[ورد عن الإمام عليّ (ع) ينهى عن صنع المعروف مع غير أهله: "وَلَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أَتَى إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ، وَثَنَاءُ الْأَشْرَارِ، وَمَقَالَةُ الْجُهَّالَ، مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وَهُوَ عَنْ ذَاتِ اللهِ بِخَيْلٌ" .
وجاء في الحديث عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، في وصيّته لولده: "اصْنَعِ الْمَعْرُوفِ إِلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ وَإِلَى مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِهِ، فَإِنْ أَصَبْتَ أَهْلَهُ فَقَدْ أَصَبْتَ، وَإِنْ لَمْ تُصِبْ أَهْلَهُ كُنْتَ أَنْتَ أَهْلَهُ".
فهل من تناقض بين رأي الإمامين؟]
الذي يبدو لنا ـــ من خلال المقارنة بين الكلامين ـــ هو اختلاف موضع كلّ منهما.
فالإمام عليّ (ع) ينطلق في كلمته الأولى من فكرة الإيحاء إلى الإنسان بضرورة اختيار بذل المال الذي يملكه في المواضع التي يقوّي فيها الخير، ويثمر فيها العطاء، بدلاً من المواضع التي تشجّع الشرّ، ولا تنتج أيّ نتيجة صالحة سوى ما يتزلَّف به المتزلّفون من كلام لا يجدي الباذل شيئاً.
فالكلمة تتّجه في اتجاه أولئك الذين يبخلون بأموالهم عن سبيل الله، ويبذلونها في سبيل الشّيطان طمعاً في المدح والثناء وما إلى ذلك.
ويشير إلى ما قلناه، كلمة الإمام في ختام الحديث: وهو عن ذات الله بخيل، ثمّ قوله: بعد ذلك: "فَمَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ، وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ، وَلْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَالْعَانِيَ، وَلْيُعْطِ مَنْهُ الْفَقِيرَ وَالْغَارِمَ، وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ، ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ؛ فَإِنَّ فَوْزاً بِهذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا، وَدَرْكُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ".
فنحن نلاحظ أنَّ الإمام (ع) يريد أن يقارن بين مواضع العطاء، ويفضّل جانب الخير على جانب الشرّ...
أمّا كلمة الإمام زين العابدين (ع) فإنّها توجّه الإنسان في اتّجاهٍ آخر، فتوحي إليه بأن يستثير طبيعة العطاء في نفسه، دون أن يلقي بالاً إلى طبيعة الإنسان الذي يعطيه؛ هل يستحقّ العطاء، على أساس الأعمال التي قدَّمها هذا الإنسان في مجتمعه ليستحقّ من خلالها تقدير المجتمع واحترامه، أو أنّه لا يستحقّ العطاء، لأنّه لم يقم بأيّ خدمة تؤهّله لذلك كلّه؟
وعلى ضوء ذلك، فإنَّ الفكرة التي تعالجها كلمة الإمام زين العابدين (ع)، هي أنّ على الإنسان في الحياة أن يعيش ـــ في داخله ـــ روح العطاء والبذل والخير للآخرين، بعيداً من الشعور بانطلاق العطاء عن عوض يقابله، تماماً كما تعطي الشّمس النّور، وكما يفيض الينبوع بالماء انطلاقاً من الطّبيعة الذاتيّة للعطاء.
ولعلَّ أقرب شيء إلى هذه الكلمة، الدعاء المأثور عن أهل البيت (ع): "اللَّهُمَّ إِنْ لَمُ أَكُنْ أَهْلا أَنْ أَبْلُغَ رَحْمَتَكَ، فَإِنَّ رَحْمَتَكَ أَهْلٌ أَنْ تَبْلُغَنِي وَتَسَعنِي، لأنَّها وَسِعَتْ كلَّ شيء، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمين" .
فالأهليّة وعدمها، هي أهليّة الاستحقاق على أساس العمل، لا أهليّة العطاء من حيث تقبّل العطاء بروح إيجابيّة واعية خيّرة.
خلاصة الحديث: أنّ الإمام عليّاً أمير المؤمنين (ع) ينهى عن صنع المعروف مع أهله ممّن يضرّهم أسلوب المعروف لفقدانهم الروح التي تتقبّله بوعي.
أمّا الإمام عليّ زين العابدين (ع)، فإنّه يطلب صنع المعروف مع أهله ومع غير أهله ممّن لا يستحقّون المعروف، لأنّهم لم يقدّموا شيئاً يمنحهم هذا الاستحقاق، ولكنّهم يتقبّلونه وينتفعون به إذا قُدِّم إليهم. وممّا يؤكّد هذا التّفسير، الحديث المرويّ عن الإمام زين العابدين (ع) في رسالة الحقوق: "وَأَمَّا حقّ مَنْ ساءَك فأنْ تعفو عنه، فإنْ رَأَيْتَ أنَّ العفو يضرّه انْتَصَرْت".
وهكذا، يلتقي الحفيد الكريم بالجدّ العظيم، في رسالة الخير والمحبّة والعطاء من أجل الحياة على أساسٍ متين من الوعي في ملتقى القِيَم.
* من كتاب "مفاهيم إسلاميّة عامّة".