت إليك أحد.
{وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ - في انحرافه وابتعاده عن ربّه - وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ}[طه: 127] لم يؤمن إيمان العقيدة بما هي العقيدة، وإيمان العمل فيما هو العمل، لأنَّ الإيمان قول وعمل، فقد تكون مؤمن القول ولكنَّك كافر العمل {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97]. والحجّ قريب إليكم أيّها المستطيعون المهملون، الَّذين يمرّ عليكم الحجّ، والمال عندكم، والسّرب مخلّى، وكلّ شيء لديكم، وتؤخّرون، لأنَّ هناك تجارة تريدون أن تستربحوها، ولأنَّ هناك لذّةً تريدون أن تأخذوا بها، ولأنَّ هناك راحة تريدون أن تعيشوها، "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُوديّاً أَوْ نَصْرَانيّاً". ولذا يقول الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ – فسّرت مَنْ لم يحجّ، وهو كفر العمل وليس كفر العقيدة - فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، فلا تفترض أنَّك إذا لم تحجّ فسوف تهتزّ السَّماوات والأرضين، أنت ما قيمتك؟! "إنَّ اللهَ لَا تَضرُّهُ معصيةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ طاعةُ مَنْ أَطَاعَهُ".
{وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ}[طه: 127].
فرصةُ التَّوبة
هذا هو نداء الله، أيُّها الأحبَّة، ولا نزال في هدنة، ولا يزال في العمر بقيَّة، ولا تزال هناك فرصة للتَّوبة، لايزال الله يدعونا {فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60].
فتعالوا، أيُّها الأحبَّة، إلى الله لنتوب إليه، تعالوا إلى الله لنحبَّه في عملنا ليحبَّنا برحمته، تعالوا إلى الله، فعند الله كلّ الحنان، وكلّ الرَّحمة، وكلّ العطاء، وكلّ اللّطف، وتعالوا إلى الله لتسيروا في طريقه، وتنفتحوا على هداه، حتَّى إذا جاءكم نداء الله، واستحضرتْكُم دعوته الَّتي لا بدَّ منها ومن إجابتها، عند ذلك، يأتي النّداء الحنون الَّذي يعطي الإنسان وهو في سكرات الموت، كلَّ شعور بالفرح الرّوحيّ، وكلَّ شعور بالطّمأنينة والرّضا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ – فهل نحصل على النَّفس المطمئنّة؟! - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي – الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحات - وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27 - 30]، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}[التّوبة: 72].
والحمد لله ربّ العالمين.
*موعظة دينيَّة لسماحته، بتاريخ: 4 نيسان 1996م.
قال تعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ}[طه: 115 - 119].
بدايةُ الخليقةِ ورحلةِ الخلافة
يريد الله سبحانه أن يعيدنا إلى بداية الخليقة، عندما كان آدم أوَّل إنسان خلقه الله ليبدأ هذا الوجودَ الإنسانيَّ، ليبدأ الإنسانُ رحلة الخلافة عن الله في بناء الأرض، وليتحرَّك من أجل أن يؤكّد إرادة الله في أوامره ونواهيه، وليدخل ساحة الصّراع مع الشّرّ المتمثّل بالشَّيطان.
وهكذا حدَّثنا الله عن هذا المخلوق الجديد الَّذي يملك نقاط قوَّة في عقله، ولكنَّه يملك نقاط ضعف في نسيانه، وفي تحرّك بعض نوازعه في ذاته. ولم تكن الجنَّة دار تكليف، لأنَّ الله خلق آدم للأرض، ولم يخلقه ليعيش في الجنَّة، وكان وجوده فيها من أجل أن يكتشف حركة الصّراع، وليكتشف النفس الشرّيرة الَّتي أُعِدَّ للدّخول في صراع معها.
ومن هنا، لا مجال للحديث عن قضيَّة عصمة وخطأ عند آدم (ع) عندما كان في الجنّة، لأنَّ تجربته فيها كانت بمثابة ما نسمّيه في هذه الأيَّام، دورة تدريبيَّة، فلم يكن الأمر فيها أمراً مولويّاً يراد فيه أن يتحرَّك في خطّ الطَّاعة، ليواجه الإنسان مسؤوليَّته إذا أطاع في الثّواب، ومسؤوليَّته إذا عصى في العقاب.
وفيما نستوحيه من حديث الله سبحانه وتعالى عن تجربة آدم في الجنَّة – والله العالم - أنَّ الله كان يريد أن يعطي لآدم صورةً حيّةً عمَّا هو ثمن الجنَّة لمن يريد أن يعيش فيها، وأنّه يمثّل الانسجام مع إرادة الله وأوامره، وأنَّ مَن لا ينسجم مع إرادة الله وأوامره، فإنَّ خياره أن يخرج من الجنَّة، ليكون هذا ذكرى لكلّ الجيل الإنسانيّ من بعده.
ولهذا، كان نداء الله سبحانه وتعالى فيما أنزل من آيات لبني آدم، أن لا يخرجكم إبليس من الجنَّة كما أخرج أبويكم منها، {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ}[الأعراف: 27]، بحيث أراد أن يبيّن، على الطَّبيعة كما نقول، لكلّ الجيل الإنسانيّ، أنَّ للجنَّة ثمناً لا بدَّ للإنسان أن يدفعه، وأنَّه إذا لم يدفع ثمن الجنَّة فليس له مكان فيها.
كانت المسألة بالنّسبة إلى آدم (ع) فيما نستوحيه، والله العالم، أنَّ الله أراد أن يدرّبه، ليوحي إليه بنقاط الضّعف الموجودة في ذاته، من أجل أن يستبدل بها نقاط قوَّة في ساحة الصّراع. لم تكن الجنَّة هي ساحة الصّراع، وإنما كانت اختباراً للحركة والإرادة وما إلى ذلك.
نسيانُ آدمَ أمرَ الله
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ - بأن لا يأكل من هذه الشَّجرة، وأن يأخذ حريَّته في أن يتجوَّل في الجنَّة كما يشاء، وكما سيأتي في الآيات الَّتي حدَّثته عن نعيم الجنَّة الَّتي لا جوع فيها أبداً، ولا عري ولا ظمأ ولا حرّ، هي النَّعيم البارد الهادئ الممتلئ الريَّان.
- فَنَسِيَ - نسي عهد الله، لا عصياناً وتمرّداً عليه تعالى، ولا استهانةً بأمر الله سبحانه وتعالى، فهو الإنسان الطيّب الطَّاهر، ولكنَّ مشكلة هذا الإنسان الأوَّل كمشكلة الكثيرين من الطيّبين الطَّاهرين في الحياة، أنّهم يتصوَّرون أنَّه ليس في الحياة شرّ، لأنَّهم لا يحسّون بالشَّرّ في أنفسهم، ويتصوَّرون أن ليس فيها كذب، لأنَّهم يعيشون الصّدق في داخل شخصيَّتهم، فهم يتصوَّرون الحياة خيراً كلّها في كلّ نماذجها، ويتصوَّرون الحياة صدقاً كلّها في كلّ مخلوقاتها.
وهكذا عاش آدم (ع)، ولم تكن له تجربة أولى سابقة في عالم الأوامر والنَّواهي، وفي عالم الطَّاعة والمعصية، فقد نشأ من دون تجربة، إذ كان خَلْقُهُ أوّلَ الخلق، ولم يدخل في تجربة سابقة ليحتاط لنفسه، وليدرس أنَّ هناك من يغشّ في الحياة، وأنَّ هناك من يكذب ومن يخون ومن يخدع، فنسي، كما قلنا، لا نسيان الاستهانة، ولا نسيان التمرّد، ولكنَّه نسيان الطَّبيعة الطيّبة الَّتي تغفل عن وجود الشّرّ فلا تحتاط له، وعن وجود الغشّ فلا تحذر منه.
- وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: 115]، فقد استسلم لنقاط ضعفه، ونقاط ضعفنا هي طيبتنا وطهارتنا، والله قال: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النّساء: 28]، فالله خلق فينا نقاط ضعف، ولكن لم يجعل ضعفنا قدرنا وقضاءنا، فقد أعطانا الإرادة لأن نحوّل نقاط الضّعف إلى نقاط قوَّة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، نحن نملك إرادة أن نغيّر كلَّ نقاط الضّعف إلى نقاط قوَّة، لأنَّ نقاط الضّعف لا تشلّ وجودنا ولا قدرتنا، ولكنَّها تحرّك بعض النَّوازع في ذاتنا. وهكذا كان آدم، {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي قوّة الإرادة، لأنها تنطلق من خلال تمرين الإرادة، ومن خلال مواجهة التحدّيات.
عقدة إبليس
هذه صورة. ثمَّ يطلّ بنا على شخصيَّة إبليس وعقدته من آدم الَّتي هيَّأت له أن يدخل في تجربة أوَّل صراع معه، لينتصر عليه في البداية، ولكن لا انتصاراً نهائيّاً.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ – لا سجود العبادة، فالله يأبى أن يسجد النَّاس عبادةً إلَّا له، ولكنَّه سجودٌ لله من أجل تعظيمه في خلقِهِ هذا الإنسان، أو سجود التَّحيَّة لما يملكه آدم من العناصر الَّتي تميّزه عن باقي المخلوقات - فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ}[البقرة: 34]، وحدَّثنا الله أنَّ إباءه عن السّجود كان من خلال العنصريَّة، باعتبار أنَّ أصله النَّار، وأصل آدم التّراب، والنَّار تفني التّراب، فهو أقوى، والعنصريَّة تجتذب التّكبّر في نفس الإنسان، والتَّكبّر خطيئة الخطايا عند الله سبحانه وتعالى.
{فَقُلْنَا يَا آدَمُ}، ها أنت تنظر إلى إبليس كيف تمرَّد عليك وعلى ربّه، من دون أن تسيء إليه، ومن دون أن تضرَّه، ومن دون أن تكون هناك أيّ علاقة سلبيَّة بينك وبينه، فهو مخلوقٌ يعيش عقدة الكبرياء والتفوّق، والإنسان عندما يعيش عقدة الكبرياء على النَّاس، فإنَّه يظلمهم، ولا يحبّ لهم الخير. تلك هي مشكلة المتكبّر، أنَّه يريد أن يصادر حياة المستضعف، ويريد أن يقهره، ويريد أن يمنعه من أن يتحوَّل إلى عنصر قوَّة.
وهكذا بدأت عقدة إبليس، ولا سيَّما بعد أن طرده الله من رحمته، وعندما أمهله الله إلى يوم يبعثون، وقف مهدّداً، أخذ الأمان وقال: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 16 - 17]، سأبعدهم عن الجنَّة، وعن طاعتك، وسيكون هذا عملي.
وبدأت عقدة إبليس، وورثها كلّ أبالسة الشّرّ الَّذين إذا لم يكونوا من ذرّيّة إبليس، فقد شارك أهلَهم فيهم، فكان لهم من إبليس الكثير من حقده واستكباره وعداوته.
تحذيرُ آدمَ من إبليس
{فَقُلْنَا يَا آدَمُ}، ها أنت تعيش أوَّل تجربة لك، وإنَّ هذا عدوّ لك ولزوجك. واستوعب آدم في البداية معنى العداوة، وفهم معنى الصَّداقة، فالملائكة أصدقاء، لأنَّهم أحبّوه وانسجموا معه، حتَّى إنَّهم عندما اعترضوا على خلقه {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَك}[البقرة: 30]، وعرَّفهم الله ما هي عناصر القوَّة في خلق هذا الإنسان، وما هي أسرار الحكمة في ذلك، خضغوا وسجدوا، فكانوا أصدقاء لآدم. وقد تمثَّلت صداقة الملائكة للإنسان، أنَّ الله جعلهم يخدمون الإنسان {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}[القدر: 4]، يتنزَّلون إلى الإنسان بالرّزق والعمر والصحَّة وبالمطر، وإن كنَّا لا نفهم طبيعة هذا الدَّور، فهم الموظَّفون في تحريك سنَّة الله في الكون.
وفَهِمَ آدم (ع) أنَّ الملائكة أصدقاء له، وأنَّ إبليس هو العدوّ، وذلك بعد أن رآهم يسجدون تنفيذاً لأمر الله، ولم يسجد إبليس. ولكنَّ المسألة حتَّى الآن - ونحن نستوحي، ولا ننقل شيئاً على أنَّه الحقيقة، لأنَّ الله هو الأعلم بذلك - كانت تتَّصل بموقف الملائكة في طاعتهم لله، وموقف إبليس في عصيانه له، وإن كانت المسألة تمرّ مروراً خفيفاً بآدم، ولكنَّها لا تتَّصل به بشكل مباشر. ولذلك كأنَّه لم يعش معنى العداوة بشكل عميق، وأراد الله له أن يمرَّ بالتَّجربة ليشعر بعداوة إبليس له، من خلال النَّتائج السَّلبيَّة الَّتي تمسّه شخصيّاً، بحيث إنَّه يتحسَّسها في وجوده وفي نتائج وجوده.
وهكذا أعطاه الله الفكرة ليحذر {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ - فقد رفض السّجود لك من موقع العقدة والكبرياء، ومن موقع احتقاره لك وشعوره بالفوقيَّة تجاهك - فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ}[طه: 117]، ها أنت ترى الجنَّة كيف هي وتعيش فيها، وإن كنت لا تعرف شيئاً خارج الجنَّة، لأنّك لم تعش تجربة ما هو خارج الجنّة لتمايز بينهما، ولكن نقول لك إنَّك إذا خرجت منها، ستعيش البلاء والجوع والعري والظَّمأ والحرَّ والبرد، أمّا إذا بقيت فيها وانسجمت {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ}[طه: 118 - 119].
وسوسةُ إبليسَ لآدم (ع)
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ - ودخل إليه من موقع طيبته وطهارته، ومن موقع فقدانه للتَّجربة - قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ}[طه: 120]، إنَّ لك عمراً محدوداً إذا انطلقت بطبيعتك، وأنا ناصحٌ لك، وأقسم وأقسم وأقسم، كما يقسم الكثيرون من النَّاس عندما يريدون إعطاء عهد كاذب، وعندما يريدون أن يبيعوا بضاعةً خاسرةً، وعندما يريدون إغواء إنسان، فإنّهم يحلفون ويحلفون ويحلفون {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ}[المنافقون: 2].
فقد وسوس إبليس لآدم (ع)، ودخل عليه من موقع طهارته، والله يريد أن يعطينا هذه التَّجربة، أيُّها الأحبَّة، حتَّى لا تكون طهارتكم، إذا كنتم طاهرين، سذاجةً، وحتّى لا تكون طيبتكم غفلةً. كن الطَّاهر، ولكن كن الواعي، كن طاهراً، ولكن عليك أن تعرف معنى القذارة في الآخرين، كن الطيّب، ولكن عليك أن تفهم معنى الخبث في الآخرين. إنَّ الإنسان لا يستطيع أن يعرف معنى ما فيه من خير، إلَّا إذا كان يعرف ما في الآخرين من شرّ. لذلك، كان في الكلام المنسوب إلى الإمام الكاظم (ع): "وَجَدتُ عِلمَ النّاسِ في أربَعٍ: أوَّلُها أن تَعرِفَ رَبَّكَ، والثّانِيَةُ أن تَعرِفَ ما صَنَعَ بِكَ، والثّالِثَةُ أن تَعرِفَ ما أرادَ مِنكَ، والرّابِعَةُ أن تَعرِفَ ما يُخرِجُكَ مِن دِينِكَ"، لأنَّك إذا عرفت الدّين في إيجابيَّاته، ولم تعش الكفر في سلبيَّاته، فقد يدخل إليك الكفر باسم الدّين، وبذلك تكفر وأنت في أجواء الدّين. لذلك، إذا أردت أن تؤكّد الخير في ذاتك، فعليك أن تعرف الشَّرّ في الآخرين، ولم يكن آدم يعرف الشّرَّ في الآخرين، لأنّه لم يعش تجربته في وجوده، فوسوس إليه إبليس، وأغراه بالخلود، وقال له ستعيش بلا موت. وأيّ واحد منَّا إذا حُدِّث عن الخلود لا يخفق قلبه، ولا يسارع إلى أيّ شيء يخلّده؟! ألا نحاول أن نتناول من الأغذية والأدوية ما يحفظ لنا عمرنا ويزيده إن كان فيه زيادة، فكيف إذا قيل لنا إنَّه الخلود؟!
وقال إبليس كلمة الخلود لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ}، هناك شجرة لا تعرفها أنا أعرفها، وكانت هي الشَّجرة الَّتي نهى الله آدم وزوجه عنها، {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا - كانا لا يحسّان بشيء اسمه العورة، ولذلك كانا عراةً في الجنَّة، بمعنى العري الثيابيّ، لأنهما لا يشعران بشيء فيه عورة، لأنَّ الجنَّة ساحة الوضوح، ليس فيها أيّ نوازع للشّرّ، ولكن عندما خاضا التَّجربة الأولى، وأحسّا بها - وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ - لكن لا معصية تسيء إلى روحيَّته وإلى طاعته لربّه، لكنَّها معصية النّصيحة، لأنَّهم يقولون إنَّ الأمر كان إرشاديّاً، كنصيحة الطَّبيب، إذا عصيتها لا تدخل النّار، وإنّما تضرّ نفسك. وهكذا كانت مسألة آدم، والله العالم، أنَّه عصى الله عندما نصحه بأنَّك إذا كنت تحبّ أن تعيش في الجنَّة، فثمن ذلك أن لا تأكل من هذه الشَّجرة، واذا أكلت منها، فستخرج من الجنَّة، كما عندما يقول لك الطَّبيب اذا أكلت من هذا الطَّعام فسيضرُّك، واذا لم تأكل تنتفع.
- فَغَوَىٰ}[طه: 121] ابتعد عن طريق رشده، ولكنَّ الله يعلم صدقه، ويعلم طهارته، ويعلم إخلاصه ومحبَّته له، {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ - اصطفاه إليه، وأعاده إليه في مواقع القرب - فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ}[طه: 122].
النّزولُ إلى الأرض
وجاءت لحظة النّزول إلى الأرض، ليبدأ ساحة مسؤوليَّته، وليبدأ إبليس حركة إغوائه وإضلاله. وبذلك، رسم الله أوَّل برنامج للإنسان قبل أن تنطلق النّبوَّات. هناك فكرة عند البعض أنَّ النّبوَّات انطلقت بعد أن عاش الإنسان التَّجربة في الأرض، كما يقول بعض المفكّرين، باعتبار {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}[البقرة: 213]. ولكنَّ الله، من الأساس، رسم للإنسانيَّة الخطّ الَّذي يبدأ الإنسانُ فيه رحلته، ولم يكن هناك إلّا إنسانان، وهما آدم وحوَّاء. فلم تكن النبوَّات نتيجة حاجة إنسانيَّة من خلال الخلافات الّتي حدثت بين النَّاس، بل كانت منطلقةً من أنَّ الله يريد أن يُنزِل الإنسانَ إلى الأرض ومعه رسالته وبرنامجه وخطّه.
طريقُ العودةِ إلى الجنَّة
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ - لأنَّ آدم يريد أن يرجع إلى الجنَّة من خلال طاعة الله، بعد أن اجتباه الله إليه وحمَّله رسالته، ولأنَّ إبليس يريد أن يبقي آدم وذرَّيته خارج الجنَّة.
- فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي – من أعرض عن ذكر الله فيما أمر به الله وفيما نهى عنه، ومن أعرض عن مقام ربّه في أسرار عظمته وامتداد نعمته - فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}[طه: 123 - 124] – حتَّى وهو يتقلَّب في النَّعيم، فإنَّ الَّذين يتقلَّبون في نعيم الدّنيا، قد ترى في وجوههم نضرة النَّعيم، مما يأكلون ويشربون ويشتهون، ولكنَّك إذا نفذت إلى داخلهم، لرأيت أنَّهم يعيشون الشَّقاء كلَّه، فثروتهم تعقّد لهم كلَّ حياتهم مع الآخرين، ونعيمهم قد يعطيهم لذَّةً في جانب، ولكنَّه يمنحهم أكثر من ألم في جانبٍ آخر، يعيشون فرح الحياة وفي أعماقهم كلُّ الحزن، ويعيشون لذَّة الحياة وفي داخلهم كلُّ الألم. إنّكم لو نفذتم إلى الأغنياء، وأنتم تحسدونهم على غناهم، لحمدتم ربَّكم على ما أنتم فيه من راحة القلب، قد تنامون جائعين، ولكنّكم تعيشون ضميراً مرتاحاً، وتعيشون مشاكل قليلة، أمَّا هم، فيعيشون الصّراع في داخل نفوسهم وفي كلّ علاقاتهم.
لذلك، مَنْ يُعرِض عن ذكر الله، يجعل له الله معيشة ضيّقة، ضيق الصَّدر وضيق الرّوح والأفق، لأنَّك عندما تذكر ربَّك، فإنَّك تشعر بالقوَّة {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[البقرة: 165]، وتتحسَّس الرَّحمة واللّطف، وتنفتح على روح الله {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87]. ففي الله الأمل كلّ الأمل، وفي الله الانفتاح كلّ الانفتاح. مَنْ عاش لذَّة محبَّة الله، شعر بأنَّه لا لذَّة أكثر حلاوةً منها، ومن فَقَدَ إحساسه بالله، شعر بالغربة وهو في وطنه، وشعر بالحزن وهو في قمَّة فرحه، وشعر بالضّياع وهو يسير على الطَّريق، لأنَّ الله هو الَّذي يملأ عقولنا وقلوبنا وحياتنا.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي}، نسي ربَّه ولم يذكره، لا ذكر اللّسان، ولكن ذكر العقل والقلب والشّعور، بحيث إنَّك تتصوَّر الله أمام كلّ محرَّم تقدم عليه، فترى الله حاجزاً بينك وبينه.
سرُّ القوّةِ عندَ عليّ (ع)
وعليّ بن أبي طالب (ع)، هذا الإنسان الإلهيّ الَّذي عاش لله بكلّه، وعاش أقسى تجربة، فقد كان الملك أمامه، وكان هو الخليفة بالفعل، وكان الخليفة بالموقع والحقّ، الخليفة الَّذي يملك أن يحكم، وأن يمدَّ حكمه بالحيلة والخديعة والغدر واللَّعب على ألف حبل، وكان النَّاس يقولون له: أعط الأموال ليجتمع النَّاس حولك، ويقول لهم: "أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ؟! وَاللهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً".. يقولون له اغدر بمعاوية، كن الدَّاهية الَّذي يلعب على الحبال، ويقول: "واللهِ ما معاويةُ بأدهى منّي، ولكنَّهُ يغدرُ ويفجرُ، ولولا كراهيةُ الغدرِ كنتُ مِن أدهى النّاسِ"، يقولون له أنت تملك الفكر الَّذي يعرف كيف يستنبط عمق الحيلة، وعمق اللّعبة السياسيَّة، كما نقول، ويقول (ع): "قَدْ يَرَى الْـحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ"، إنَّ مشكلتي أني أخاف الله، هكذا يقول (ع) بلسان حاله، مشكلتي أنّي أحبّ الله، وأنّي أقول كما قال رسول الله (ص) فيما أراده الله أن يقول: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الأنعام: 15].
"قَدْ يَرَى الْـحُوَّلُ الْقُلَّبُ - الَّذي يملك خبرة تحويل الأمور وتقليبها - وَجْهَ الحِيلَةِ - الَّتي يربح فيها - وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ – ماذا هناك؟ الله يأمرك أن لا تتقدَّم وأن تقف، ينهاك عن أن تتقدَّم. قف، حتَّى لو كان في حركتك كلّ ما تحبّه وتريده - فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ"، وهم الَّذين يلعبون على الحبال، والّذين يعيشون لأنفسهم.
ذلك هو عليّ (ع) الَّذي يقول: "لَا يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً، وَلاَ تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً". ذلك عليّ، القمَّة في علمه وبطولته وشجاعته، يجلس بين يدي ربّه، وهو يعرف مقام ربّه، ليقول: "وأَنَا عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ الحَقِيرُ المِسْكِينُ المُسْتَكِينُ"، وذلك سرّ قوّته، وأمَّا غير عليّ، فقد كان يعيش ضيق الأفق، وضيق الروح، وضيق القيمة، وضيق الحريَّة في داخل نفسه.
عواقبُ الإعراضِ عن ذكر الله
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي - اذكر ربَّك إذا نسيت، واذكر ربَّك إذا أراد النَّاس لك أن تعصيه، اذكر مقامه {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النّازعات: 40 - 41].
- فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ – يتخبَّط ولا يهتدي طريقه، وهي كناية عن الإنسان الَّذي ليس له امتدادٌ في الطَّريق يعرف كيف يتحرَّك فيه.
- قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا - وأنت تحشر النَّاس، يا ربّ، كما كانوا في الدّنيا؟! قال صحيح، لقد كنت بصيراً بعينيك، ولكنَّك كنت أعمى بعقلك وقلبك وإحساسك وحركتك، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحجّ: 46]، والدَّليل على عماك - قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا - آياتنا الَّتي تدعوك إلى الجنَّة، والَّتي تبعدك عن النَّار، والّتي تعرّفك عظمة الله، وتعرّفك مواقع نعمه، وتفتح عقلك وقلبك وروحك على الخير - فَنَسِيتَهَا – وأهملتها، واتّبعت هواك، وأعرضت عنها، واتَّبعت هواك - وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}[طه: 124 - 126]، ستكون كميَّة مهملة لا يعبأ بك أحد، ولا يلتفت إليك أحد.
{وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ - في انحرافه وابتعاده عن ربّه - وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ}[طه: 127] لم يؤمن إيمان العقيدة بما هي العقيدة، وإيمان العمل فيما هو العمل، لأنَّ الإيمان قول وعمل، فقد تكون مؤمن القول ولكنَّك كافر العمل {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران: 97]. والحجّ قريب إليكم أيّها المستطيعون المهملون، الَّذين يمرّ عليكم الحجّ، والمال عندكم، والسّرب مخلّى، وكلّ شيء لديكم، وتؤخّرون، لأنَّ هناك تجارة تريدون أن تستربحوها، ولأنَّ هناك لذّةً تريدون أن تأخذوا بها، ولأنَّ هناك راحة تريدون أن تعيشوها، "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُوديّاً أَوْ نَصْرَانيّاً". ولذا يقول الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ – فسّرت مَنْ لم يحجّ، وهو كفر العمل وليس كفر العقيدة - فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، فلا تفترض أنَّك إذا لم تحجّ فسوف تهتزّ السَّماوات والأرضين، أنت ما قيمتك؟! "إنَّ اللهَ لَا تَضرُّهُ معصيةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ طاعةُ مَنْ أَطَاعَهُ".
{وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ}[طه: 127].
فرصةُ التَّوبة
هذا هو نداء الله، أيُّها الأحبَّة، ولا نزال في هدنة، ولا يزال في العمر بقيَّة، ولا تزال هناك فرصة للتَّوبة، لايزال الله يدعونا {فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة: 186]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60].
فتعالوا، أيُّها الأحبَّة، إلى الله لنتوب إليه، تعالوا إلى الله لنحبَّه في عملنا ليحبَّنا برحمته، تعالوا إلى الله، فعند الله كلّ الحنان، وكلّ الرَّحمة، وكلّ العطاء، وكلّ اللّطف، وتعالوا إلى الله لتسيروا في طريقه، وتنفتحوا على هداه، حتَّى إذا جاءكم نداء الله، واستحضرتْكُم دعوته الَّتي لا بدَّ منها ومن إجابتها، عند ذلك، يأتي النّداء الحنون الَّذي يعطي الإنسان وهو في سكرات الموت، كلَّ شعور بالفرح الرّوحيّ، وكلَّ شعور بالطّمأنينة والرّضا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ – فهل نحصل على النَّفس المطمئنّة؟! - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي – الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحات - وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27 - 30]، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}[التّوبة: 72].
والحمد لله ربّ العالمين.
*موعظة دينيَّة لسماحته، بتاريخ: 4 نيسان 1996م.