السيِّد محمد حسين فضل الله قطب من أقطاب المعرفة الإنسانيّة والإسلاميّة في عصرنا الحديث، فهو عالم موسوعيّ، وفقيه أصوليّ، ومفكّر وناقد، وعالم وفقيه تتميَّز كتاباته الفقهيّة بالعمق وإسقاط الأحكام على حقيقة الواقع، كما تتميّز أيضاً بالدقّة والتحرّي. هو مفكِّر عاصر كثيراً من فلاسفة عصره وعلمائهم، فنقد وحلّل واختار، ثم خرج بوسطيّة آرائه وعالميّة أبحاثه...
لا شكَّ في أنّ القارئ لكتبه ومؤلّفاته سيستفيد استفادةً كبيرة من رؤيته للواقع الحديث، واقتراح حلوله لمشكلات اجتماعيّة ونفسيّة ودعويّة أيضاً، ففي كتاباته عن الأسرة والمجتمع، تشعر بأنّك أمام إنسان يأخذك إلى الحلّ، ويأخذك إلى الاستقامة، وإلى فهم ما أمر به إسلامنا الحنيف.
وفي كتاباته عن المرأة، كانت هذه النظرة الإسلاميّة التي تجعل المرأة إنسانةً لها حقوقها، وتتمتَّع بأهليَّتها الكاملة، وتشارك الرَّجل في هذه الحياة مشاركة الندِّ للندِّ، مشاركةً تقوم على التفاهم والمسؤوليَّة.
وفي كتاباته الفقهيَّة، كان هذا التأصيل للمصطلحات الجارية في مجال الفقه والاجتهاد، وكانت هذه الكتابات الرّائعة المتميِّزة الّتي تمسّ حاجة المسلم في كلّ أمر من أمور حياته، والّتي يشرحها ويفسِّرها بأسلوبٍ رائعٍ بليغٍ، وأسلوبٍ فقهيٍّ علميٍّ يطابق الواقع والحياة المعاصرة.
قرأت له الموسوعة الفقهيَّة التي ألَّفها بعنوان "فقه الشّريعة"، وهو كتاب تشعر أثناء قراءته بأنَّ الاختلافات الفقهيَّة بين الجعفريَّة والسنَّة هي كالاختلافات الفقهيَّة بين مذاهب أهل السنَّة، كما وجدْتُ في كتابه هذا تلاقياً بين مسائل الفقه في مذهب الجعفريّة وفي بعض المذاهب السنيَّة، كمذهب أبي حنيفة، وكذلك بعض الاستنطاقات. وقد أثار في كتابه هذا دقائقَ المسائلِ الّتي لم يتطرَّقْ إليها بعض المعاصرين من الفقهاء.
وفي كتاباته عن مستقبلِ الدَّعوةِ وواجبِ الدّعاةِ، تجده يأخذ بيد الداعية والواعظ والعالم إلى مفتاح طريق الدَّعوة، ومفتاح طريق الإرشاد، وكيف يكون الدَّاعية منفتحاً على العلوم الأخرى الإنسانيَّة والعلميَّة، حتى ينجح في مسيرة الدَّعوة، ويكون قادراً على فهم الواقع حوله فهماً حقيقيّاً دقيقاً، وحتَّى يستطيع مجابهة الإلحاد، وما يثيره الناس من شبهات وفهم خاطئ لديننا.
وأمّا الهمُّ الأكبر لسماحة السيِّد فضل الله (ره)، فقد كان دعوة المسلمين إلى الوحدة، فالوحدة طريقٌ إلى القوَّة، واستجابة لما أوصانا به القرآن الكريم: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ}[آل عمران: 103]، واستجابة لما أوصانا به رسولنا (ص): "علَيكُم بالجماعةِ، وإيَّاكم والفُرقة"، واستجابة لإرشادات آل البيت وصحابة رسول الله (ص)، فكان (ره) يمشي في هذا الطَّريق بلا ملل، فيدعو المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم إلى الحوار، وإلى التسامح، وإلى الحبّ، وإلى قبول بعضنا بعضاً، مهما اختلفنا، ومهما اختلفت آراؤنا، فنتوحَّد فيما اتَّفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
كانت دعوته دعوةً حقّةً لكلِّ إنسان مسلم، مهما اختلفنا، إذ إنَّ أعداءنا يتربّصون بنا، وينشرون بيننا الكراهية، حتى ينجحوا في طريقهم، فقد استغلّ أعداؤنا فرقتنا وتنازعنا، ليزدادوا قوّةً، وينالوا من مقدَّساتنا وأراضينا.
كانت دعوته إلى التَّقريب بين المذاهب الإسلاميَّة الَّتي نادى بها أعضاء وكبار علماء السنّة من الأزهر الشّريف منذ سنين؛ الشّيخ شلتوت، والشّيخ مخلوف، والعلّامة محمَّد أبو زهرة، ومحمَّد المدني، والغزالي، وغيرهم.
وفي خاتمة حديثنا، لقد أثرى السيّد فضل الله المكتبة الإسلاميَّة بما هو نافعٌ وعصريٌّ، كما أثرى الواقعَ الإسلاميَّ بالرّؤى والاجتهاداتِ المناسبةِ للعصرِ.
إنَّنا محتاجون إلى الانفتاح على كلّ المذاهب الإسلاميَّة، وإلى التَّقريب بينها، حتى تكون الوحدة، وتكون القوَّة، وتكون الاستفادة، فإنَّ التّراث الإسلاميَّ هو من كلِّ المسلمين جميعاً، وينبغي أن يستفيد منه المسلم السنّي وغير السنّي، والّذي لا ينفتح على غير مذهبه، لا شكَّ في أنّه قد يخسر كثيراً من تراثه ومن اجتهادات علماء الإسلام.
*فيديو مسجَّل لسماحة الشّيخ جواد رياض منشور على قناة "يوتيوب"، بتاريح: 29 تشرين الثّاني 2021م.