هناك من يقول في معرض الحديث عن التأخّر والتقدّم، والنصر والهزيمة، في حركة الإسلام في الحياة: إنّنا لم ننتصر، لأنّنا فقدنا الإيمان بالله وبرسالتنا، وإنَّ الآخرين المتقدّمين انتصروا في معاركهم مع الكفر، لأنّهم انطلقوا في حياتهم على خطِّ الإيمان.
ويسمع الكثيرون هذا القول، ويقلِّبون شفاههم استخفافاً بهذه السَّذاجة، واستنكاراً لهذه الدَّعوى. ونحن مع الَّذين يرفضون هذا القول من ناحية عامَّة، ولكنّنا نؤيّده من جهة أخرى، على أساس الملاحظات التَّالية:
1 ـــ كيف نُفسّر انتصار الكفرة، إذا كان الإيمان بالله هو كلّ شيء في المعركة والحياة؟
2 ـــ كيف نُفسّر خسارة المسلمين لبعض معاركهم في زمان النبيّ محمد (ص)، وفي ظلّ قيادته الحكيمة الّتي هي في القمّة من مستوى الإيمان بالله، بعد أن انتصروا في البداية، مع أنَّ الإيمان لم يكن يعوز القاعدة ولا القيادة؟
إنَّ قضية النصر والهزيمة في الحياة تخضع لأسباب موضوعيَّة تتعلّق بطبيعة المعركة، من حيث الأسلحة الَّتي تُستخدم فيها، والأشخاص الَّذين يحاربون فيها، أو يتولّون قيادتها، والظروف السياسية التي تُحيط بها، والخطط الحربية التي توضع لها، والأوضاع الإقليمية والطبيعية التي تتحكّم في مسيرتها، وتخضع لها حركتها العامّة، انطلاقاً من سنّة الله في الكون، الجارية على أساس ارتباط الأمور بأسبابها، فيجعل لكلّ ظاهرة سبباً، ولكلّ معلول علّة، ولكلّ نتيجة مقدّماتها، ولهذا، فلا بدّ من توفّر ذلك كلّه، في حصول النصر أو الهزيمة، أو التقدّم والتأخّر، وهذا ما لاحظناه في الآيات القرآنيَّة الكثيرة الداعية إلى الاستعداد، واستكمال أسباب النجاح، في أحاديثها عن تاريخ الأمم وأسباب هلاكها وانحطاطها، وعن الظَّواهر العامة في الحياة، من الآلام التي يقاسيها المجتمع الذي يعيش في ظلّ الواقع الفاسد الَّذي يُفرز ذلك كلّه، كما في قوله تعالى:
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم: 41].
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِير}[الإسراء: 16].
أمّا كيف نضع القضيَّة في إطارها الصَّحيح، فهذا ما نلاحظه في عدّة نقاط:
1 ـــ إنَّ الإيمان بالله يُعطي الإنسان قوّة معنوية مضاعفة، يشعر معها بارتباطه بالقوّة الأعظم التي تملؤه بالإحساس بحمايتها له من كلّ قوّة أخرى، ولذا، فإنّه لا يعيش روح الخضوع للقوى البشريَّة، مهما كانت درجة قوّتها وسلطانها.
2 ـــ إنَّ الإيمان بالله يوحِّد الهدف أمام الإنسان، فيحسُّ ـــ معه ـــ بقيمة الهدف من ناحية دينيَّة، لا من ناحية وجدانيَّة ذاتية فحسب، فلا يجعل من قضايا الحرب قضايا للسلب والنهب والارتزاق، ولا يتّخذ من حركة القوّة حركةً للبغي وللعدوان.
3 ـــ إنَّ الإيمان بالله يفرض على المقاتلين الإخلاص لقضيَّة القتال، بإعداد كلِّ الوسائل اللازمة لها؛ فإنَّ من أحكام هذا الإيمان إعداد القوَّة، كما ورد في الآية الكريمة:
{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}[الأنفال: 60].
وأسلوب المواجهة الشاملة، كما في قوله تعالى:
{وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة: 36].
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[التوبة: 123].
ومن أحكام هذا الإيمان، الصمود في المعركة حتى الاستشهاد، مهما بلغت درجة الخطورة في حركة المعركة نحو النَّصر أو الهزيمة. ولعلّ أوضح شاهد على ذلك، الآية الكريمة التي تعتبر الفرار من الزّحف خطيئة كبيرة مهلكة، يُعاقب الإنسان فيها بالنَّار، ويستحقّ عليها غضب الله سبحانه، وذلك هو قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الأنفال: 15 ــ 16].
4 ـــ إنَّ الإيمان بالله يجعل المؤمن يحسّ بالرّبح في كلتا الحالتين، حالة الشّهادة وحالة النّصر، فبالشّهادة يسلك طريق الجنَّة، وبالنصر يحصل على رضوان الله في الدنيا، والفوز بالجنَّة في الآخرة، مع قيادة الحياة في معركة الحياة، وهذا هو الَّذي تشير إليه الآية الكريمة التالية التي تتحدَّث عن حوار المؤمنين مع الكافرين:
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}[التّوبة: 52].
وبذلك يتحوَّل الإيمان إلى عنصر فاعل، يضمن للإنسان النَّصر، ويُهيّئ للمجتمع عناصر جديدة للقوَّة في الحياة.
وعلى ضوء ما عرضناه، نعرف أنّه لا يكفي القول، في معاركنا الحاضرة الَّتي نواجه فيها قضايا المصير: إنَّ علينا أن نؤمن لننتصر ـــ بالمفهوم الساذج لهذه الكلمة ـــ بل يلزمنا القول: إنّ علينا أن نؤمن بالله إيماناً يدعونا إلى الإعداد لمعركة النَّصر من خلال مفهوم الإيمان، ونرتبط على أساس ذلك بالله الَّذي هو القوّة المطلقة التي لا تقف عند حدّ، لنحصل على نتائج النصر من خلال حماية الله لنا في حالات المواجهة للأوضاع المفاجئة وغيرها.
ثم إنَّ فقدان الإيمان، يجعل المعركة تفتقد جذورها، لأنَّ هؤلاء الذين ينطلقون من خلال صفة معيَّنة، أو انتماء محدَّد، يفقدون القضية الدافعة إلى الحرب، عندما تفرغ قلوبهم من الإيمان بالله ورسالاته، فينطلقون إلى المعركة بدون قضيَّة جديدة تملأ النفس والفكر والحياة، لينطلقوا من خلالها، كما ينطلق الآخرون من قضاياهم المحدَّدة نحو معركتهم معنا.
إنَّ خلاصة الفكرة هي: إنَّ علاقة الإيمان بالقوَّة، تتمثَّل في دور الإيمان في إعطاء المعركة قوَّة جديدة أساسيَّة تضاف إلى بقيَّة القوى التي تفرض النصر، ما يجعل عناصر القوَّة متكاملة في روح المعركة ونموّها، بينما يتحول ابتعاد المعركة عن الإيمان، إلى معركة لا روح فيها ولا حياة.
* من كتاب "الإسلام ومنطق القوّة".