قد نلتقي ـ في حياتنا العامَّة ـ بإنسانٍ يعرض قضيَّةً أو فكرةً أو ينقل واقعةً
من الوقائع، فلا يجد قبولًا لما يعرضه أو ينقله، بل قد يجد العكس من ذلك، رفضًا
وانتقادًا ومعارضةً.
وقد نلتقي بهذه القضيَّة، أو الفكرة، في حديث إنسانٍ آخر، دون زيادةٍ أو نقصانٍ،
فنُقبل عليها في طمأنينةٍ وراحةٍ وإذعانٍ.
وربَّما نشاهد بستانًا، يحوي في أرضه شتَّى الألوان والأصناف من الأشجار والأزهار،
فلا نستمتع به ولا ننجذب إليه، وإنَّما نمرُّ به مرورًا عابرًا، كما يمرُّ الإنسان
بأيِّ منظرٍ عاديٍّ، ولكنَّنا قد نمرُّ ببستانٍ آخر لا يختلف عنه في طبيعة ما يحويه،
وفي وحدة الموقع، فيلفت نظرنا ويستوقفنا، لنحسَّ فيه بالجمال يتجسَّد في كلِّ جانبٍ
من جوانبه، ونتلمَّس الرِّقَّة والسِّحر واللُّطف متناثرةً في أرجائه هنا وهناك.
وقد ندخل إلى دارٍ، فنجد مجموعةً من الأثاث والأدوات المنزليَّة منتشرةً في جوانب
المنزل، فلا تلفت نظرنا ولا تستثير اهتمامنا، بينما نجد المجموعة نفسها في دارٍ آخر
باعثةً على التَّأمُّل والملاحظة وسكون النَّفس وارتياحها، في شعورٍ عميق بالمتعة
والانشراح.
قد يلتقي الإنسان بالكثير من هذه النَّماذج في حياته، فيحسُّ بإحساسٍ مختلفٍ مع كلِّ
واحدٍ منها، وقد لا يلتفت إلى منشأ هذا الاختلاف، لأنَّ مثل هذا المنشأ غير منفصلٍ
عن ذاته، ولا بعيدٍ عن مشاعره وأحاسيسه.
فما هو؟
إنَّه ليس في الفكرة، ولا في المنظر، فالفكرة نفسها، في جمالها وقبحها، والمنظر
نفسه في حسنه أو رداءته.
فلم يبقَ إلَّا الأسلوب، فهو الَّذي جعلنا نتقبَّل الفكرة من شخصٍ، ونرفضها من آخر؛
فقد عرف الأوَّل كيف ينفذ إلى الوتر الحسَّاس الَّذي يضرب عليه، وأدرك مواطن
الضَّعف ومواطن القوَّة في حياة الآخرين الَّذين يستمعون إليه، فاستغلَّها في
الوصول إلى هدفه وغايته، بينما جهل الثَّاني كلَّ ذلك، وانطلق في وضعٍ معاكسٍ يسيء
إلى الفكرة، لأنَّه بعيدٌ عن روحها وجوِّها وخطِّها العامِّ.
وفي البيت والبستان، رأينا الذَّوق الجماليَّ يفرض نوعًا من التَّنظيم والتَّنسيق،
يُحبِّب المنظر إلى النَّفس، ويُكسبه رونقًا وروعةً، فيما يبدعه فيه من تناسقٍ بين
الأصناف، وانسجامٍ بين الألوان، بينما افتقدنا ذلك في المكان الآخر، لفقدان الذَّوق
الجماليِّ لديه.
إنَّه في الفكرة أسلوبُ العرض وطريقة الأداء، وفي البيت والبستان أسلوبُ التَّنسيق
والتَّنظيم.
إنَّنا نلتقي بالأسلوب في كلٍّ من الموقعين والحالتين، ولكنَّه أسلوبٌ جميلٌ في
أحدهما وقبيحٌ في الآخر.
ومن هذه الصُّورة الَّتي قدَّمناها، ندرك صلة الأسلوب بحياتنا، فهو لازمةٌ من
لوازمها الَّتي لا تنفصل عنها، بل تسير معها في كلِّ مجالٍ حتَّى النِّهاية؛ وهو
لذلك يتحكَّم فيها كما تتحكَّم الضَّرورات بنا في غمار الحياة.
إنَّه يبدأ مع الحقيقة عندما توجد وتنطلق لتأخذ مكانها في الحياة؛ لأنَّه الإطار
الَّذي تعيش فيه، والصُّورة الَّتي تبرز بها.
ولا تختلف الحقيقة ـ في حاجتها إلى الأسلوب ـ بين أن تتمثَّل في وجودنا الحسِّيِّ
الخارجيِّ، وبين أن تتمثَّل في وجودنا الفكريِّ الذِّهنيِّ؛ لأنَّ الأسلوب ليس
شيئًا منفصلًا عن وجودها، وليس ترفًا نستخدمه في سبيل نزوةٍ فكريَّةٍ أو حسِّيَّةٍ،
بل هو متَّصلٌ بطبيعة وجودها.. تمامًا كما يرتبط وجود المادَّة بالصُّورة.
وبهذه النَّظرة، نستطيع أن نتلمَّس الأسلوب في كلِّ وجهٍ من وجوه حياتنا؛ من البدء
حتَّى النِّهاية.. فبداية الحياة تخضع لأسلوبٍ خاصٍّ في وجودها، وطريقةٍ منظَّمةٍ
تتنوَّع حسب تنوُّع الأنواع والأجناس، فهي في الحيوان غيرها في النَّبات، وفي
النَّبات غيرها في الجمادات؛ فلكلِّ نوعٍ أسلوبٌ يخضع لأساليب معيَّنةٍ نتلمَّسها
في كلِّ لحظةٍ من لحظات حياتنا الَّتي نمارس فيها عمليَّة الوجود، والنِّهايةُ
كالبدايَّة في تنوُّع الأسلوب واختلافه.
وبهذه النَّظرة ـ أيضًا ـ نستطيع أن نتلمَّسه في المعاني الَّتي أراد الله لها أن
تتمثَّل في الحياة، لتشيع في وجودنا المرح والبهجة والسُّرور، فالجمال مثلًا، هذا
المعنى اللَّذيذ الَّذي يبعث في النَّفس الخدر، وفي الرُّوح النَّشوة، نحسُّ به
يتنوَّع حسب تنوُّع الحالات؛ فله أسلوبه الَّذي يتمثَّل فيه في فصول السَّنة، بين
وداعةٍ ناعمةٍ، وثورةٍ جامحةٍ، وبين نسيمٍ عذبٍ يبعث النُّعاس في الجفون، وعواصف
ثائرةٍ تُرعب الحياة في القلوب، وله أسلوبه الَّذي يتمثَّل ويختلف في الرَّجل
والمرأة.. وهكذا في سائر مجالات الحياة.
وإذا كانت للأسلوب هذه الصِّلة الوثيقة بالحياة، باعتباره يمثِّل الإطار لوجودها،
فمن الطَّبيعيِّ أن يؤثِّر في الصُّورة العامَّة لها؛ فقد يجني على الفكرة فيعطيها
لونًا قاتمًا بشعًا، وقد يرتفع بها فيُكْسِبُها نصاعةً وإشراقًا، بطبيعة صلة الإطار
بالصُّورة.
والدَّعوة إلى الله إحدى الحقائق والقضايا الَّتي تعيش في حياتنا، فتُشغل تفكيرنا،
وتهزُّ وجداناتنا، من أجل أن تأخذ مركزها الطَّبيعيَّ اللائق في واقعنا الَّذي
نعيشه، وفي أزمة الصِّراع العقائديِّ الَّذي نعانيه. فلا بُدَّ لهذه الدَّعوة من
أسلوبٍ تتمثَّل فيه ليُعَبِّر عنها ويميِّزها ويبلور شخصيَّتها، إلى جانب الدَّعوات
الأخرى الَّتي تملك شخصيَّةً معيَّنةً في مجالات الصِّراع.
وذلك هو الَّذي يفرض حاجاتنا الملحَّة إلى البحث عن أسلوب الدَّعوة؛ عن الخطِّ
العامِّ لهذا الأسلوب، عن النَّماذج التَّطبيقيَّة الَّتي تتمثَّل فيها روحه،
وتتجلَّى معها أصالته ومرونته...
*من كتاب "أسلوب الدَّعوة في القرآن".