محاضرات
01/06/2023

عظمةُ الله وتجلّياتُ قدرتِهِ في الإنسانِ والكون

يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم: 19 - 20].
عظمةُ الله في خلقه
هذه هي الحقيقة الَّتي يريد الله سبحانه وتعالى للنَّاس في كلّ زمان ومكان أن يفهموها، وأن يتعمَّقوا فيها، وأن يجعلوا كلَّ حركتهم في الحياة منطلقةً من خلال وعيهم لما هو مقام الله في مواقع عظمته، ولما هو موقع العبد أمام ربّه.. أن يعي الإنسان ما حجمه، وما حجم الله في نفسه.
فالإنسان هو هذا المخلوق الضَّئيل حجماً أمام جبروت السَّموات والأرض، وأمام هذا الحجم الضَّخم الَّذي يتمثَّل في الأكوان، أكوان السَّماوات والأرض؛ فالقمر كون، والشَّمس كون، وكلّ كوكب من الكواكب هو كون بنفسه، وإن بدت صغيرة لنا في مداها البعيد، والأرض بسهولها وجبالها وأنهارها، وكلّ المخلوقات فيها، هي أكوان.
فمن أنت، أيُّها الإنسان، في حجمك؟ كم تساوي في عالم المادَّة من حجم؟ وإذا رأيت حجم الكون كلّه، فتطلَّع إلى من خلق هذا الكون؛ من خلق السَّموات بكلّ أفلاكها، ومن خلق الأرض بكلّ أبعادها، ومن خلقك أيّها الإنسان.
لقد انطلق الخلق كلّه بالحقّ، ومعنى الحقّ، أنَّ لكلّ ما في السَّموات وما في الأرض سرّاً في القوانين الَّتي أودعها الله في كلّ ظاهرة من ظواهر الكون، فللشَّمس قانونها ومدارها، وللقمر قانونه ومداره، ولكلّ شيء منهجه ومساره {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[النّساء: 3]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: 49]، ليس هناك شيء يتحرَّك على سبيل الفوضى {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس: 40].
سرُّ الخلقِ في الكون
لذلك، عندما تتصوَّر هذا الكون، تعرف أنَّ هناك نظاماً في كلّ الموجودات، حتَّى إنَّ بعض العلماء الَّذين يكتشفون أسرار الطَّبيعة، يقولون إنَّ نظام الذَّرَّة الَّتي هي أصغر حجم في الكون، هي نفس نظام الكون كلّه، فقانون الزَّوجيَّة في الكون لا يقتصر على الإنسان والحيوان {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذّاريات: 49]، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا}[يس: 36].
كلّ شيء في الكون فيه ذكر وأنثى، موجب وسالب؛ من الذّرَّة الَّتي لا تُرى بالعين المجرَّدة، إلى الجبل الضَّخم، إلى الكرة الأرضيَّة، القانون هو ذاته، فقد نظَّم الله هذا الشَّيء في الكون، حتَّى الملحدون الَّذين لا يؤمنون بوجود الله، لأنَّ قلوبهم في غفلة عنه، حتَّى هؤلاء، يقولون إنّ هناك نظاماً، اذهب إلى كلّ مواقع العلم في العالم، في أوروبَّا وأمريكا وروسيا، وكلّ مواقع العلم في كلّ الأماكن في العالم، فسيحدّثونك أنَّ في كلّ ظاهرة في الكون سرّاً وقانوناً اكتشفه الإنسان في بعض مواقعه ولم يكتشفه كلّه، فالعلماء لا يتصوّرون وجود فوضى في الكون، فهناك نظام، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، ولكنَّهم يبحثون عن هذه القوانين حتَّى يكتشفوها، وحتَّى ينتفعوا بها، وحتّى يقيسوا الأمور عليها.
ولذا، {أَلَمْ تَرَ – أيُّها الإنسان، في ملاحظاتك البصريَّة، وفي ملاحظاتك الفكريَّة، وفي رؤيتك في وعيك، إذا تأمَّلت وتدبَّرت وبحثت وفتَّشت - أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}، فليس هناك شيء في السَّموات والأرض إلَّا وهناك حقّ في داخله، والحقّ هو هذا السّرّ الَّذي أودعه الله في الأشياء، وجعل للأشياء امتدادها في الوجود، ونظامها في الكون من خلاله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
قدرةُ الله في الإنسان
ثمَّ إنَّ من الحقّ الَّذي أودعه الله في الإنسان، أنَّ الإنسانَ لا يملك حياته، فأنت لم تصنع حياتك {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطّور: 35]، هل صنعت أنت حياتك؛ كيف تصنع حياتك قبل وجودك ولم تكن موجوداً؟ أو خلقت صدفة؛ كيف يخلق الشَّيء الّذي لا حتميّة لوجوده من لا شيء؟ هل صنعك أبواك؛ ومن الَّذي صنع أبويك وأجدادك وأجداد أجدادك، وما إلى ذلك؟! إنَّه الله.
إذا كنت لا تملك في داخل وجودك سرَّ حياتك، وكان الله هو الَّذي أودع الحياة في داخلك، فأنت محتاج إليه سبحانه في كلّ شيء، لأنَّك عندما تحتاج حياتك في أصل وجودها، فأنت تحتاج كلّ تفاصيل الحياة. إنَّ الله خلق لك هذا الجسد من نطفة، ثمَّ من علقة، ثمَّ من مضغة، وهكذا، حتَّى سوَّاك رجلاً أو سوَّاك إنساناً، ثمَّ أودع فيك الرّوح، ثمَّ هيَّأ لك في الكون كلّه ما ينمّي لك جسدك من طعام وشراب، وما ينمّي لك عقلك من كلّ مواقع العلم والفكر والتَّجربة.
وهكذا سار بك، ولم يجعل في سرّ وجودك في الدنيا سرَّ الخلود، فليس هناك في الكون خالد {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزّمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون}[الأنبياء: 34].
ومن هذه الآية نفهم أنَّ الفكرة الَّتي تقول إنَّ الخضر حيّ خالد إلى آخر الزَّمن، وأنَّه شرب ماء الحياة، هي فكرة تتنافى مع الآية القرآنيّة، والقرآن ينفي ذلك {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ - هؤلاء الَّذين يشمتون بك ويتمنّون موتك - الْخَالِدُون}.
الفقيرُ أمامَ الغنيّ المطلق
لذلك، لم يجعل الله لك سرَّ الخلود في وجودك، عندما أودع سرَّ الحياة في هذا الوجود. وإذا كان الأمر كذلك، فأنت الضَّعيف جدّاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر: 15]. أنت فقير إلى الله في نسمة الهواء الَّتي تتنفَّسها، فإذا حجبها الله عنك فكيف تتنفَّس؟! وفي قطرة الماء الَّتي تشربها، وفي حبَّة الغذاء التي تأكلها، وفي هذه الأرض الَّتي تتحرَّك فيها؛ هل تملك أمام الله شيئاً تستطيع أن تشعر فيه باستقلالك وغناك؟! أنت الفقير المطلق؛ فقير في كلّ شيء، ولا غنى لك إلَّا من خلال غناه، ولا حياة لك إلَّا من خلال إرادته. أمَّا هو، فهو الغنيّ الحميد الَّذي لا يحتاج إلى أحد من خلقه، حتّى إنَّه لا يحتاجك في طاعتك له، فطاعتك له غنى لك وليست غنى لربّك، ومعصيتك فقر لك وليست فقراً لربّك.
التّواضعُ أمامَ عظمةِ الله
لا تتعالوا، لا تستكبروا، لا يحاول أحدكم أن يضرب الأرض بقدمه أو يرفع كتفيه {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء: 37]. لا تجعلْكم طاقاتكم، وما تحصلون عليه من مجد وجاه ومال وما إلى ذلك، تشعرون بالقوَّة أمام الله، لتستكبروا، لتقولوا كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}[القصص: 78]، لتنكروا فضل الله عليكم وحاجتكم إليه. لا تفعلوا ذلك، وتأمَّلوا كيف كنتم عدما ًوأعطاكم الله هذا الوجود، ومن يملك حياتك يملك موتك، ومن يملك وجودك يملك ذهابك {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم: 19 - 20]، لأنَّه القادر على كلّ شيء {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يونس: 56].
أين آباؤكم، وقد كانوا يعدّون بمئات الملايين؟ وأين أجدادكم؟ ألم يذهبهم الله ويأت بكم خلقاً جديداً؟! وسيذهبكم الله ويأتي بخلق جديد، عندما تنظر إلى ولدك يولَد، اعرف أنَّ ولدَك هو الخلق الجديد الَّذي سوف يمتدّ بعدك، ستذهب أنت ويبقى ولدك.
ولذلك، حاول أن تتعرَّف عظمة الله في خلقك وخلق السَّموات والأرض بالحقّ، وأن تتعرَّف عظمة الله في موتك وموت مَنْ حولك، مِنْ قَبْلِكَ وَمِنْ بَعدك، أن تتعرّف حاجتك إلى الله، وفقرك إليه وغناه عنك، لتتواضع له، لتعبده كما ينبغي له أن يُعبَد، ولتكبّره كما ينبغي له أن يكبَّر، ولتسبّحه وتحمده وتهلّل له كما ينبغي أن يسبَّح ويُحمَد ويهلَّل له: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.

* موعظة دينيّة لسماحته، بتاريخ: 18-01-1996.

يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم: 19 - 20].
عظمةُ الله في خلقه
هذه هي الحقيقة الَّتي يريد الله سبحانه وتعالى للنَّاس في كلّ زمان ومكان أن يفهموها، وأن يتعمَّقوا فيها، وأن يجعلوا كلَّ حركتهم في الحياة منطلقةً من خلال وعيهم لما هو مقام الله في مواقع عظمته، ولما هو موقع العبد أمام ربّه.. أن يعي الإنسان ما حجمه، وما حجم الله في نفسه.
فالإنسان هو هذا المخلوق الضَّئيل حجماً أمام جبروت السَّموات والأرض، وأمام هذا الحجم الضَّخم الَّذي يتمثَّل في الأكوان، أكوان السَّماوات والأرض؛ فالقمر كون، والشَّمس كون، وكلّ كوكب من الكواكب هو كون بنفسه، وإن بدت صغيرة لنا في مداها البعيد، والأرض بسهولها وجبالها وأنهارها، وكلّ المخلوقات فيها، هي أكوان.
فمن أنت، أيُّها الإنسان، في حجمك؟ كم تساوي في عالم المادَّة من حجم؟ وإذا رأيت حجم الكون كلّه، فتطلَّع إلى من خلق هذا الكون؛ من خلق السَّموات بكلّ أفلاكها، ومن خلق الأرض بكلّ أبعادها، ومن خلقك أيّها الإنسان.
لقد انطلق الخلق كلّه بالحقّ، ومعنى الحقّ، أنَّ لكلّ ما في السَّموات وما في الأرض سرّاً في القوانين الَّتي أودعها الله في كلّ ظاهرة من ظواهر الكون، فللشَّمس قانونها ومدارها، وللقمر قانونه ومداره، ولكلّ شيء منهجه ومساره {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[النّساء: 3]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: 49]، ليس هناك شيء يتحرَّك على سبيل الفوضى {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس: 40].
سرُّ الخلقِ في الكون
لذلك، عندما تتصوَّر هذا الكون، تعرف أنَّ هناك نظاماً في كلّ الموجودات، حتَّى إنَّ بعض العلماء الَّذين يكتشفون أسرار الطَّبيعة، يقولون إنَّ نظام الذَّرَّة الَّتي هي أصغر حجم في الكون، هي نفس نظام الكون كلّه، فقانون الزَّوجيَّة في الكون لا يقتصر على الإنسان والحيوان {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذّاريات: 49]، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا}[يس: 36].
كلّ شيء في الكون فيه ذكر وأنثى، موجب وسالب؛ من الذّرَّة الَّتي لا تُرى بالعين المجرَّدة، إلى الجبل الضَّخم، إلى الكرة الأرضيَّة، القانون هو ذاته، فقد نظَّم الله هذا الشَّيء في الكون، حتَّى الملحدون الَّذين لا يؤمنون بوجود الله، لأنَّ قلوبهم في غفلة عنه، حتَّى هؤلاء، يقولون إنّ هناك نظاماً، اذهب إلى كلّ مواقع العلم في العالم، في أوروبَّا وأمريكا وروسيا، وكلّ مواقع العلم في كلّ الأماكن في العالم، فسيحدّثونك أنَّ في كلّ ظاهرة في الكون سرّاً وقانوناً اكتشفه الإنسان في بعض مواقعه ولم يكتشفه كلّه، فالعلماء لا يتصوّرون وجود فوضى في الكون، فهناك نظام، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، ولكنَّهم يبحثون عن هذه القوانين حتَّى يكتشفوها، وحتَّى ينتفعوا بها، وحتّى يقيسوا الأمور عليها.
ولذا، {أَلَمْ تَرَ – أيُّها الإنسان، في ملاحظاتك البصريَّة، وفي ملاحظاتك الفكريَّة، وفي رؤيتك في وعيك، إذا تأمَّلت وتدبَّرت وبحثت وفتَّشت - أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}، فليس هناك شيء في السَّموات والأرض إلَّا وهناك حقّ في داخله، والحقّ هو هذا السّرّ الَّذي أودعه الله في الأشياء، وجعل للأشياء امتدادها في الوجود، ونظامها في الكون من خلاله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
قدرةُ الله في الإنسان
ثمَّ إنَّ من الحقّ الَّذي أودعه الله في الإنسان، أنَّ الإنسانَ لا يملك حياته، فأنت لم تصنع حياتك {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطّور: 35]، هل صنعت أنت حياتك؛ كيف تصنع حياتك قبل وجودك ولم تكن موجوداً؟ أو خلقت صدفة؛ كيف يخلق الشَّيء الّذي لا حتميّة لوجوده من لا شيء؟ هل صنعك أبواك؛ ومن الَّذي صنع أبويك وأجدادك وأجداد أجدادك، وما إلى ذلك؟! إنَّه الله.
إذا كنت لا تملك في داخل وجودك سرَّ حياتك، وكان الله هو الَّذي أودع الحياة في داخلك، فأنت محتاج إليه سبحانه في كلّ شيء، لأنَّك عندما تحتاج حياتك في أصل وجودها، فأنت تحتاج كلّ تفاصيل الحياة. إنَّ الله خلق لك هذا الجسد من نطفة، ثمَّ من علقة، ثمَّ من مضغة، وهكذا، حتَّى سوَّاك رجلاً أو سوَّاك إنساناً، ثمَّ أودع فيك الرّوح، ثمَّ هيَّأ لك في الكون كلّه ما ينمّي لك جسدك من طعام وشراب، وما ينمّي لك عقلك من كلّ مواقع العلم والفكر والتَّجربة.
وهكذا سار بك، ولم يجعل في سرّ وجودك في الدنيا سرَّ الخلود، فليس هناك في الكون خالد {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزّمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون}[الأنبياء: 34].
ومن هذه الآية نفهم أنَّ الفكرة الَّتي تقول إنَّ الخضر حيّ خالد إلى آخر الزَّمن، وأنَّه شرب ماء الحياة، هي فكرة تتنافى مع الآية القرآنيّة، والقرآن ينفي ذلك {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ - هؤلاء الَّذين يشمتون بك ويتمنّون موتك - الْخَالِدُون}.
الفقيرُ أمامَ الغنيّ المطلق
لذلك، لم يجعل الله لك سرَّ الخلود في وجودك، عندما أودع سرَّ الحياة في هذا الوجود. وإذا كان الأمر كذلك، فأنت الضَّعيف جدّاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر: 15]. أنت فقير إلى الله في نسمة الهواء الَّتي تتنفَّسها، فإذا حجبها الله عنك فكيف تتنفَّس؟! وفي قطرة الماء الَّتي تشربها، وفي حبَّة الغذاء التي تأكلها، وفي هذه الأرض الَّتي تتحرَّك فيها؛ هل تملك أمام الله شيئاً تستطيع أن تشعر فيه باستقلالك وغناك؟! أنت الفقير المطلق؛ فقير في كلّ شيء، ولا غنى لك إلَّا من خلال غناه، ولا حياة لك إلَّا من خلال إرادته. أمَّا هو، فهو الغنيّ الحميد الَّذي لا يحتاج إلى أحد من خلقه، حتّى إنَّه لا يحتاجك في طاعتك له، فطاعتك له غنى لك وليست غنى لربّك، ومعصيتك فقر لك وليست فقراً لربّك.
التّواضعُ أمامَ عظمةِ الله
لا تتعالوا، لا تستكبروا، لا يحاول أحدكم أن يضرب الأرض بقدمه أو يرفع كتفيه {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء: 37]. لا تجعلْكم طاقاتكم، وما تحصلون عليه من مجد وجاه ومال وما إلى ذلك، تشعرون بالقوَّة أمام الله، لتستكبروا، لتقولوا كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي}[القصص: 78]، لتنكروا فضل الله عليكم وحاجتكم إليه. لا تفعلوا ذلك، وتأمَّلوا كيف كنتم عدما ًوأعطاكم الله هذا الوجود، ومن يملك حياتك يملك موتك، ومن يملك وجودك يملك ذهابك {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم: 19 - 20]، لأنَّه القادر على كلّ شيء {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يونس: 56].
أين آباؤكم، وقد كانوا يعدّون بمئات الملايين؟ وأين أجدادكم؟ ألم يذهبهم الله ويأت بكم خلقاً جديداً؟! وسيذهبكم الله ويأتي بخلق جديد، عندما تنظر إلى ولدك يولَد، اعرف أنَّ ولدَك هو الخلق الجديد الَّذي سوف يمتدّ بعدك، ستذهب أنت ويبقى ولدك.
ولذلك، حاول أن تتعرَّف عظمة الله في خلقك وخلق السَّموات والأرض بالحقّ، وأن تتعرَّف عظمة الله في موتك وموت مَنْ حولك، مِنْ قَبْلِكَ وَمِنْ بَعدك، أن تتعرّف حاجتك إلى الله، وفقرك إليه وغناه عنك، لتتواضع له، لتعبده كما ينبغي له أن يُعبَد، ولتكبّره كما ينبغي له أن يكبَّر، ولتسبّحه وتحمده وتهلّل له كما ينبغي أن يسبَّح ويُحمَد ويهلَّل له: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.

* موعظة دينيّة لسماحته، بتاريخ: 18-01-1996.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية