لماذا فلسطين؟!
س: سماحة السيِّد... هل فلسطين بالنّسبة إليك مجرَّد جغرافيا أم أنَّها تمثَّل شيئاً آخر؟
ج: منذ بداية وعيي، وأنا أفكِّر في الإسلام في سعته وامتداده وفي كلِّ قضاياه، وقد كنت، وما زلت، أتابع كلَّ التعقيدات اليهوديَّة التي انطلقت من خلال الخطَّة الغربيَّة التي تتحرَّك في دائرتين:
الدائرة الأولى: إحساس الغرب بخطورة التَّواصل بين البلاد العربيَّة والدول الإسلاميَّة، باعتبار أنَّ هذا التواصل يمكن أن يتحوَّل في المستقبل إلى وحدة عربيَّة تفتح الأفق لوحدة إسلاميَّة بإمكانها أن تشكِّل خطراً على المصالح الغربيَّة في المنطقة، باعتبار أنَّ البلاد العربيَّة والإسلاميَّة تمثِّل الاحتياط العالمي لكلِّ ثروات الرخاء للعالم الغربي، ولذلك قامت بريطانيا بالتحالف آنذاك مع الصهيونية، بإعطاء اليهود وعداً بأن تكون فلسطين أرضاً لهم يقيمون عليها دولتهم، وهو ما شرّع لليهود الإرهابيّين الذين فجّروا فندق الملك داود، وارتكبوا مجزرة دير ياسين، أن يشرّدوا الفلسطينيّين من أرضهم، لتكون فلسطين أرضاً بلا شعب.
وهكذا استطاعوا أن يفصلوا بين البلدان العربيَّة بهذا الجسم الأجنبي الَّذي تحالف الغرب معه من أجل إثارة الفوضى الأمنيَّة والسياسيَّة في العالم العربي كلِّه، امتداداً إلى العالم الإسلامي.
أما الدائرة الثَّانية، فهي أنَّ العالم العربي لم يكن آنذاك يملك أيّ أصالة في هويَّته، بل كان يمثِّل مزقاً متناثرةً استطاع الاستعمار البريطاني في المنطقة أن يحوِّلها إلى ما يشبه السقوط السياسي، بعد أن جعل الَّذين يحكمون العالم العربي وبعض العالم الإسلامي خدماً للمصالح الغربيَّة، وهو ما نعانيه في البلاد العربيَّة كافّة...
لذلك كنت أفكِّر أنَّ فلسطين تمثِّل مظهر الخطة الغربية التي تختزن في داخلها الحقد على الإسلام والمسلمين، والانطلاق نحو استثمار ثرواتهم الطبيعيَّة، لتكون لها الحريَّة في إدارتها بعيداً من سلطة القائمين على شؤون هذا العالم. لذلك، فإنني في نهاية طفولتي وبداية شبابي، وعندما كنت أقرأ الصّحف وأستمع إلى الإذاعات، كنت أشعر بأنَّ فلسطين تمثِّل البلد الذي تلتقي فيه مقدَّسات الأديان كلّها، والبلد الَّذي يطمح اليهود في امتدادهم الغربي إلى السَّيطرة عليه من أجل أن تكون فلسطين هي قاعدة العالم، باعتبارها قاعدة المقدَّسات الدينيَّة للعالم كلِّه.
وهكذا بدأ التخطيط اليهودي، وكنَّا نشعر بأنَّ فلسطين هي حقُّنا كعرب وكمسلمين، وأنَّ الغرب اغتصب فلسطين بالانتداب، ثم أفسح في المجال لاغتصاب اليهود لها اغتصاباً استيطانياً. ولذلك كنت أفكر في فلسطين، وكنت أقرأ التاريخ، وأتابع عقدة الغرب من اضطهاد اليهود الذين استقبلهم المسلمون في كل تاريخهم، وعقدتهم من النازيَّة، ولكنهم بدلاً من أن يمنحوهم أرضاً في مناطقهم، ساعدوهم على اغتصاب فلسطين الَّتي حاولوا أن يحيطوها بالأساطير اليهوديَّة التي تجعلها وطناً قومياً لليهود في العالم.
حربٌ وحشيَّةٌ على غزَّة
س: يقول بعض المحلِّلين العسكريّين الإسرائيليّين الاستراتيجيّين، إنَّ الاختراق الأخطر الذي أنجزته المقاومة الإسلاميَّة في لبنان، هو أنَّ المعادلة على امتداد الصِّراع العربي الإسرائيلي كانت أنَّ إسرائيل تضرِب ولا تُضرَب، تصفَع ولا تُصفَع، ولكنّ حرب تموز 2006م غيَّرت هذه المعادلة، فقد صارت أنَّ إسرائيل تصفَع وتُصفَع، وتضرِب وتُضرَب، بمعنى أنَّه بات هناك توازن في كلِّ الحسابات السياسيَّة والعسكريَّة، وحتى الاستراتيجية؟
ج: هذا صحيح، ولكنَّ المشكلة أنَّ بعض خطوط السياسة العربيَّة الخاضعة للسياسة الأمريكيَّة، عطَّلت إرادة النَّصر لدى الجيوش العربيَّة، وذلك من خلال تقديم التَّنازلات التي تحوَّلت من: (لا مفاوضات، لا صلح، لا اعتراف)، إلى تقديم التنازلات بالاعتراف وبالمفاوضات العبثيَّة، ثم بالصّلح، من خلال ما أقدمت عليه أكبر دولة عربيَّة، ثم تبعتها دولة أخرى، من تنسيق مع إسرائيل تحت الطَّاولة.
ولذلك، فإنَّ قيمة شباب المقاومة أنهم فتية آمنوا بربِّهم وزدناهم هدى، وأنهم عندما كانوا يتألمون، كانوا يستحضرون قول الله سبحانه وتعالى: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ}[النساء: 104]، وقوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 139]. وقد عرفوا أنَّ مسألة الاحتلال والظّلم ليست خالدةً، بل إنَّ الظالم سوف يسقط، والمظلوم سوف ينتصر.
لذلك، فإنَّني أتصوّر أنَّ حرب غزّة ليست حرباً إسرائيليَّة فحسب، بل هي حرب أمريكيَّة تنطلق لمعاقبة الفصائل الفلسطينيَّة بإفشال مشروعها في التسوية المذلّة التي تسمح لإسرائيل بتحقيق استراتيجيّتها في السيطرة على أكثر فلسطين، ليبقى القسم الباقي مسيطراً عليه بشكل غير مباشر...
لذلك، فإنَّ هذه الحرب المجنونة الكارثيَّة (1) التي لم يعهد في الحروب العالمية حربٌ في مستوى وحشيَّتها وقسوتها وعدم إنسانيَّتها، هذه الحرب هي حرب أمريكية إسرائيلية عربية على حركة حماس، لا بلحاظ جانبها الحركي، لأنَّ هناك حركة الجهاد الإسلامي والحركات الأخرى الشعبيَّة التي تقف مع حماس في مواجهة العدوّ وفي قصفها لمناطقه، بل بلحاظ أنّ المطلوب في هذه الحرب، كما صرّح الإسرائيليّون، هو إسقاط الممانعة المتمثّلة بالمقاومة والانتفاضة. هذا هو المشروع الأمريكي الإسرائيلي العربي الرامي إلى القضاء على المشروع الفلسطيني الشّعبي في بقاء القدس عاصمةً لفلسطين، وفي حقّ العودة وإزالة المستوطنات والجدار الفاصل.
ولذلك، فإنَّ المسألة تشمل كلَّ المشروع الفلسطيني، بالرغم من أنَّ بعض الفلسطينيين، ومنهم السلطة الفلسطينيَّة، يتحدثون بالشعارات، ويعرفون أنها مجرَّد أوهام سلطويَّة لا تسمح لهم إسرائيل بأن يحقِّقوا شيئاً منها...
إنني أتصوَّر أنَّ على العالم العربي كلِّه، وأقصد الشعوب، أن يتحرّك، لأنَّ المسؤولين العرب في هذه المرحلة يخشون من صمود شعب غزَّة، هذا الشعب الجائع المحروم الَّذي يعاني... والَّذي لا يطلب من العرب مساعدات غذائيَّة وطبيَّة، بل يطلب منهم أن لا ينسِّقوا مع إسرائيل من أجل إسقاطه.
(1) العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (كانون1 / ديسمبر 2008 )
* جزء من مقابلة لسماحة العلَّامة المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله (رض)، كانت أجرتها معه قناة القدس الفلسطينية، بتاريخ: 4 محرَّم 1430 هـ/ الموافق: ٣١ كانون الأوَّل ٢٠٠٨م، لما له علاقة بالقضيَّة الفلسطينيَّة والحرب على غزّة حينها، والمؤامرة الكبرى على شعبها ومقاومتها.
لماذا فلسطين؟!
س: سماحة السيِّد... هل فلسطين بالنّسبة إليك مجرَّد جغرافيا أم أنَّها تمثَّل شيئاً آخر؟
ج: منذ بداية وعيي، وأنا أفكِّر في الإسلام في سعته وامتداده وفي كلِّ قضاياه، وقد كنت، وما زلت، أتابع كلَّ التعقيدات اليهوديَّة التي انطلقت من خلال الخطَّة الغربيَّة التي تتحرَّك في دائرتين:
الدائرة الأولى: إحساس الغرب بخطورة التَّواصل بين البلاد العربيَّة والدول الإسلاميَّة، باعتبار أنَّ هذا التواصل يمكن أن يتحوَّل في المستقبل إلى وحدة عربيَّة تفتح الأفق لوحدة إسلاميَّة بإمكانها أن تشكِّل خطراً على المصالح الغربيَّة في المنطقة، باعتبار أنَّ البلاد العربيَّة والإسلاميَّة تمثِّل الاحتياط العالمي لكلِّ ثروات الرخاء للعالم الغربي، ولذلك قامت بريطانيا بالتحالف آنذاك مع الصهيونية، بإعطاء اليهود وعداً بأن تكون فلسطين أرضاً لهم يقيمون عليها دولتهم، وهو ما شرّع لليهود الإرهابيّين الذين فجّروا فندق الملك داود، وارتكبوا مجزرة دير ياسين، أن يشرّدوا الفلسطينيّين من أرضهم، لتكون فلسطين أرضاً بلا شعب.
وهكذا استطاعوا أن يفصلوا بين البلدان العربيَّة بهذا الجسم الأجنبي الَّذي تحالف الغرب معه من أجل إثارة الفوضى الأمنيَّة والسياسيَّة في العالم العربي كلِّه، امتداداً إلى العالم الإسلامي.
أما الدائرة الثَّانية، فهي أنَّ العالم العربي لم يكن آنذاك يملك أيّ أصالة في هويَّته، بل كان يمثِّل مزقاً متناثرةً استطاع الاستعمار البريطاني في المنطقة أن يحوِّلها إلى ما يشبه السقوط السياسي، بعد أن جعل الَّذين يحكمون العالم العربي وبعض العالم الإسلامي خدماً للمصالح الغربيَّة، وهو ما نعانيه في البلاد العربيَّة كافّة...
لذلك كنت أفكِّر أنَّ فلسطين تمثِّل مظهر الخطة الغربية التي تختزن في داخلها الحقد على الإسلام والمسلمين، والانطلاق نحو استثمار ثرواتهم الطبيعيَّة، لتكون لها الحريَّة في إدارتها بعيداً من سلطة القائمين على شؤون هذا العالم. لذلك، فإنني في نهاية طفولتي وبداية شبابي، وعندما كنت أقرأ الصّحف وأستمع إلى الإذاعات، كنت أشعر بأنَّ فلسطين تمثِّل البلد الذي تلتقي فيه مقدَّسات الأديان كلّها، والبلد الَّذي يطمح اليهود في امتدادهم الغربي إلى السَّيطرة عليه من أجل أن تكون فلسطين هي قاعدة العالم، باعتبارها قاعدة المقدَّسات الدينيَّة للعالم كلِّه.
وهكذا بدأ التخطيط اليهودي، وكنَّا نشعر بأنَّ فلسطين هي حقُّنا كعرب وكمسلمين، وأنَّ الغرب اغتصب فلسطين بالانتداب، ثم أفسح في المجال لاغتصاب اليهود لها اغتصاباً استيطانياً. ولذلك كنت أفكر في فلسطين، وكنت أقرأ التاريخ، وأتابع عقدة الغرب من اضطهاد اليهود الذين استقبلهم المسلمون في كل تاريخهم، وعقدتهم من النازيَّة، ولكنهم بدلاً من أن يمنحوهم أرضاً في مناطقهم، ساعدوهم على اغتصاب فلسطين الَّتي حاولوا أن يحيطوها بالأساطير اليهوديَّة التي تجعلها وطناً قومياً لليهود في العالم.
حربٌ وحشيَّةٌ على غزَّة
س: يقول بعض المحلِّلين العسكريّين الإسرائيليّين الاستراتيجيّين، إنَّ الاختراق الأخطر الذي أنجزته المقاومة الإسلاميَّة في لبنان، هو أنَّ المعادلة على امتداد الصِّراع العربي الإسرائيلي كانت أنَّ إسرائيل تضرِب ولا تُضرَب، تصفَع ولا تُصفَع، ولكنّ حرب تموز 2006م غيَّرت هذه المعادلة، فقد صارت أنَّ إسرائيل تصفَع وتُصفَع، وتضرِب وتُضرَب، بمعنى أنَّه بات هناك توازن في كلِّ الحسابات السياسيَّة والعسكريَّة، وحتى الاستراتيجية؟
ج: هذا صحيح، ولكنَّ المشكلة أنَّ بعض خطوط السياسة العربيَّة الخاضعة للسياسة الأمريكيَّة، عطَّلت إرادة النَّصر لدى الجيوش العربيَّة، وذلك من خلال تقديم التَّنازلات التي تحوَّلت من: (لا مفاوضات، لا صلح، لا اعتراف)، إلى تقديم التنازلات بالاعتراف وبالمفاوضات العبثيَّة، ثم بالصّلح، من خلال ما أقدمت عليه أكبر دولة عربيَّة، ثم تبعتها دولة أخرى، من تنسيق مع إسرائيل تحت الطَّاولة.
ولذلك، فإنَّ قيمة شباب المقاومة أنهم فتية آمنوا بربِّهم وزدناهم هدى، وأنهم عندما كانوا يتألمون، كانوا يستحضرون قول الله سبحانه وتعالى: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ}[النساء: 104]، وقوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 139]. وقد عرفوا أنَّ مسألة الاحتلال والظّلم ليست خالدةً، بل إنَّ الظالم سوف يسقط، والمظلوم سوف ينتصر.
لذلك، فإنَّني أتصوّر أنَّ حرب غزّة ليست حرباً إسرائيليَّة فحسب، بل هي حرب أمريكيَّة تنطلق لمعاقبة الفصائل الفلسطينيَّة بإفشال مشروعها في التسوية المذلّة التي تسمح لإسرائيل بتحقيق استراتيجيّتها في السيطرة على أكثر فلسطين، ليبقى القسم الباقي مسيطراً عليه بشكل غير مباشر...
لذلك، فإنَّ هذه الحرب المجنونة الكارثيَّة (1) التي لم يعهد في الحروب العالمية حربٌ في مستوى وحشيَّتها وقسوتها وعدم إنسانيَّتها، هذه الحرب هي حرب أمريكية إسرائيلية عربية على حركة حماس، لا بلحاظ جانبها الحركي، لأنَّ هناك حركة الجهاد الإسلامي والحركات الأخرى الشعبيَّة التي تقف مع حماس في مواجهة العدوّ وفي قصفها لمناطقه، بل بلحاظ أنّ المطلوب في هذه الحرب، كما صرّح الإسرائيليّون، هو إسقاط الممانعة المتمثّلة بالمقاومة والانتفاضة. هذا هو المشروع الأمريكي الإسرائيلي العربي الرامي إلى القضاء على المشروع الفلسطيني الشّعبي في بقاء القدس عاصمةً لفلسطين، وفي حقّ العودة وإزالة المستوطنات والجدار الفاصل.
ولذلك، فإنَّ المسألة تشمل كلَّ المشروع الفلسطيني، بالرغم من أنَّ بعض الفلسطينيين، ومنهم السلطة الفلسطينيَّة، يتحدثون بالشعارات، ويعرفون أنها مجرَّد أوهام سلطويَّة لا تسمح لهم إسرائيل بأن يحقِّقوا شيئاً منها...
إنني أتصوَّر أنَّ على العالم العربي كلِّه، وأقصد الشعوب، أن يتحرّك، لأنَّ المسؤولين العرب في هذه المرحلة يخشون من صمود شعب غزَّة، هذا الشعب الجائع المحروم الَّذي يعاني... والَّذي لا يطلب من العرب مساعدات غذائيَّة وطبيَّة، بل يطلب منهم أن لا ينسِّقوا مع إسرائيل من أجل إسقاطه.
(1) العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (كانون1 / ديسمبر 2008 )
* جزء من مقابلة لسماحة العلَّامة المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله (رض)، كانت أجرتها معه قناة القدس الفلسطينية، بتاريخ: 4 محرَّم 1430 هـ/ الموافق: ٣١ كانون الأوَّل ٢٠٠٨م، لما له علاقة بالقضيَّة الفلسطينيَّة والحرب على غزّة حينها، والمؤامرة الكبرى على شعبها ومقاومتها.